اللبنانيون يستعدون للأسوأ... و"الضاحية" تستعيد أجواء 2006

نزوح محدود والإيجارات تشتعل في "المناطق الآمنة" وتخزين مواد غذائية

رويترز
رويترز
لبنانيون قطعوا إجازاتهم الصيفية وسط إرباك كبير في تبديل الحجوزات والمواعيد

اللبنانيون يستعدون للأسوأ... و"الضاحية" تستعيد أجواء 2006

أعادت التطورات الامنية الأخيرة في لبنان، الضاحية الجنوبية لبيروت، إلى مسرح الاحداث والإهتمام الإعلامي والسياسي العربي والدولي، وباتت البلدات العشر التي تتشكَّل منها عند جنوب العاصمة اللبنانية، والتي تشبه مدينة مترامية ومكتظة، تحت مجهر المراقبة والمتابعة، خصوصا بعدما اغتالت إسرائيل من يُعتَبَر وفق التسلسل الهرمي، قائد جيش "حزب الله" والمسؤول العسكري والميداني الأول فيه، فؤاد شكر، في وقت يخوض الحزب "حرب المشاغلة" دعماً لغزة من جنوب لبنان.

يلتبس لدى بعض اللبنانيين والعرب الوضع الجغرافي للضاحية الجنوبية، فيخالونها مدينة واحدة ملاصقة للعاصمة بيروت، تضم عند أطرافها الغربية مطار رفيق الحريري الدولي، وعدة مؤسسات رسمية وخاصة. فيما حقيقة وضعها الإداري أنها تجمع لبلدات وقرى تابعة لقضاء بعبدا في محافظة جبل لبنان، محا معالمها الريفية التقدم العمراني والمديني، بعدما أمّها بكثرة منذ أوائل الستينات من القرن الماضي، العمال والمياومون الشيعة، النازحون من مختلف قرى وبلدات الجنوب اللبناني والبقاع، طلبا للرزق والعمل.

أربعة عقود من المآسي

وهذا ما منح الضاحية وجها ديموغرافيا ومذهبيا شبه موحد، لتتحول بفعل ذلك، في العقود الثلاثة الأخيرة إلى معقل سياسي وأمني للثنائية السياسية الشيعية، المتمثلة في "حركة أمل" و"حزب الله"، ولتصير بحكم هذا الواقع، أحد أبرز الرموز الجغرافية التي تحتضن الأذرع السياسية والأمنية والإعلامية لـ"حزب الله"، والملجأ الموثوق به لقادته وكوادره.

العابر في شوارع الضاحية الجنوبية لبيروت خلال اليومين الأخيرين، يدرك أن الحياة اليومية والإجتماعية فيها مربكة وغير مستقرة على الرغم من أن المؤسسات والمحال التجارية لم تقفل ابوابها حتى الساعة

من هنا كانت الضاحية على الدوام في عين العاصفة، وعرضة للإستهداف والخطر، ولم تحد عنها المآسي الأمنية والحروب والاغتيالات طوال العقود الأربعة الأخيرة، وآخرها -لا أخيرها ربما- اغتيال المسؤول العسكري الأول في "حزب الله" فؤاد شكر، الذي أشعل استهدافه، مترافقا مع اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران، التهديدات المتبادلة بين "حزب الله" وإيران من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، ووضع المنطقة برمتها على فوهة حرب مفتوحة.

إقرأ أيضا: الرابع من أغسطس... و"دوامة الضربات"

وهذا ما أعاد إلى هواجس اللبنانيين ونفوسهم أجواء الحذر والترقب، والخوف من المجهول الذي خبروه جيدا، ودفعهم الى التحوط ما أمكن غذائيا وصحيا وأمنيا وحتى سكنيا، والإستعداد إلى الأيام المقبلة، التي تشي التهديدات المتبادلة، بأنها ستكون قاسية من حيث حجم العنف الذي قد يرافقها،  والدمار الذي قد ينجم عنها.

EPA
مبانٍ متضررة في موقع غارة إسرائيلية على قرية شمع، جنوب لبنان، قالت وسائل إعلام رسمية لبنانية إن أربعة مواطنين سوريين على الأقل قُتلوا وأصيب خمسة مواطنين لبنانيين خلالها في 1 أغسطس/آب 2024

العابر في شوارع الضاحية الجنوبية خلال اليومين الأخيرين، يدرك أن الحياة اليومية والإجتماعية فيها مربكة وغير مستقرة على الرغم من أن المؤسسات والمحال التجارية لم تقفل ابوابها حتى الساعة. ولكن الحركة والنشاط الإقتصادي مقتصران على الضروريات اليومية من مأكل ومشرب، إذ يعمل الجميع على وقع تطورات الميدان الجنوبي، ويخططون لغدهم وفق أجندة التصعيد المتبادل بين "الحزب" وإسرائيل، وبناء على ما يتسرب إلى الإعلام أو ما يُبث من معلومات وتقديرات، بعضها منطقي وبعضها يجافي بالمطلق العلوم العسكرية والسياسية.

