تعود الانطلاقة الفعلية التي شكلت ثورة لهذه الرياضة، إلى بداية العقد الماضي، وهي الفترة نفسها التي مثلت بداية طفرة عالم الإنترنت وتوسعه من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. حينذاك، كانت هذه الرياضة مجرد ألعاب إلكترونية يمارسها الملايين، لكن بعض اللاعبين حول العالم بدأوا ببث مقاطع فيديو من خلال منصة الـ"يوتيوب" وهم يمارسون بعض الألعاب، وتمكنوا من جني أرباح طائلة فقط من عدد المشاهدات، ثم أنشأوا تجمعات يتكون أعضاؤها من أشهر اللاعبين في بلد معين، وأصبح لكل فريق شعار يمثله، ولاحقا بات يملك علامة تجارية خاصة تمكنه من بيع أدوات الألعاب وملابس أعضائه ومقتنياتهم، شأن متاجر أندية كرة القدم أو كرة السلة وغيرها من الرياضات الأخرى.
300 مليار دولار
شكلت الفترة التي اجتاحت فيها جائحة "كوفيد - 19" العالم في عام 2020، قفزة نوعية للقطاع على نحو غير مسبوق، وذلك خلال حظر التجول الذي فرضته معظم دول العالم للحد من تفشي الوباء، وكانت الألعاب الإلكترونية متنفسا لكثير من الأشخاص حول العالم. تشير الإحصاءات إلى أن هناك أكثر من 500 مليون لاعب جديد انضم إلى هذه الرياضة خلال السنوات الثلاث المنصرمة. أما بالنسبة إلى الشركات، فكانت فرصة ذهبية غير متوقعة، حيث بلغت نسبة الإنفاق العالمي على الألعاب الإلكترونية في عام 2020 مستوى قياسيا بنحو 300 مليار دولار.
دفع النمو السريع في هذا القطاع الشركات المصنعة للألعاب إلى إعادة النظر في خططها التسويقية، إذ لجأ كثير منها إلى التعاقد مع أشهر اللاعبين العالميين للترويج لمنتجهم، على غرار ما تفعله كبريات الشركات الرياضية مثل "نايك" و"أديداس". وساهم هذا الأمر مع مرور الوقت في زيادة حجم الإنفاق على تلك الألعاب، مما جعل أهميتها تتنامى أيضا على صعيد الدول وليس فقط لدى شركات الألعاب.
يقدّر حجم الإنفاق على الرياضات الإلكترونية في عام 2023 بأكثر من 205 مليارات دولار، وحلت الصين أولى عالميا، تليها الولايات المتحدة، فيما السعودية الأولى عربيا
يقدّر حجم الإنفاق على الرياضات الإلكترونية في عام 2023 بأكثر من 205 مليارات دولار، وحلت الصين أولى عالميا في الإنفاق، تليها الولايات المتحدة، فيما كانت السعودية الأولى عربيا في الإنفاق على الألعاب الإلكترونية بما يقدّر بـ 1,89 مليار دولار.
فرضت الألعاب الإلكترونية نفسها على العالم وتحولت إلى رياضة يندرج تحتها العديد من البطولات والفاعليات السنوية التي تنفق عليها المليارات. وكانت المرة الأولى التي أدرجت فيها الألعاب الإلكترونية كرياضة، في عام 2018، حيث تم اعتماد الألعاب، كالرياضات الإلكترونية، ضمن الألعاب الأولمبية.
وقد ازدادت شعبية بطولات الألعاب الإلكترونية بشكل كبير، حيث يتابعها مئات ملايين المشاهدين. على سبيل المثل، اجتذب نهائي "ليغ أوف لدجندز" (League of Legends) لعام 2018 الذي أقيم في كوريا أكثر من 100 مليون مشاهد، أي أكثر من عدد مشاهدي "سوبر بول" (Super Bowl) في العام نفسه.
تعد منطقة آسيا وأميركا الشمالية من أكبر الأسواق في العالم في مجال الألعاب الإلكترونية، ويعود ذلك إلى كون أهم الدول المصنعة للألعاب تقع في تلك المناطق، مثل الصين وكوريا الجنوبية واليابان، والولايات المتحدة وكندا، وكذلك بعض الدول الأوروبية.
وصلت إيرادات سوق الألعاب الإلكترونية في السعودية إلى 3,75 مليارات ريال في العام المنصرم، ومن المتوقع أن تصل إلى 10 مليارات ريال في سنة 2026
نشرة "خطى" الشهرية
وبلغ حجم إيرادات سوق الألعاب الإلكترونية على مستوى العالم، 184 مليار دولار في 2023، وتشير الإحصاءات إلى أنه من المتوقع أن تقفز العوائد في عام 2026 إلى نحو 207 مليارات دولار، لتواصل مسارها التصاعدي مع نمو مرتقب للقطاع على الصعيد العالمي يتراوح بين 9 و12 في المئة في السنوات المقبلة، بحسب شركة "نيو زو" المتخصصة في إحصاءات الألعاب الالكترونية.
