الشّعر وكوابيسه

الشّعر وكوابيسه

قطعا، لا يوجد روائيّ اهتمّ بالشعر كليّا في مجمل أعماله الروائيّة كما فعل روبرتو بولانيو باقتدار وإدهاش. قلما تجد له رواية غير منصرفة بضراوة إلى قدرية الشعر، ممعنة فيه كلعنة، كمعضلة، كمصيبة، كمتاهة، كمرض، كهوس وجنون، كغموض جارف، كانتحار، كخلاص. وَقسْ على ذلك من فداحة المصائر التي يشكل الشعر مدارها الكابوسي.

هذا ما نصطدم به ويفاجئنا بشكل فاتن في روايته الماراثونية، "رجال التحري المتوحشون"، المقسمة ثلاثة أجزاء: مكسيكيون ضائعون في المكسيك- المحققون المتوحشون- صحاري سونورا، إذ يلتحق الشاعر خوان غارثيا ماديرو بجماعة شعرية تطلق على نفسها اسم "واقعية الأحشاء" أسّسها آرتور بلانو وأوليسيس ليما، فتكون مهمة هذه الجماعة الطارئة والملحاحة تقصّي أثر الشاعرة الغامضة سيزارايا تيناجيرو، التي اختفت في المكسيك عقب السنوات الموالية للثورة، وتقودهم رحلة التحري الجامحة الشبيهة بسينما الطريق إلى جغرافيات متشعبة بدءا بالمكسيك وإسبانيا وفرنسا وإنكلترا وأميركا والنمسا وأفريقيا، ثم انتهاء بصحاري سونورا المكسيكية. هي رحلة رعب استغرقت عشرين عاما (من 1976 إلى 1996)، تتناسل فيها وقائع جرائم القتل المبهمة، متأرجحة في أعنف صورها بين قطبي الحب والموت.

رواية بالغة التعقيد تذكرنا بـ"لعبة الحجلة" لخوليو كورتاثار، لا يقف إبهارها عند تضاعيف تفكيك لغز اختفاء الشاعرة الغامضة سيزاريا تيناغيرو، وعند حشد غابة من أسماء الشعراء في مجلد روائي، وإنما يتعدى ذلك في مطابقة مهمة الشاعر ومهمة المحقق، المتحري، من جهة، ومن جهة أن تتحوّل الرواية ذاتها إلى قصيدة خارقة.

هي رحلة رعب تتناسل فيها وقائع جرائم القتل المبهمة، متأرجحة في أعنف صورها بين قطبي الحب والموت

كذلك في رواياته من صنف سباق المسافات القصيرة والمتوسطة كرواية "تميمة"، إذ ننجرف مع الهذيان الشعري للساردة الأوروغوائية أوكسيليو لاكوتور التي تطلق على نفسها لقب "أم الشعر المكسيكي"، مفصحة أنّ نص "تميمة" سيكون حكاية بوليسية، قصة رعب وجريمة. منذ جاءت إلى المكسيك لم تغادرها أبدا، إذ لاذتْ بقدرها اللعين وطرقتْ باب شاعرين إسبانيين يقيمان في العاصمة هما ليون فيليبي وبدرو جارفياس، مقترحة نفسها عليهما ككنّاسة غبار، فيما كانا يصرفانها عن ذلك بذريعة أن الغبار يتوافق دائما مع الأدب.

ولأنها غريبة الأطوار، فالمزهرية مثلا تجعلها تجهش بالبكاء، متوجسة من الكوابيس التي تقبع في قرارتها متسائلة باحتراق: أيدري الشعراء ما يربض في فوهة مزهرياتهم التي بلا قاع؟

