شباب في غزة ينقلون تجربة العيش داخل خيم النزوح

صورة مختلفة لا تخلو من طرافة

AFP
AFP
مخيم مؤقت للنازحين داخليًا في رفح، جنوب قطاع غزة في 27 مارس 2024

شباب في غزة ينقلون تجربة العيش داخل خيم النزوح

دأب شباب فلسطينيون منذ بداية الحرب على غزة في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، على استخدام منصات التواصل الاجتماعي لوصل معاناتهم بالعالم. فلا يقتصر دورهم على نقل صور أفظع عمليات القتل والضحايا، بل يضيفون بعدا جديدا إلى سردية الحرب من خلال نقل قصص النازحين وتقديم سرد خاص مختلف عن حياة المدنيين تحت الحرب. نشاهد عبر وسائل التواصل مقاطع فيديو تصوّر الخيم وتفاصيل الحياة اليومية. مئات المقاطع توثّق رحلة النزوح وتترافق دوما مع صوت الطائرة "الزنانة" - الطائرة من دون طيار - التي تراقب النازحين وتتابع خطاهم وتمنع عنهم الحدّ الأدنى من السكينة والهدوء.

واقع مختلف

يصور هؤلاء الشباب أنفسهم وعائلاتهم وواقع حياتهم. تتحول الكاميرا الشخصية إلى كاميرا اجتماعية راصدة، تخترق الصورة النموذجية للإعلام التقليدي. يصور كل فرد عائلته وأصدقاءه، وشكل الحياة داخل خيمة النزوح. دون تكلّف أو محاولة لتجميل الصورة. بعضهم يخلق دعابات وإسكتشات ساخرة تعبر عن صعوبة العيش، ويجيبون عن أشد الأسئلة غرابة من المشاهدين في التعليقات.

تتحول الكاميرا الشخصية إلى كاميرا اجتماعية راصدة، تخترق الصورة النموذجية للإعلام التقليدي

جمعة، صانع المحتوى، لا يتجاوز الحادية والعشرين عاما، يأخذنا في أحد مقاطع الفيديو في رحلة لمدة عشر ثوان تحت طلب المعلقين في خيمة النزوح التي لا تتجاوز مساحتها أمتارا قليلة، يخطو فيها كأنها بيته المعتاد، فلا يتذمر، بل يخاطب متابعيه كأنه يصحبهم في رحلة سياحية. وأحيانا يلجأ إلى السخرية والطرافة متجاوزا الشكوى أو التعبير الساخط. في مقطع آخر نرافقه في رحلته حينما وجد بيتا للإيجار. البيت المؤجر الجديد مصاب بقذيفة قسمته قسمين، لكن القسم الناجي من القصف يكفي العائلة التي تسمح له بأن يكون جزءا من طرح درامي بسيط لمقالب أو إسكتشات تسخر من واقع تأمين الحياة في ظلّ النزوح.

في مقطع آخر، يشتري بطتين ويعتني بهما على سطح المنزل، محاولا أن يتخيل أن البط أصبح حيوانا أليفا مساعدا له في تدبير شؤون الحياة. ملمح سوريالي يظهر من خلال قصص صغيرة تصور أيضا مدى القدرة على التأقلم في أصعب الظروف. يقودنا جمعة كل يوم في رحلة غريبة، أو تجربة جديدة، كأن يصنع طائرة ورقية لأخيه، أو يقوده في رحلة لشراء مثلجات محلية مصنوعة في غزة. جمعة تحديدا يُنشىئ سياقا دراميا كوميديا لأي فيديو يريد تصويره. المفارقة أن متابعيه يسألونه عن البطتين، وعن عائلته وينتظرون الفيديوهات بفارغ الصبر. 

محتوى مواز

صانع محتوى آخر يُدعى أبو راني، يقدم تجربته في النزوح، وفي زيارة الأسواق، وفي عرض نماذج عن أسعار السلع داخل الأسواق الناشئة في مناطق النزوح، يطهور الطعام الفلسطيني، وفي أحيان أخرى يطهو باستخدام أنواع المعلبات الآتية من شتى أنحاء العالم. المعلبات تصبح مواد أولية لصنع المأكولات وتصوير عملية الطهي وصعوباتها، وأحيانا يبرز المحتوى بوصفه محاكاة لتجريب المنتجات المختلفة التي يتلقاها النازحون بين حين وآخر. بخفة وبطرافة وبأقل الخيارات المتاحة، تُحضّر موائد الطعام باستخدام منتجات محدّدة، لأنه لم يعد يوجد سوق في غزة لتزوّد المواد الأساسية. لذا يصور المواد المتاحة ويتذوقها.

AFP
طفلان فلسطينيان يحملان أوعية أثناء سيرهم أمام خيم النازحين في مدينة خان يونس، جنوب قطاع غزة في 30 يونيو 2024

يصنع هؤلاء محتوى موازيا لما يقدّمه العالم خارج غزة بأقل الإمكانات وبما هو متاح. يحدث هذا كله على الأرض المليئة بالرمل أو داخل خيمة متواضعة أو داخل مطبخ مهدم. فالطبخ يحتاج نارا وماء وأدوات، فيتم تأمين كل هذا بصعوبة من أجل مشهد يسخر من العالم كله الذي يتغنى بهوس التجريب والتصوير للطعام وموائده ومنتجاته. هذا الهوس بالطعام وطبخه وتذوقه في العالم يحوله الفلسطينيون إلى معجزة في الطبخ بأقل المواد المتاحة، يتذوقون الطعام دوما أمام الكاميرا وقد يشكرون الدول التي أرسلت الطعام لزيادة التفاعل، وكثيرا ما يثمنون طبخ أمهاتهم بكل بساطة وعفوية. إنهم يقيمون توازنا مع العالم خارج غزة بطريقتهم، ويثمنون دور العائلة بطريقة سردية جديدة. فكل محتوى عن الطعام يكون جماعيا، وفيه من المعنى ما لا نعرفه نحن خارج غزة.

