جولة في ضاحية بيروت الجنوبية: أي ساعة تبدأ الحرب؟

ينتظر سكان الضاحية حربا تهب عليهم من جهة ما

رويترز
رويترز
تشييع القائد العسكري في "حزب الله" فؤاد شكر في 1 أغسطس، بعد مقتله في غارة إسرائيلية

جولة في ضاحية بيروت الجنوبية: أي ساعة تبدأ الحرب؟

الدخول إلى الضاحية الجنوبية لبيروت هذه الأيام، مغامرة محفوفة بالتوتر. ينبهني صديقي الذي تبرع بمرافقتي، لمعاينة الأجواء العامة وأحوال الناس، بعد الاغتيال الذي استهدف المسؤول العسكري في "حزب الله" فؤاد شكر في حارة حريك.

الأحاديث عن احتمالات نشوب حرب مدمرة في المنطقة، بين إسرائيل ورعاتها من جهة، وإيران وأذرعها العسكرية من الجهة الأخرى، عقب الاغتيال الأول في عاصمة "حزب الله"، والاغتيال الثاني الذي استهدف رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" في العاصمة الإيرانية طهران إسماعيل هنية، تتفوق على هموم الناس ومشاغلهم، والضاحية كلها تردد السؤال ذاته: أي ساعة تبدأ الحرب؟

منطقة حارة حريك التي تعتبر في قلب الضاحية الجنوبية لم تكن كعادتها مزدحمة بالناس والسيارات، المبنى المستهدف معزول عن محيطه بطوق من الحراسة الحزبية، وقد تحول بسرعة إلى معلم سياحي أو "جهادي" بلغة أهل "المقاومة"، لكثرة الزوار والقاصدين والمارة الذين يتوقفون عنده بداعي إظهار الدعم والولاء أو الفضول أحيانا.

قائمة الصحافيين الذين يحق لهم التصوير أو نقل الوقائع، مختصرة جدا، "العيون" تنتشر في كل مكان لمراقبة أي غريب يتسلل، اقتفاء لمعلومة صحافية أو حديث مع الناس، والتوتر يتسيد المكان، ويظهر على الوجوه وحركة الأجساد وردود الفعل، حتى لو كان السؤال من أين الطريق؟

لذلك، لا يمكن إجراء مقابلة مع أحد، ولا التوسع في التحري أو المعاينة، ولولا وجود أشخاص موضع ثقة، يمكن الوصول إليهم، والحديث معهم، لكانت المهمة مستحيلة بالكامل.

رويترز
صورة في 30 يوليو، للمبنى الذي قتل فيها القائد في "حزب الله" فؤاد شكر بعد غارة إسرائيلية

لا يخفى على أحد أن الضاحية تعيش أيامها الحالية بانتظار الحرب، وهذا أصعب من الحرب نفسها، يقول أحد السكان (دائما دون ذكر الأسماء) إن "من تبقى من الناس في الضاحية يعيشون حربا نفسية مدمرة، فانتظار نشوب الحرب، يقيد الحياة والحركة ويقضي على الأعصاب".

منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول، ينتظر سكان الضاحية حربا تهب عليهم من جهة ما، لكن احتمالاتها ارتفعت كثيرا بعد عملية الاغتيال الأخيرة، وصارت جدية بعدما كانت مجرد توقعات على هامش الحرب على الحدود الجنوبية، ورغم أنهم على ثقة بأن "حزب الله" يملك قوة ردع تجعل إسرائيل تحسب حسابها ألف مرة، قبل أن تتهور باستفزازه، لكنهم في الوقت نفسه، يعترفون بأن إسرائيل تتغلب على كل دول "المحور" بقوتها الجوية، والحرب على الضاحية ستبدأ من السماء، فضلا عن أنها مكتظة بالسكان، وهذا معناه أن ضربة قاسية ما، ستوقع عددا كبيرا من الأرواح، وستكون خسائرها باهظة جدا.

لا يخفى على أحد أن الضاحية تعيش أيامها الحالية بانتظار الحرب، وهذا أصعب من الحرب نفسها

يروي لنا أحد الذين التقيناهم أن الضاحية في الساعات الأولى بعد اغتيال شكر، خلت تقريبا من سكانها، ساد الرعب والهلع ونشط الفرار ولو إلى جهات مجهولة، وكان بالإمكان رؤية السيارات تخرج مواكب من مداخلها الأربعة باتجاه المناطق الآمنة، في اليوم التالي عاد من لديهم مصالح اقتصادية وأعمال، لكن الكثير من العائلات فضلت عدم العودة، واضطر البعض منها أن يقصد مناطق الجنوب اللبناني، هربا من "الموت تحت ركام المباني"، رغم خطورة الوضع هناك.
ومن يعرف اكتظاظ الضاحية وزحامها، يعرف أن الطريق من مدخل الضاحية لجهة المجلس الشيعي إلى حارة حريك، لا يمكن عبورها في الأيام العادية، في أقل من ثلاثين دقيقة بالسيارة، رغم أنها لا تتجاوز الكيلومتر الواحد، لكننا قطعناها في دقائق معدودة، ورغم مرور بضعة أيام على الاستهداف، لم تعد المنطقة بعد إلى طبيعتها، وما زال وقع المجزرة التي أودت بحياة خمسة مدنيين، يتردد صداه في القلوب والنفوس.
الضاحية كلها، وليس حارة حريك وحدها، شبه خالية بالفعل، الناس تقلقهم الحرب، ليس خوفا من الموت فحسب، فللنجاة هواجسها أيضا، يقول أحدهم: "إذا مت أنا وعائلتي أهون عليّ من الهروب، إلى أين سنهرب؟ نحن لسنا على وئام مع بقية اللبنانيين، انغلقنا على ذاتنا وتقوقعنا في مناطقنا ولم نعد نملك ميزة العيش مع الآخر، هذا عدا أن ما يهم اللبنانيين كلهم، لم يعد يهمنا، قضايانا غير قضاياهم، على سبيل المثال، أمس في ذكرى تفجير مرفأ بيروت، لم يشارك أحد منا، أو ما نمثله، بهذه الذكرى الأليمة، لذلك ليس مستبعدا أن لا يشاركنا أحد من اللبنانيين آلامنا". 