عبر هلوستها المستطردة تعري أوكسليو شخصيتها المجنونة كشاعرة، متفرغة للتسكع في مكسيكو، دائمة التأهب للتطوع في أعمال موازية، كارتياد كلية الفلسفة والآداب لتساعد في كتابة محاضرات البروفسور غارثيا ليسكانو على الآلة الكاتبة. وهكذا قيّض لها أن تتعرف على شعراء المكسيك الذين أقرضوها دواوينهم، حتى صارت عالمة بكل مآسيهم وظلتْ تلازمهم في هذر سهراتهم وتقرأ كتاباتهم وتعلّق وتعقّب عليهم بكلمات لا تنتهي، بل تعطي مواعظ للمبتدئين وتستمتع بواقع المكسيك أنّى فاجأها بحادثة بشعة كانتحار لوبث أثكاراتي، كما فاجأها بشيء أبشع من ذلك هو فقدانها لأسنانها في أحداث الهجوم العسكري على الكلية حيث كانت تقرأ للشاعر بدرو جارفياس، فهي تدمن عادة القراءة في الحمامات هذه التي تعتبرها كابوسها الأثير. المرحاض الذي يعادل عرشها وبرج مراقبة لها، سفينة لرصد كل الأزمنة. وفي رحلة بوهيميتها مع شعراء المكسيك تتعرف إلى شاعرها الأثير، شاب يدعى أرتوريتو بيلانو (الشخصية الشعرية التي يضعها الكاتب روبرتو بولانيو كمعادل سردي له في كل كتاباته)، فهو شاعر من تشيلي ينتمي إلى الجيل الجديد من الشعر المكسيكي (جيل خارج مباشرة من الجرح المفتوح لـ"تلاتيلوكو" مثل نمل أو جنادب أو قيح). جيل تفجر بشكل طارئ وكارثي (لم يكن ليفهمهم أحد، كانت أصواتهم التي لا نسمعها تقول: لسنا من هذا الجزء من العاصمة، نحن قادمون من المترو، من الأعماق السحيقة للعاصمة، من شبكة المجاري، نحيا في ما هو أشد حلكة وقذارة، هناك حيث ما كان لأشد الشعراء الشبان خبثا إلا أن يتقيأ).

تتشابك الحكايات وتنهمر جميعها في اتجاه واحد، هو العراء المكسيكي، في قعر الوادي حيث الهاوية التي ينجرف إليها أطفال أميركا اللاتينية، وهم يلهجون بأغنية عن الحرب، أنشودة بالأحرى عن بطولة جيل من شباب أميركا اللاتينية ضُحي بهم.

الشيء نفسه لكن بصورة مغايرة في رواية "ليل تشيلي"، إذ نمضي مع استرجاعات القس سباستيان أوروتيا إلى أقصى الأغوار، بصفته شاعرا أيضا بل وناقدا أدبيا، وهو يفصح عن حمى اللحظة التاريخية للنصف الثاني من القرن العشرين، خاصة مع كارثة الانقلاب العسكري الذي قاده الديكتاتور بينوشيه ضد الرئيس المنتخب سلفادور الليندي، مسدلا جناح الظلام المطبق على الأحلام الديمقراطية لهذه الفترة المزمنة، وبرصده الساخر لعلاقاته مع وجوه من حقل المثقفين والشعراء، ووجوه من حقل السلطة والمال وأخرى من حقل الدين (الكنيسة)، يقدم هذا القس الاستثنائي صورة تشريحية تدين المتواطئين ببشاعة مع جريمة الانقلاب.

 هو العراء المكسيكي في قعر الوادي حيث الهاوية التي ينجرف إليها أطفال أميركا اللاتينية وهم يلهجون بأغنية عن الحرب

إنّه الشعر الذي يعيش الروائي بولانيو قدريته كأسلوب حياة، وهذا ما يستعر به هذيان أعماله الروائية المفرطة شعريّا كنمط وجود لا بديل له، من وريد الحياة إلى وريدها، وبذا طابق بولانيو بين غموض الشعر العنيف وألغاز التحري البوليسية، ألغاز الجرائم الكبرى الأشدّ تعقيدا وغرابة، مزحزحا حقيقة الشاعر الوجودية، المدوية، إلى معترك تفكيك شفرات التاريخ والعالم، وليس التخندق داخل نفق اللغة، والاكتفاء بإيقاظ الاستعارات من نومها الحجري.

font change