كان الرابع من أغسطس/آب 2020 مفترقا في حياة كثر من اللبنانيين، وخصوصا منهم أبناء جيلي الذين أتحسّر وإياهم على مضي نصف قرن من أعمارنا تحت وابل من الحروب تلو الحروب، والهزائم تلو الهزائم، و"الانتصارات" الوهمية تلو "الأكاذيب" والوعود بتحرير القدس، وسط أنهار من دماء الأبرياء ومئات آلاف الضحايا والمشوهين والمكلومين والخسائر الهائلة المتراكمة والمتمادية التي أثقلت خمسة أجيال، نكبات لامتناهية...
في مثل هذا اليوم كان المستودع الرقم 12 في مرفأ بيروت - كمركز لصادرات نيترات الأمونيوم الى سوريا - نذير شؤم مستجدا عما يخبأ للبنانيين في مخازن ومطابخ الموت المقبلة. بعد تلك الفاجعة التي خطفت أرواح 220 ضحية وأصابت أكثر من 6500 شخص بجروح وأدت إلى تدمير المرفأ وأحياء عدة من العاصمة، هاجرت عائلات، وعشرات آلاف الشباب اللبناني خصوصا، بأرقام غير مسبوقة في فترة زمنية قصيرة، وعزف مغتربون عن العودة النهائية إلى الوطن بعدما انتظروها مدى أعمارهم، وعلى العكس ثبتوا أقدامهم في مغترباتهم، ولا سيما بعد الانهيار النقدي والمصرفي المروع، الذي لا تزال شظاياه القاتلة تتطاير مفاعيلها في بيوت اللبنانيين لتقبض على أرواحهم بصمت رهيب، ومن دون بصيص أمل بحل لاسترداد بعض جنى أعمارهم!
على إيقاع قرع طبول "حرب كبرى" منتظرة لا تُبقي ولا تَذَر، يستذكر اللبنانيون اليوم مرور أربع سنين على فاجعة المرفأ، والدفن المخزي للتحقيق
في عام 2023 هَجَر لبنان نحو 180 ألف شخص، في مقابل 59 ألفا عام 2022 ونحو 80 ألفا في 2021. وسجّلت في الأشهر الثلاثة الأولى من السنة الجارية هجرة 23,621 شخصا، في مقابل 7,096 في الفترة ذاتها من العام 2022، أي بارتفاع نسبته 232 في المئة، بحسب أرقام "الدولية للمعلومات"، فيما تتحدث مصادر أخرى عن نصف مليون مهاجر لبناني في السنوات الأربع الأخيرة، ناهيك عن الذين قضوا غرقا في "زوارق الموت".
على إيقاع قرع طبول "حرب كبرى" منتظرة لَا تُبقي وَلَا تَذَر، يستذكر اللبنانيون اليوم مرور أربع سنين على فاجعة المرفأ، والدفن المخزي للتحقيق. أما مستجدات "ثقافة المسيرات الذكية" و"البصمات الصوتية القاتلة" حاليا، فتُذكرنا بروايات الناس عن تلك الطائرة الخفية التي لمحوها في ذاك اليوم، أو عن ذلك الصاروخ، وربما المسيرة الذكية الإسرائيلية التي ضربت المستودع الرقم 12، وهو ما قد يعني، إن صدقت تلك المشاهدات، أنها كانت الإنذار الاخير لنا للهروب الجماعي من وطن الرقص على الأحزان!
لم يكن ليتخيل رئيس البنك الدولي الراحل جيمس ولفنسون الذي حذرنا من "السفينة المثقوبة" في عام 2001، أن نصل الى "الكارثة الاقتصادية" الأسوأ في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر في 2019
ربع قرن مضى على فرحة التحرير عام 2000 وفك أغلال سجن الخيام.
لنتخيل قليلا، لو أن "حزب الله" حافظ على هذه الفرحة، ولم يمض في المشروع السوري-الإيراني في مزارع شعبا (إقرأ مقال فريدريك هوف، الديبلوماسي والمبعوث الأميركي السابق لملف سوريا في عملية السلام بالشرق الاوسط. في وثائق ومذكرات "المجلة"، وكيف أكد له الرئيس بشار الأسد أن المزارع سورية وهي مجرد حجة متفق عليها مع "حزب الله" وإيران).
يا ترى، أي واقع كان ليشهده لبنان لولا تلك "الطبخة السياسية"، وكل الأحداث المشؤومة التي تلتها، بما فيها اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري وما اعقبه من اغتيالات، وحرب 2006 وحروب سوريا؟ وأيّ اقتصاد كان سيكون عليه اقتصاده بمصارفه وخزينته ومصرفه المركزي وأموال المودعين؟ بل أي صورة للبنان كان سيرسمها لنا "الذكاء الاصطناعي" لو لم تحصل كل هذه التراجيديا طوال 24 عاما، وصولا الى الإفلاس التاريخي الشامل في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
في انتظار الضربة... و"اليوم التالي"
يحز في النفس أنني كنت حاضرا في السرايا الحكومي يوم زار رئيس البنك الدولي الراحل جيمس ولفنسون لبنان، في عام 2001، ودعا الى ضبط المالية العامة ولجم الانفاق والهدر والفساد المنظم للدولة، محذرا في تصريحه الشهير من "السفينة المثقوبة" الواجب إصلاحها قبل أن تغرق. وهو حين قال ذلك، لم يكن ليتخيل وقتها، أن يعود البنك الدولي في عام 2019 ليصف "الكارثة الاقتصادية" التي ألمت بلبنان بأنها إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن التاسع عشر!