ريادة السعودية
أدركت تلك الدول، من بينها المملكة العربية السعودية، أهمية هذه الرياضات مبكرا، واستطاعت أن تكون سباقة في هذا المجال. ويتجلى اهتمام المملكة الكبير بهذه الرياضات في عدد الممارسين، وجلهم من الشباب، حيث وصلت نسبة مستخدمي الألعاب الإلكترونية إلى 23 مليون شخص، مما يشكل 67 في المئة من عدد السكان، ويجعل المملكة من كبار المنفقين على هذه الرياضات، وبيئة خصبة لهذه الصناعة وجاذبة للاستثمار محليا وعالميا.
وقد وصلت إيرادات سوق الألعاب الإلكترونية في السعودية إلى 3,75 مليارات ريال في العام المنصرم (نحو مليار دولار)، ومن المتوقع أن تصل إلى 10 مليارات ريال في حلول عام 2026، بحسب نشرة "خطى" الشهرية التي يصدرها صندوق التنمية السعودي.
وتتعامل السعودية مع ملف الرياضات الإلكترونية بجدية تامة خلافا لبعض الدول التي تعتبر هذا القطاع رهانا خاسرا لا يعول عليه على المستوى الاقتصادي. فالمملكة تعتبر أن هذا القطاع لا ينحصر في الترفيه، بل هو صناعة على رأس التوجهات السياحية الجديدة والابتكار الاجتماعي والتبادل الثقافي وبناء مهارات المستقبل.
أصبحت السعودية اليوم من الدول الرائدة على صعيد الرياضات الإلكترونية لا سيما في تنظيم البطولات
تركي الفوزان، الرئيس التنفيذي للاتحاد السعودي للرياضات الإلكترونية
كما تدرك المملكة أن الألعاب الإلكترونية تلعب دورا أساسيا في تطوير التقنيات، مثل الاقتصادات الافتراضية وإنشاء المحتوى. فهي ترى في هذه الصناعة مجالات جديدة للتفاعل الاجتماعي والتجارة والحضور الرقمي. وتُعد الألعاب الإلكترونية أيضا وسيلة لاختبار تقنية الذكاء الاصطناعي في السعودية، مما يمهد الطريق لبناء مجتمعات ترتكز على التكنولوجيا المتقدمة.
توالت الفاعليات والبطولات في مجال الألعاب الإلكترونية، منذ أن أطلقت الرياض الاستراتيجيا الوطنية للألعاب والرياضات الإلكترونية في عام 2022، التي تهدف إلى تحقيق إيرادات اقتصادية تصل إلى 50 مليار ريال (نحو 13 مليار دولار) في حلول 2030، وانطلق سنتذاك، "موسم الغيمرز" في دورته الأولى، وهو يعد من أكبر التجمعات في هذه الرياضة. وكان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان أعلن في 2023 استضافة السعودية كأس العالم للرياضات الإلكترونية التي تجري حاليا وتستمر حتى 25 أغسطس/آب الجاري، وهو الحدث الأول من نوعه في تاريخ هذه الرياضة، وتنفرد السعودية بتنظيمه، بجوائز تتجاوز 60 مليون دولار، ويشارك فيه 1550 لاعبا وأكثر من 500 فريق يمثلون 22 دولة.
خطط استراتيجية للألعاب الإلكترونية
وقال الرئيس التنفيذي للاتحاد السعودي للرياضات الإلكترونية تركي الفوزان لـ"المجلة" على هامش حفل إطلاق البطولة "إن السعودية تعدّ اليوم من الدول الرائدة على صعيد الرياضات الإلكترونية لا سيما في استضافة وإقامة البطولات."
وأضاف أن المملكة ماضية في تنفيذ خططها في ضوء الاستراتيجيا للألعاب الإلكترونية. وأوضح في ما يخص مساهمة قطاع الرياضات الإلكترونية في الناتج المحلي، أن الاستراتيجيا الوطنية للرياضات الإلكترونية تضمنت عدة أهداف في الجانب الاقتصادي أبرزها توفير 40 ألف وظيفة في حلول 2030.
