"الشعر هو الأهم، ولم أكتشف المعنى الحقيقي له، ولا أستطيع أن أقدم سوى شكوك"، يقول الشاعر الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس في كتابه "ست محاضرات" (ترجمه الراحل صالح علماني، 2019)، ثم يستطرد ويقول: الشعر "عاطفة ومنعة". كأنما هذا الفهْم، مرتبط أصلا بالرومنطيقية الفرنسية التي تذكر بلامارتين ورونسار، كأنما قوله هذا يفكك ما وراء اللغز، "إن هناك شيئا غامضا في الفن"، لكن ينتقل إلى معنى آخر للشعر: "هو التعبير عن الجمال بكلمات محبوكة بصورة فنية".
يضيف بورخيس عنصرا آخر هو "التلميح" الذي يوحي بالشيء، وتحتضنه مخيلتنا، وما يهيمن هو التعقيد السري للبيت الشعري، والاستعارة أكثر تعقيدا مما نظن، إنها أكثر تعقيدا مما نعتقد، فهي ليست مجرد مقارنة بين شيئين، بل إنها "جمع بين شيئين مختلفين، ترسمها المخيلة؟ ولا يكفي أن أقارن جمال امرأة بالقمر، بل أن أقارن بشيء متخيل، يتجاوز الصورة الواقعية". رأي بورخيس هذا يذكر بالسورياليين الذين كسروا مفهوم الاستعارة التقليدية، وقبلهم الدادائية التي دمرت كل العلاقات والبلاغات التقليدية، وجعلت كل إنسان شاعرا.
لكن وعلى الرغم من أن بورخيس ظل محافظا في مسألة الشعر والنثر فقد رأى أن كتابة الشعر الحر أصعب من كتابة ما هو موزون، والأشكال الكلاسيكية الشعرية أسهل، لأنه ما إن يكتب الشاعر بيتا منضويا ويشعر كاتبه بالرضى، بعد خضوعه لقافية معينة، ربما لأن القوافي لانهائية، فإن العمل يُصبح أسهل، ويقول "المهم أصلا هو ما وراء بيت الشعر".
رأى بورخيس أن كتابة الشعر الحر أصعب من كتابة ما هو موزون والأشكال الكلاسيكية الشعرية أسهل
هنا بالذات يلتقي مع الرمزيين الذين يُوحون بالصورة المركبة أو "التراكيب اللغوية" كما نجدها عند بول فرلين الذي يغمر القارئ بالحالات والمتعة الإيقاعية. ونلمس تأثير السوريالية والرومنطيقية والرمزية والعاطفية والذهنية على بورخيس، فهل هي أجزاء تكون "تعريفا" بالشعر. بورخيس ينفي ذلك: "أعتقد أن كل النظريات الشعرية مجرد أدوات لكتابة القصيدة. افترض أنه لا بد من وجود معتقدات كثيرة بقدر ما هناك أديان أو شعراء".
أما في محاضرته "موسيقى الكلمات والترجمة"، فيقول "بحسب خرافة متجذرة وسائدة إن كل ترجمة هي خيانة لأصل فريد، يناقش إمكان أو استحالة الترجمة الشعرية، معتبرا أن الموسيقى من أساسيات القصيدة، متأثرا بذلك بقصيدة الشاعر الفرنسي بول إيلوار بعنوان "الموسيقى هي قبل كل شيء في الشعر".
لكن بورخيس يخص الشعراء الفرنسيين بنقد لاذع: "إن خطأ الأدب الحديث هو امتلاكه كثيرا من وعي ذاته، لذلك أعتقد أن المؤلفين الفرنسيين عموما واعون كثيرا لذواتهم، فأول ما ينقله الكاتب الفرنسي هو تحديد نفسه حتى قبل أن يعرف ما سيكتبه مثلا: كاثوليكي مولده، أو اشتراكي ميله! من هذه المقاطعة أو تلك، أو كيف علينا أن نكتب بعد الحرب العالمية: "فأنا لا أريد أن أكون كاتبا جنوبيا وإنما أحاول نقل الحلم، لا أحاول تجميله ولا حتى تزويقه".
أي أن الفرنسيين يريدون تعريف الشعر بنظريات جاهزة، أو هُويات سابقة للتجربة، مثل السورياليين والدادائيين (وكذلك تفرعات الرومنطيقية)، وكأنه يقول إن هذه "القوالب" تمس حرية التجربة الشعرية وتقننها وتؤسلبها، بحيث تصبح أحيانا سلوكا جماعيا تتناسخ فيه التجارب، على نقيض الفردية الشعرية، التي ترفض الأسلبة العمومية. بل كأنه يقول إنهم يعرفون الشعر، بكذا وكذا، والشعر خارج أي تعريف، فتعريفه يكسر فضاءاته اللانهائية. فلكل شاعر خصوصيته وتجربته خارج أي تصنيف. فتعريف الشعر كمن يعرف الماء بالماء… فهو النسبي لا المطلق.
على الرغم من كل شيء، فإن بورخيس الذي يرفض كل معتقد للشعر، وتصدى لمدارسه، قد استفاد من هذه المذاهب، من السوريالية في تحديده للاستعارة، والرومنطيقية في اعتبار الشعر تعبيرا عن الجمال، وقبله الشعر متعة وعاطفة، وبعد ذلك الشعر تلميح لا مباشر، والغريب أن نكتشف أن عظَمَة بورخيس ليست في منظومه الشعري بل في نثره الغني بالمخيلة والحلم والأساطير واللغة المفتوحة على احتمالاتها القصوى، لكنه بقي، على الرغم من انفتاحه الجزئي على مختلف المذاهب "الثورية" في اللغة وفي أدوات التعبير، كلاسيكيا متجانسا في كتاباته وشفوياته، دون الوقوع في الترداد، سواء في بنياته الشكلية أو في ابتكاراته الأسلوبية.
الغريب أن نكتشف أن عظَمَة بورخيس ليست في منظومه الشعري بل في نثره الغني بالمخيلة والحلم والأساطير
وهنا نشير إلى أنه، على الرغم من فرادته وشهرته العالمية، لم ينل جائزة نوبل كشاعر أرجنتيني كبير، لأسباب سياسية، فهو اتهم بتأييده الجنرال الطاغية بينوشيه وقد غذى بعض الروائيين والكتاب هذه التهمة لإبعاده عن نوبل. وأظن أخيرا أنني أفضل بورخيس على ماركيز الذي حصد نوبل، في الوقت الذي أسفَ كثيرون من الأدباء على إبعاد بورخيس عنها، وهو الأكبر بين الكبار.