الفيلسوف وخداع اللغة

الفيلسوف وخداع اللغة

لا يعطينا الفيلسوف معلومات جديدة، فالمعلومات نجدها في الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الإخبارية. ليس من عمل الفيلسوف، أن يزودنا معلومات أو أن يحكي لنا قصصا. وإن تقدم بمعلومات، فهذا يرجع إلى كونه إنسانا. إنه كائن اجتماعي يثرثر بما يثرثر به الناس من حوله أحيانا، لكنه يعود دائما إلى التمحيص. في حوارات جاك دريدا التي صدرت ترجمتها العربية في 2003 وأصبح عنوانها "ما الذي حدث في 11 سبتمبر؟"، سألت الصحافية الإيطالية جيوفانى بورودري الفيلسوف عن رأيه في "الحدث العظيم" فردّ عليها مباشرة، قائلا: "ألا يبدو لك هذا غريبا؟ أنت إيطالية وأنا فرنسي، لكنك عندما وصلت لمصطلح ’الحدث العظيم’ قلتِها بالإنكليزية!"

لقد نبّه الصحافية الإيطالية إلى أنها واقعة في حالة استلاب. اللغة يمكن أن تدير رأسك، فتقع في الانحياز دون أن تشعر، اللغة قد تهيمن على الفكر. مع أن دريدا لا يبدو خصما لأميركا كعادة المثقفين الفرنسيين الذين يخاصمونها ثقافيا طوال الوقت، بل وصل الأمر مع تيري ميسان إلى إنكار الكارثة التي وقعت على الأميركيين من أساسها وادعاء وجود مؤامرة أميركية في هذا الخصوص. دريدا لا يسير في هذا الخط. وإن كان يناقش علاقة أميركا بأوروبا وبالعالم العربي، وكيف أن الولايات المتحدة نصبت نفسها مدافعا عن القانون الدولي رغم أنها هي أول من يخالفه. ومع ذلك هو لا يتمنّى إضعاف أميركا لأن ضعفها سيؤدّي إلى ضعف كل خصومها. ولا يقف دريدا ضد العولمة رغم أنه يراها ذات حدّين، وأن أضرارها كثيرة مثل منافعها. هذا على ما يبدو موقفه من القضية بالجملة، وقد نعود في ما بعد لمناقشة أفكاره بإسهاب أكبر.

 الفيلسوف لا يحكي قصصا، بل يعلمنا المنهج الذي من خلاله يمكن أن نصل إلى الحقيقة إن كانت هناك حقيقة

ما ينبغي إثارته اليوم أن مثل هذه الأشياء الصغيرة الدقيقة لا ينتبه إليها إلا فيلسوف. هذه هي وظيفته الخالدة. إنه لا يحكي قصصا، بل يعلمنا المنهج الذي من خلاله يمكن أن نصل إلى الحقيقة، إن كانت هناك حقيقة.

لماذا جاء جوابه سريعا؟ لأنها قضية حاضرة على الدوام عنده. لقد تحدّث فلاسفة اللغة في القرن العشرين عن قضية الألاعيب اللغوية التي تفتعل مشكلات لا وجود لها على الحقيقة، ولأن قضية الفيلسوف هي فقط الحقيقة، فلا شك أنه على اطلاع على ما كتبه زملاؤه وأساتذته في هذا المجال، بل ساهم بكتاباته في هذا المجال. كيف يمكن أن تكون معلوماتنا صحيحة أو راجحة على الأقل؟ كيف يمكن أن نصل إلى شيء واللغة التي نستخدمها للتعبير عن أفكارنا تخادعنا؟ قضى عباقرة الفلاسفة قرونا وهم يتحدثون عن "الجوهر" حتى توصلوا في النهاية إلى أنه لا يوجد شيء اسمه "الجوهر". وقضوا وقتا طويلا وهم يتابعون أرسطو في أنه يملك "البرهان" حتى توصلوا أخيرا إلى أنه لا يوجد "برهان"، وأن ما يسمونه البرهان ليس سوى الحِجاج والسجال المتبادل، ولا شيء آخر.

لا يتوقف دريدا عند هذا بل ينتقل إلى هذه المفردة التي لا يتركها تمر مرور الكرام، "الحدث"، ليشرع في أداء عمله كشكوكي محترف ليقول إنه لم يكن هناك ثمة حدث يختلف عما يحدث في العالم، وبالتالي لا يصح أن نقول إنه "حدث" بهذا المعنى، بل هناك صيرورة مفتوحة لا يمكن التنبؤ بأحداثها.

أمر خداع اللغة لا يرجع فقط إلى نتاج القرن العشرين، بل إلى الفلاسفة الإغريق، خصوصا بريديكوس الذي اشتهر بتمييزه الدقيق بين معاني الكلمات، ويعتقد بعض الباحثين أنه كتب أطروحة بعنوان "صحة الأسماء" وكانوا يضربون المثل بدقته اللغوية بتفريقه بين الشجاعة والاندفاع والجرأة، فقد كتب في هذه المسألة ما يدل على عمق فهمه لفقه اللغة.

font change
مقالات ذات صلة