حددت السعودية هدفا منذ عام 2022 أن تصبح مركزا في صناعة هذه الألعاب العالمية، ولذا أطلق "صندوق الاستثمارات العامة" مجموعة "سافي غايمز"
اللاعب السعودي مساعد الدوسري، رئيس فريق "فالكونز" الذي حصل على لقب الدوري السعودي للرياضات الإلكترونية، وحقق العديد من البطولات العالمية، قال لـ"المجلة"، "إنه لشعور جميل أن يحظى اللاعب بالرعاية والدعم من بلده، وأن تقام أول وأكبر بطولة في الرياضة في دولتك، إنه بالتأكيد حلم كل لاعب وممارس للرياضات الإلكترونية."
إطلاق مجموعة "سافي غايمز"
ورأى الدوسري أن مستقبل قطاع الرياضة الإلكترونية مبشر في ظل هذا الاهتمام من المسؤولين الكبار في السعودية، وفي مقدمهم ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، الذي يولي القطاع اهتماما خاصا، وهو أحد ممارسي هذه الرياضة، كما ذكر في مقابلة تلفزيونية.
رئيس اللجنة الأولمبية الدولية، توماس باخ: نحن محظوظون بالشراكة مع اللجنة الأولمبية #السعودية لاستضافة الألعاب الأولمبية للرياضات الإلكترونية نظراً لما تتمتع به المملكة من خبرات رائعة في مجال الرياضات الإلكترونية#الشرق_رياضة#اقتصاد_الشرقpic.twitter.com/XXn1IY5y4p
— Asharq Business اقتصاد الشرق (@AsharqBusiness) July 12, 2024
وكانت المملكة وضعت نصب عينيها منذ عام 2022 أن تصبح مركزا في صناعة الألعاب العالمية، وعلى هذا الأساس أطلق "صندوق الاستثمارات العامة" مجموعة "سافي غايمز" (Savvy Games Group)، وهي شركة مملوكة بالكامل للصندوق، لدفع النمو في هذا القطاع على المدى الطويل وتطوير الرياضات الإلكترونية وصناعة الألعاب بشكل عام على مستوى العالم.
تمهيد الطريق نحو الاحتراف
وكان آخر المشاريع التي أطلقتها السعودية في مجال الرياضات الإلكترونية، إعلان إنشاء أكبر منطقة في العالم للألعاب الإلكترونية، ضمن مدينة القدية التي تعد أول منطقة للألعاب والرياضات الإلكترونية المتعددة الاستخدامات في العالم، وتهدف إلى جذب اللاعبين من كل أنحاء العالم.
تعد الرياضة الإلكترونية من أسرع الرياضات نموا حول العالم، حيث وصلت إلى أرقام خيالية فقط في حقبة قصيرة، عكس نظيرتها من الرياضات الأخرى
مع مرور الوقت، صارت الرياضات الإلكترونية أكثر احترافية عالميا، وهناك عدد من الأكاديميات والمؤسسات التعليمية حول العالم تقدم برامج لصقل مهارات اللاعبين ولتصنع منهم محترفين رياضيين. من أشهر تلك المؤسسات، مؤسسة أونتاريو للرياضات الإلكترونية في كندا التي لديها مناهج خاصة بحسب الفئة العمرية للاعبين. كما تعد أكاديمية "لوديري" الألمانية من أهم المراكز التدريبية في أوروبا.
من جهتها، تقدم السعودية العديد من البرامج في هذا المجال، مثل "الأكاديمية السعودية للرياضات الإلكترونية" التي لديها أكثر من 197 خطة لتدريب اللاعبين، كما أن الجامعة الإلكترونية في الرياض توفر صالات خاصة للتدريب، بالإضافة إلى مناهج تعلمية بأساليب تقنية حديثة تقدمها بالتعاون مع شركتي "إتش. بي." و"إيه. أم. دي.".
الأسرع نموا حول العالم
لم يعد ممارس الألعاب الإلكترونية مجرد لاعب ينشر مقاطع فيديو (ستريمر)، بل أصبح رياضيا محترفا يشارك في بطولات عالمية، وله مكانة تماثل مكانة اللاعب في الرياضات الأخرى التقليدية، بما يتمتع به من مميزات وحقوق رياضية. على سبيل المثل، أعفي اللاعب الكوري الجنوبي فاكر من الخدمة العسكرية الإجبارية بعد حصوله على الميدالية الذهبية في أولمبياد الصين في عام 2023.
تعد الرياضة الإلكترونية من أسرع الرياضات نموا حول العالم، حيث وصلت إلى أرقام خيالية فقط في حقبة قصيرة، عكس نظيرتها من الرياضات الأخرى التي تضخمت أرباحها فقط خلال العقد الأخير، مما يعني أنها تحمل في طياتها الكثير من النمو والتطور في السنوات المقبلة. وبعد تحقيقها نجاحا لافتا في السنوات القليلة الماضية، بات تأثيرها على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي جديا ولا يستهان به، شأنها شأن الرياضات الأخرى.