استقرار نسبي في بقية المناطق

تختلف مشهدية الأسواق في الضاحية وحركة الأعمال فيها، عن مثيلاتها من المناطق اللبنانية الأخرى، التي تنعم باستقرار نسبي، مرده إلى ثقة مفترضة بأنها ستكون خارج مسرح العمليات العسكرية، وبأنها خارج بنك أهداف الطيران الإسرائيلي وصواريخه، بالإضافة إلى خلوِّها من مراكز ومؤسسات تابعة لـ"حزب الله".

أين سيكون الرد ومتى؟ وماذا سيترتب على لبنان عموما دفعه، والضاحية الجنوبية خصوصا تقديمه، بعدما قضى الإنهيار الإقتصادي والنقدي على كل مقومات الصمود الإقتصادي لدى اللبنانيين؟

تختلط مع الوجوم البادي على وجوه التجار، نقاشات هامسة حول تأثير عملية الاغتيال تلك على الجسم العسكري لـ"حزب الله"، وحول حجم الرد المطلوب لإستعادة المبادرة، وإعادة شحن المعنويات والنفوس بمصل الثقة المفرطة التي يمنحها سكان الضاحية الجنوبية لـ"حزب الله" وقيادته. الوعد بالرد القاسي على إسرائيل، الذي أطلقه الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله، أزال عن الوجوه كآبة الصدمة، لكنه أعاد ترتيب الأسئلة وفق الاولويات: ماذا بعد الاغتيال؟ متى يكون الرد؟ وكيف يكون؟ وما هو  حجمه؟ ومن أكثر الأسئلة إلحاحا: أين سيكون هذا الرد؟ وماذا سيترتب على لبنان عموما دفعه، والضاحية خصوصا تقديمه، بعدما قضى الإنهيار الإقتصادي والنقدي على مجمل مقومات الصمود الإقتصادي لدى اللبنانيين؟

أ.ف.ب.
أحد شوارع الضاحية الجنوبية لبيروت بالقرب من موقع اغتيال نائب رئيس حركة "حماس" صالح العاروري في 3 يناير/كانون الثاني 2024.

ثمة هاجس وخوف عميمان من تكرار تجربة 2006، ذلك أن الجميع يستحضرون الأضرار الهائلة التي أصابت البنى التحتية والمساكن في الضاحية، والأسواق التي بقيت مشلولة لمدة طويلة، والخسائر الفادحة التي مني بها القطاعان التجاري والصناعي هناك، إلى الأرواح التي أزهقت.

أكلاف النزوح وتخزين المواد الغذائية

لا نزوح في الجملة من الضاحية حتى الآن لاعتبارات عدة، منها أن الخروج إلى حيث مسقط الغالبية الساحقة من السكان، في الجنوب الملتهب، أو في البقاع المقصوف بتقطع، كـ"المستجير من الرمضاء بالنار". أما الخروج إلى المناطق الأخرى الآمنة، في بيروت وكسروان والشمال، فدونه أكلاف باهظة، علما أن معظم أهالي الضاحية هم من الفقراء أو متوسطي الدخل والحال.

للمزيد إقرأ: مغزى الضربتين الإسرائيليتين في بيروت وطهران

أما من استطاعوا الى النزوح سبيلا، وقيض لهم الخروج بناء على نصائح "موثوق بها"، فقد آثروا الانتقال موقتا داخل مناطق جبل لبنان وخصوصا القرى والمنتجعات الجبلية، إلى حين تتضح مآلات الأمور. لكن هؤلاء واجهوا ارتفاعا كبيرا في بدلات الإيجار، حيث أفيد عن ارتفاعها أكثر من 100 في المئة مع اشتراط الدفع المسبق، وألا تقل مدة الاقامة عن 6 أشهر.

يكمن التخوف من احتمال نشوب حرب شاملة، يتحول فيها الصراع إلى لعبة إقفال المنافذ البرية والبحرية والجوية، لممارسة الضغوط من جهة، وقطع سبل الإمداد العسكري من جهة أخرى

توازيا مع ارتفاع منسوب احتمال اندلاع الحرب على لبنان، وتمددها أكثر في الإقليم، بدأ اللبنانيون ممارسة ما يجيدونه في الأزمات باحتراف، فراح معظمهم يخزنون المواد الغذائية والاستهلاكية والأدوية، والغاز المنزلي، على الرغم من تأكيد المعنيين في الدولة، أن حاجة البلاد من المستوردات الغذائية، والمواد الأولية لتصنيع بعضها، متوافر لدى التجار والصناعيين بكميات تكفي حاجة السوق ما بين شهرين إلى ثلاثة أشهر.

