غضب بنغلاديش... البطالة والفساد واختناق الاقتصاد

التمييز في حصص الوظائف الحكومية والاستبداد السياسي وقود الاضطرابات الاجتماعية

أ.ف.ب.
أ.ف.ب.
متظاهرون غاضبون يتجهون نحو مقر إقامة رئيسة الوزراء الشيخة حسينة التي استقالت وفرت من البلاد، في 5 أغسطس 2024

غضب بنغلاديش... البطالة والفساد واختناق الاقتصاد

تعود جذور الاضطرابات في بنغلاديش إلى تفاوتات اقتصادية عميقة على رغم النمو السريع للبلاد. بدأت الاحتجاجات بسبب حصص الوظائف الحكومية التي اعتبرها المتخرجون الشباب متحيزة وتميز بين الناس في اقتصاد يكافح لتوفير وظائف كافية. كذلك لم يستفد جميع المواطنين من الطفرة الاقتصادية التي قادها قطاع صناعة الملابس والبنية التحتية، مما أدى إلى انتشار الإحباط والفساد على نطاق واسع.

في الأشهر الأخيرة، اجتاحت بنغلاديش موجة من الاحتجاجات والعنف أسفرت عن مقتل ما يقرب من 300 شخص وأدت إلى استقالة رئيسة الوزراء الشيخة حسينة وفرارها من البلاد. بدأت الاحتجاجات كحركة ضد حصص الوظائف الحكومية، لكنها سرعان ما تطوّرت إلى صرخة أوسع ضد عدم المساواة الاقتصادية والفساد وتآكل الحقوق الديمقراطية. وبينما تُعتبَر الديناميكيات السياسية لهذه الاضطرابات حاسمة، لا تقل الأسباب الاقتصادية الكامنة أهمية في فهم عمق الأزمة واستمراريتها.

يُشَاد باقتصاد بنغلاديش كأحد أسرع الاقتصادات نمواً في العالم، وقد حقق إنجازات كبيرة في العقود الأخيرة. وباعتباره ثاني أكبر اقتصاد في جنوب آسيا، يحتل اقتصاد بنغلاديش المرتبة الخامسة والثلاثين عالمياً لجهة القيمة الاسمية، والمرتبة الخامسة والعشرين لجهة تعادل القوة الشرائية. لقد انتقلت البلاد من سوق طرفية إلى سوق ناشئة، إذ أصبحت عضواً في منطقة التجارة الحرة لجنوب آسيا ومنظمة التجارة العالمية.

صناعة الملابس الجاهزة جعلت من بنغلاديش قوة عالمية في تصدير المنسوجات، لكن لم يستفد منها الجميع

في السنة المالية 2021-2022، سجلت بنغلاديش معدّل نمو في الناتج المحلي الإجمالي بلغ 7.2 في المئة على رغم الجائحة العالمية، مما يؤكد مرونتها وأداءها الاقتصادي القوي. تدفع هذا النمو الاقتصادي عدة قطاعات رئيسة، بما في ذلك صناعة الملابس الجاهزة المزدهرة التي جعلت من بنغلاديش قوة عالمية في تصدير المنسوجات. كذلك تضمّ البلاد أكبر عدد من مصانع الملابس الخضراء في العالم، إذ حصل العديد منها على شهادة الريادة في تصاميم الطاقة والبيئة ("Leadership in Energy and Environmental Design - "LEED). وفي المقابل تشهد صناعة الأدوية في البلاد نمواً ملحوظاً، إذ تلبّي الشركات المحلية 98 في المئة من الطلب المحلي على الأدوية.

Shutterstock
بنغلاديش رائدة عالمية في صناعة الملابس وفيها العدد الأكبر من "مصانع الملابس الخضراء" في العالم

لكن على الرغم من هذه الإنجازات المثيرة للإعجاب، لا تتوزّع منافع النمو الاقتصادي في شكل عادل. تواجه البلاد تحديات كبيرة، ولا سيما في توفير فرص العمل لشبابها المتعلم. ويظلّ معدّل البطالة بين الشباب مرتفعاً في صورة مقلقة، إذ يعاني نحو 18 مليون شاب من البطالة في بلد يبلغ عدد سكانه 171 مليون نسمة. ويؤدي هذا التفاوت إلى زيادة الشعور بالإحباط وخيبة الأمل، ولا سيما في صفوف متخرجي الجامعات الذين يجدون أنفسهم مستبعدين من الطفرة الاقتصادية.

التمييز في حصص الوظائف

بدأت الاحتجاجات التي اجتاحت بنغلاديش بمطلب محدد: إلغاء حصص الوظائف في الخدمة المدنية. كانت هذه الحصص تخصص ثلث الوظائف الحكومية لأقارب المحاربين القدامى الذين قاتلوا في حرب استقلال بنغلاديش عام 1971. هذا النظام يُعتبَر على نطاق واسع تمييزياً ويثير الاستياء في شكل خاص في صفوف الشباب المتعلمين الذين يشعرون بأنه يحرمهم من فرص عمل منصفة. وعلى رغم أن الحكومة قلّصت في النهاية الحصص إلى خمسة في المئة بعد حكم أصدرته المحكمة العليا في خضم الاحتجاجات، كانت الأضرار قد وقعت بالفعل. وسرعان ما تصاعدت الاحتجاجات إلى حركة أوسع ضد الحكومة، يغذّيها الغضب من الصعوبات الاقتصادية والفساد وتقلّص الفضاء المتاح للتعبير الديمقراطي.