 أب
دخان يتصاعد من قرية لبنانية جنوبية كما ظهرت من الجولان في 4 اغسطس

ورغم هذه الأجواء المتشائمة، عثرت على متفائلين، باعتقادهم أن الحرب ما زالت بعيدة، وأن إيران سترد بطريقة غير مؤذية، كما هو معتاد.
تستند هذه الفئة في تكوين رأيها، إلى تصريحات دبلوماسيين أميركيين وإيرانيين، لا تظهر فيها نية صريحة لخوض حرب شاملة، بل توسيع دائرة "قواعد الاشتباك" أكثر قليلا مما هو متفق عليه. 
وهناك آخرون يرون أن إيران و"حزب الله"، لا يملكان الشجاعة على الرد بالمثل على إسرائيل، فالأخيرة تصطاد قادتهم في لبنان وسوريا والعراق وإيران منذ السابع من أكتوبر، ولا يحركون ساكنا، بغض النظر عن الاستعراض الصاروخي الذي قدمته إيران بعد استهداف قنصليتها في دمشق، لذلك ستسري القاعدة على الاغتيالين الجديدين.
هناك رأي عام شيعي، يرى أن رد فعل "محور المقاومة" على الإبادة الجماعية، التي تمارسها إسرائيل في غزة منذ عشرة أشهر، أتى سلبيا ومخيبا للآمال، فلم توقف "حرب الإسناد" المجزرة الدائرة هناك، وكذلك لن يغير اغتيال شكر وهنية الموازين لصالح حرب شاملة. 
أما خطاب الأمين العام لـ"الحزب" حسن نصر الله بعد اغتيال شكر، برغم التبجح وتكرار عبارات التهديد والوعيد، فلم يختلف كثيرا عن خطاباته السابقة منذ بداية حرب غزة، ورغم حديثه عن الانتقام، فإنه عمليا لم يهدد بتوسيع الصراع. 

هناك رأي عام شيعي يرى أن رد فعل "محور المقاومة" على الإبادة الجماعية، التي تمارسها إسرائيل في غزة منذ عشرة أشهر، أتى سلبيا ومخيبا للآمال

لذلك، رغم الضربات التي تلقاها المحور، يبدو أن القواعد التي تحكم المواجهة مع إسرائيل لن تتغير، أما التصريحات الإعلامية بعد كل استهداف بأنه "لن يبقى بلا عقاب"، فباتت تعطي المعنى نفسه لعبارة "في الزمان والمكان المناسبين"، وبحسب أدبيات هذه الحرب، فإن الرد لن يتخطى "قواعد الاشتباك". 

 رويترز
قاعة المغادرة في مطار بيروت في 5 اغسطس

الواقع يقول إن أهل الضاحية، رغم كل التحليلات والتوقعات وحتى التطمينات، خائفون من الحرب، من الآلة الحربية الإسرائيلية التي لا تفرق بين مدني وعسكري، ومن شركائهم في الوطن أيضا، فعدا "جبل الدروز (جبل لبنان) وجماعة وليد جنبلاط ليس لدينا ملجأ ولا صديق"، كما يقول أحدهم.
وبعيدا عن الأعمال العسكرية، ستؤثر الحرب بطبيعة الحال على الأوضاع الاقتصادية، المنهارة أصلا في لبنان، يقول أحدهم إن "المواطنين الذين قرروا البقاء في الضاحية، لم يتخذوا هذا القرار بدافع الوطنية أو الصمود أو التمسك بالأرض، إنما لأنهم لا يملكون الأموال الكافية للإنفاق على التهجير، هم صامدون غصبا وبقوة الفقر والحاجة، تعلمنا من التاريخ أن الفقراء عادة، هم وقود الحروب". 
من ناحية أخرى، يعتقد مقاتل سابق في "المقاومة الوطنية"، أن إيران وشريكها "حزب الله" والمحور كله، يميلون إلى الحرب غير المتكافئة، التي تعني حرب العصابات، أي تنفيذ عمليات سريعة ومحدودة وإطلاق صواريخ على أهداف محددة، إن لم نقل في أماكن مفتوحة وخالية، وقد تتضمن جديدا متوقعا، أي اختراق محدود للحدود، أي عملية 7 أكتوبر صغيرة، وقد تحدث صدمة نفسية وأمنية للإسرائيليين، وتربك إسرائيل وتجبرها على رفع مستوى الصراع.

font change

مقالات ذات صلة