أ.ف.ب.
رواد بعض المطاعم في وسط بيروت خلال عطلة نهاية الأسبوع، 2 أغسطس/آب 2024

بيد أن التخوف يكمن من احتمال نشوب حرب شاملة، يتحول فيها الصراع إلى لعبة إقفال المنافذ البرية والبحرية والجوية، لممارسة الضغوط من جهة، وقطع سبل الإمداد العسكري من جهة أخرى، ولهذا ثمة قلق رسمي وشعبي، حيال إمكان استمرار عمل مطار بيروت الدولي وبقية المرافئ اللبنانية، مما يعني تعذر وصول البضائع، وانقطاع شريان الاستيراد، والتوقف عن تزود المحروقات، وتحديدا المازوت وهي مادة اساسية لإستدامة الإنتاج الصناعي اللبناني.

الأدوية والمحروقات والمستشفيات

في هذا السياق، طمأن رئيس لجنة الطوارئ الحكومية، وزير البيئة ناصر ياسين، أن المخزون الاستراتيجي من المحروقات والأدوية والمواد الغذائية مؤمّن في حال اتساع رقعة الحرب، وخصوصا المحروقات لنحو 4 أسابيع. فيما طمأنت نقابة مصانع الأدوية في لبنان، إلى أن مصانع الأدوية اللبنانية هي على جهوزية تامة، لأي حالة طوارئ قد يشهدها الوطن، وهي على استعداد للعمل ليلاً ونهاراً لتأمين حاجة السوق اللبنانية من الأدوية الأساسية والمزمنة، ومن الأمصال المنتجة في المصانع اللبنانية، التي تؤمّن 100 في المئة من حاجة المستشفيات.

علما ان أدوية الأمراض المزمنة متوافرة بما يكفي في الصيدليات، وتمتلك الشركات مخزوناً كافياً لخمسة أو ستة أشهر، أما أدوية الأمراض المستعصية والسرطانية، فهي مدعومة من الدولة، وغير موجودة في الصيدليّات، لكنها غير متوافرة حاليا بما يكفي، مما قد يفاقم المشكلة مع الوقت.

فيما يبدو خطر انقطاع الاتصالات والانترنت مستبعدا لاعتبارات عدة، فإن سيناريو الحصار، وما يستتبعه من فقدان لمادة المازوت، على غرار ما حدث في 2006، قد يصبح قائما، مما سيؤدي عمليا إلى توقف السنترالات ومحطات الإرسال عن العمل

أما في مقلب المستشفيات، فثمة خطة طوارئ معتمدة، ومنسقة بين الدولة والجيش اللبناني والقطاع الإستشفائي، وتقضي بأن تكون المستشفيات في حالة تأهّب كاملة وجهوزية عالية، بما يجعلها تمتلك المخزون الكافي من المواد والمستلزمات الطبية اللازمة لمصابي الحروب، وهو تدبير بديهي في هذه الظروف.

أ.ب.
فرقة الرقص النسائية اللبنانية العالمية "ميّاس"، أقامت أول حفل لها في بيروت في 1 أغسطس/آب وهي فازت عام 2022 في برنامج "America's Got Talent"

أما إذا كانت الضربات الإسرائيلية المحتملة في لبنان شبيهة بما يحصل في غزة من حيث انتهاك القوانين والإتفاقات الدولية، واستهداف المستشفيات باعتبارها أهدافا عسكرية، "فلا حول لمستشفيات لبنان ولا قوة"، لكن إذا كانت العمليات الحربية شبيهة بحرب تموز 2006 فمستشفيات لبنان قادرة على استيعاب الجرحى، والتعامل بمهنية مع الحالات الصحية الطارئة، وفق نقيب المستشفيات سليمان هارون.

وفيما يبدو خطر انقطاع الاتصالات الهاتفية والانترنت مستبعدا لاعتبارات عدة، فإن سيناريو الحصار قد يصبح قائما، بما يستتبعه من فقدان لمادة المازوت، على غرار ما حدث إبان حرب تموز/يوليو 2006، مما سيؤدي عمليا إلى توقف المولدات الكهربائية التي تغذي السنترالات ومحطات الإرسال.

font change

مقالات ذات صلة