صانعة محتوى أخرى اسمها ديمة، تسرد عبر "يوتيوب" تفاصيل حياتها وجهدها اليومي للحصول على محاضرات عبر الإنترنت لتكمل تعليمها. وقد عرفنا من خلالها أن الكثير من الطلاب في غزة يكملون رحلتهم التعليمية إلى يومنا هذا، حيث لم توقف الحرب سبل الحياة وإرادتها عند الفلسطينيين. ديمة وثقت رحلة عائلتها بدءا من الخروج من المنزل، والنزوح من مكان إلى آخر، ووثقت كل حالة فريدة لجلب الماء أو الحصول على الطعام، أو حتى الجلسات المسائية لعائلتها مع عائلات فلسطينية أخرى. صفحة ديمة قديمة، وكانت تصنع المحتوى قبل الحرب، لكنها لم توقف الصفحة بل أدخلتها في تفاصيل الحرب.

تمنعك هذه الشابة من التوقف عن المشاهدة بطريقة أو بأخرى، فهي تقود مشاهدها خارج النطاق الزمني القصير لمقطع الفيديو، بل تتيح له متابعة تفاصيل كل رحلة لها، الدراسة، جلب الماء، محاولة الحصول على شحن للهاتف، أو طريقة تحميل الفيديوهات وصعوبة الوصول لبث على شبكة الإنترنت، وسهرات الفلسطينيين، والمخاوف التي يطلقونها في تلك السهرات.

سرديات جديدة وعالم ممكن

تتوالى الاقتراحات عبر "تيك توك" و"يوتيوب" لتجارب غزاوية تتسم بالبساطة والابتعاد عن تفاصيل العالم الغارق في الاستهلاك والمنشغل بنسق الحياة العادي. المقاطع التي نتابعها من المجتمع المحاصر تجعل نظرتنا الى حياة الفلسطينيين مختلفة ومدهشة، حتى بتنا نتعلق بالشخصيات التي تصنع المحتوى من داخل غزة وكأنهم نجوم شديدو الاختلاف والمعنى. الكثير من المتابعين أصبحوا ينتظرون المشاهد الآتية من هناك، من الأسواق التي تُفتتح في أي ساحة آمنة، وندرك تماما خبرات الحياة التي يكتسبها الفلسطيني في النزوح. التأمل الجمالي والواثق في الحياة والعالم، في عالم يسوده العنف. تُخلَق الطرافة أيضا فتتموضع الإرادة بأشكال مختلفة، والتلذذ بالجمال العفوي والبسيط الذي من الممكن خلقه رغم أصوات القتل المحيطة بهم.

نكتشف عبر الكاميرا بنية أنثروبولوجية للنزوح، من خلال رحلة صانعي المحتوى الفلسطينيين مع أهلهم وتراثهم وذكرياتهم التي تتسرب عبر المقاطع. هكذا تعرفنا الى العديد من الأغاني من خلال قيام صناع المحتوى بتجميع الأطفال حول الخيم والعزف لهم على طبلة صغيرة. كما شاهدنا كيف يتقاسم النازحون كل شيء. لوح شمسي واحد للشحن، وأصوات تحاول نفي هدير "الزنانة" فوق الرؤوس، أو حتى التعامل المستكين والهادئ مع الركام، والبحث داخل الركام عن أي شيء يمكن الاستفادة منه، "راوتر" شبه محطم، أو إناء قديم، أو أي قطعة منزلية صالحة للاستخدام في خيمة.

يكسر الفلسطينيون غربتهم عن العالم، وينتقلون من نمط العيش العادي إلى نمط قائم على جذور متينة، عبر سردية حياتية ممكنة ومقبولة وجميلة وتحمل طرافة وألما ينسل سردا وصورة وفكرة، بعبقرية من يعيش في العالم ويحتمله ويتقبله وهو يمتلك سرده عنه. شكل من الإرادة الفلسطينية يحاول الغزّيون سردها عبر فهمهم للعالم والتكيف معه، ضد أيّ سردية أحادية للموت أو النجاة، أو اختزالهم من وراء شاشات بعيدة. وبذلك ينجحون من قلب مأساتهم في صنع محتوى يخبر قصتهم، ويروي تجاربهم وتراثهم اللامادي، دون أن تكون المأساة هي الوجهة الوحيدة للتعبير، بل بأشكال لا تخلو من الطرافة في كثير من الأحيان.

يكسر الفلسطينيون غربتهم عن العالم، وينتقلون من نمط العيش العادي إلى نمط قائم على جذور متينة عبر سردية حياتية ممكنة

نتشارك من بعيد الحياة معهم، يخففون شعورنا بالعجز نحن الجالسين أمام نشرات الأخبار لنتلقى الرعب فقط، ونتعايش بقدر كبير مع حياة الفلسطينيين الغائبة عنا. فينجح هؤلاء الشباب في إدخالنا داخل سردهم وتعايشهم ويضعون لنا دورا متقدما في المخيلة وفي التقاط ملمح آخر عن الحياة التي يختبرونها، ويساعدوننا في فهم امتداد أوقاتهم وتجربتهم دون غلواء الانقطاع عن السرد، أو الاكتفاء بسرد واحد، سواء كان تلفزيونيا أو مكتوبا أو أيديولوجيا، فأصبح العالم يتواصل معهم دون وسيط يحدّد طريق الفلسطينيين ورؤاهم للحياة وخياراتهم في العيش والأمل.

font change

مقالات ذات صلة