لم يتحوّل النمو إلى فرص عمل كافية، ولا سيما في القطاع العام. أما الاعتماد على صناعة الملابس فلم توفّر ذلك النوع من الوظائف التي يبحث عنها متخرجو الجامعات

يسلّط الجدال حول حصص الوظائف الضوء على مسألة حاسمة في اقتصاد بنغلاديش: التفاوت بين النمو الاقتصادي وتوليد فرص العمل. فعلى رغم تحقيق الناتج المحلي الإجمالي للبلاد معدّل نمو مثيراً للإعجاب، لم يتحوّل هذا النمو إلى فرص عمل كافية، ولا سيما في القطاع العام. أما الاعتماد على صناعة الملابس التي توظّف في شكل أساسي العمالة غير الماهرة، فلم يوفّر ذلك النوع من الوظائف التي يبحث عنها متخرجو الجامعات. في ضوء ذلك، تبلور وضع جعل جزءاً كبيراً من السكان إما يعاني من نقص العمالة أو البطالة على رغم حصولهم على المؤهلات التي تمكنهم من المساهمة في شكل كبير في الاقتصاد.  

أما الفساد فيُعَد مسألة مستمرة في بنغلاديش، وتحت إدارة الشيخة حسينة، أصبح محوراً للاستياء العام. ذلك أن اتهامات الفساد طاولت بعضاً من المسؤولين الحكوميين الكبار وحتى الموظفين لدى الأسر القريبة من رئيسة الوزراء. وزادت هذه الفكرة عن انتشار الفساد من الشعور بالظلم بين المواطنين العاديين الذين يعانون بالفعل من ارتفاع تكاليف المعيشة وقلّة الفرص الاقتصادية.

التداعيات السياسية... وفساد رئيس الشرطة

مثلاً، زادت من تفاقم الغضب العام، فضيحة الفساد المحيطة برئيس الشرطة السابق بينظير أحمد، الذي يخضع إلى تحقيق بتهمة جمع ملايين الدولارات بوسائل غير قانونية مزعومة. وبالنسبة إلى كثيرين من البنغلاديشيين، تؤكد هذه الفضائح أن النظام يمكن الأغنياء والأقوياء من جمع الثروات من دون عقاب، بينما يعاني معظم السكان في تلبية احتياجاتهم الأساسية. كان الإحباط من هذا التفاوت الاقتصادي دافعاً كبيراً للاحتجاجات، إذ يطالب الناس ليس فقط بالتغيير السياسي، بل أيضاً بتوزيع أكثر إنصافاً لثروة البلاد.

حفلت فترة حكم الشيخة حسينة بالاستبداد السياسي والفساد وقمع المعارضة والتلاعب بالانتخابات وتقويض المؤسسات الديمقراطية

على رغم أن الأسباب الاقتصادية للاضطرابات محورية لفهم الأزمة الحالية، لا يمكن تجاهل الأبعاد السياسية. كانت فترة حكم الشيخة حسينة مليئة بالاستبداد المتزايد، إذ اتهمها النقاد بقمع المعارضة، والتلاعب بالانتخابات، وتقويض المؤسسات الديمقراطية. قاطع الحزب الرئيسي المعارض، الحزب الوطني البنغلاديشي، انتخابات عامي 2014 و2024، زاعماً أنها زُوِّرت لصالح رابطة عوامي، الحزب الذي تتزعمه حسينة. ويؤدي غياب عملية ديمقراطية موثوق بها إلى شعور كثيرين من البنغلاديشيين بالتهميش، مما يساهم في الشعور الأوسع المناهض للحكومة.

إقرأ أيضا: صنع بأيدي الأطفال

كذلك غذّت الاحتجاجات، ردودُ فعل الحكومة القوية تجاه المعارضة. يُعتبَر استخدام الشرطة القوة المفرطة أثناء الاحتجاجات حول حصص الوظائف، وفرض حظر التجول على مستوى البلاد، وقطع الاتصال بالإنترنت، محاولات لإسكات المعارضة. ولم تؤدِّ هذه الإجراءات إلا إلى تعبئة الحركة الاحتجاجية، إذ طالب كثيرون باستقالة الرئيسة حسينة وتشكيل حكومة مؤقتة للإشراف على عودة الديمقراطية، وهذا ما حصل في النهاية. 

في المحصّلة، تشكّل الاضطرابات في بنغلاديش أزمة معقدة ومتعددة الأوجه، متجذّرة في التفاوت الاقتصادي العميق، وزادها حدة الاستبداد السياسي. وعلى رغم أن الشرارة الفورية كانت الجدال حول حصص الوظائف الحكومية، فالأسباب الكامنة أعمق بكثير. لم يكن النمو الاقتصادي السريع في البلاد شاملاً، مما أدّى إلى شعور فئات كبيرة من السكان، ولا سيما الشباب، بالتهميش والإحباط. وزاد الفساد وتآكل الحقوق الديمقراطية من حدة هذه المظالم، مما حفز حركة وطنية تطالب بالتغيير. ومع اجتياز بنغلاديش هذه الفترة العصيبة، سيكون التحدي هو معالجة هذه المسائل الاقتصادية والسياسية الأساسية لاستعادة الاستقرار وبناء مجتمع أكثر إنصافاً.

font change

مقالات ذات صلة