يصغر الكلام عن جريمة المرفأ، بعد المذبحة المستمرة في غزة، وهي تدفع اللبنانيين الى الذعر من "اليوم التالي"، ليس من اندلاع حرب تقليدية واسعة وقاسية، بل من تواصل مديد للضربات ومن "مشاغلات مفتوحة" لا تنتهي لنصف قرن مقبل
يصغر الكلام عن جريمة المرفأ، بعد المذبحة المستمرة في غزة التي لا تستوي معها المقارنات ولا ريب. فما يحصل في القطاع تحديدا، معطوفا على تجارب اللبنانيين، يدفع الى الخوف بل الذعر من "اليوم التالي"، ليس من اندلاع حرب تقليدية واسعة وقاسية فحسب، بل من تواصل مديد للضربات الذكية القاتلة، ومن "مشاغلات مفتوحة" لا تنتهي لنصف قرن مقبل ربما... تبعا للطموحات الإيرانية في المنطقة، في زمن لم تعد تنفع فيه استغاثات الأمم المتحدة، ولا حتى اتهام محكمة الجنايات الدولية اسرائيل بارتكاب "جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية".
"بروباغندا" الحرب
اليوم، في الذكرى الرابعة للرابع من أغسطس/آب 2024 يعيش لبنان "بروباغندا" الحرب الداهمة، وتتسابق نداءات الدول التي تدعو الرعايا الاجانب إلى مغادرة لبنان، فيما تبيّت شركة "الميدل إيست" طائراتها كل ليلة في مطارات قريبة في انتظار "اليوم التالي". فهل ما ينتظرنا سيحول ذكرى إنفجار المرفأ في السنوات المقبلة، الى مجرد تفصيل صغير لا يكاد يذكر في حسابات الخسائر والهزائم والدمار... ودوامة "الضربات المتبادلة المستدامة" على طريق تحرير القدس؟
الرقص على "تايتانيك لبنان"
مضت أربع سنوات على ذلك التفجير القياميّ، لكنّ الجاني لا يزال يتابع تمرسه بالقتل، في مجازر متسلسلة، متماديا في غرس خناجره في رغيف الناس وحليبب الاطفال وكهرباء الحياة وأدوية الموجوعين وحقوق المودعين.
يشاغل اللبنانيون الموت كل على طريقته، قتالا أو رقصا... فقرا أو قهرا خلف الشاشات من لبنان أو عبر القارات، وكلهم على متن السفينة نفسها
وغدا، قريبا، سترتفع الصرخة مجددا من أجل الرغيف والماء، المستشفى والمدرسة، والجوع وتمديد عذابات اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين في بلدانهم وفي مغترباتهم وفي هروبهم الطارئ وسفرهم وترحالهم على إيقاع هذا "الأكشن" السوريالي المفتوح.
إقرأ أيضا: "لعبة الحرب" في اقتصاد لبنان: هل يأبه "حزب الله"؟
لا بدّ أن اللبنانيين، من شدة الآلام المبرحة، فقدوا الإحساس بعضهم ببعض، فمنهم من "يشاغل" ومنهم من يساهر ويراقص وكأن كلّا منهم في كوكب منفصل عن الآخر، وربما مضى زمن طويل لم تعد تعنيهم "تفاهات" مثل الاقتصاد والاحصاءات، ولا تلف الأشجار المثمرة والمزروعات في نحو مئة قرية حدودية، ولا إذا طارت بيوتهم التي تؤويهم، كما طارت حساباتهم من المصارف، وطار أبناؤهم وأحفادهم من البلد الى الأبد...
فها هي القرى تفرغ في الجنوب منذ أشهر ويسكنها الدمار، وها قد بدأ النزوح من الضاحية الجنوبية لبيروت ولا أحد يسأل إلى أين، ولا أين الملاجئ المجهزة للمدنيين وهل لدينا سيارات إطفاء كافية!
لبنان المخطوف يلاعب الأخطار وآلام مجددا في "حروب الآخرين"، فيما اللبنانيون يشاغلون الموت كل على طريقته، قتالا أو رقصا... فقرا أو قهرا خلف الشاشات من لبنان أو عبر القارات، كلهم على متن سفينة ترفع علم "تايتانيك لبنان" لم تعد تتسع لمزيد من الثقوب فيما تعزف الفرقة الموسيقية ألحانها الأخيرة.