يقول بعلبكي: "أنتقل من اللحظة المباشرة إلى أعمال الذاكرة بشكل يشبه ما يقال عن اللحظة المستعادة، فتنبثق فجأة في ذاكرة المرء مشاهد غابرة آتية من فترة زمنية متوسطة القدم أو من مراحل الطفولة البعيدة. تحضرني تلك الحالة حين أرسم المشهد الجنوبي حيث تنفجر حواس الطفولة لتصنع مجالا يتيح لي رسم السهل والدرب بطريقة خاصة، قد تكون في الحقيقة مسار هروب من ضغط الزمن القائم. لا أنوي الاستسلام لثقل هذه الضغوط التي تحاول أن تفرض نفسها على الجميع، أراوغها وأتحايل عليها بتقنية الاستعادة الواسعة التي تأخذني في رحلات إلى تاريخ الفن أو إلى طفولتي الخاصة، فلا أبقى سجينا لخواء العصر وتفاهته".
زيارات
وفي ذلك الانتقال، تكتمل خريطة الزيارات، "فبالفن أزور عائلتي ونفسي، وأستعيد تقنيات الفرار التي كنت أمارسها فعلا، علاقتي مع الكتب مثلا كانت هروبيّة إذا صح التعبير، فقد كنت أقرأ لأتهرّب من ثقل الواجبات المدرسية، فكانت تستهويني الرسومات والصور المرفقة بها، وخصوصا صور الأدباء والفلاسفة الذين أحبهم، فصرت أشعر بنوع من القرابة العائلية والشخصية معهم".
تلك العلاقة الدفينة، كوّنت قرارات فنية: "اللوحة التي تصور نيتشه مبنية على صورة التقطت له في لحظة مرضه الأخير، وتظهر أخته وهي تحتضنه، وقد بدا فيها متخلصا من كل رغبة في التفكير والتفلسف، فعاد إلى وضعية الطفل المتطلب للعناية. لوحتي تحاول تمجيد البراءة والحنان وفقدان السيطرة. وفي قصص الأدباء الذين أحبهم، أستعيد لحظات النهايات المأسوية كتتويج للحاجة إلى الحنان، كما في قصة الشاعر الفرنسي رمبو العائد من مغامرته الأفريقية مريضا ومهزوما، فالعذابات التي أصابته في نهاية حياته كانت عودة إلى أصفى حالاته".
وفي المحصلة، فإن "أي عمل من إنتاج فنان صميم مثل فان غوغ كانت حياته مسار عمل متواصل يخلق إحساسا بحضوره الروحي وقوة التأثير، فلوحاته عموما وتلك التي يصور فيها نفسه خصوصا ما زالت تتفرّس بالبشرية إلى الآن، وكأنها مشحونة بنظرة فوسفورية تخترق الزمن وتحلّ في الحاضر، فالفن ينظر إلى البشرية التي تنظر إليه".
يؤمن بعلبكي بأن سطح اللوحة المؤلفة من قماش ولون "تحمل بقايا من عيون روح الفنان. أحب الغرق في مثل هذه المثالية الخيالية التي تحمل شعائرية تمتّ بصلة قرابة ما إلى الكاثوليكية، لناحية أن الجامد والطقسي ينطويان على معالم حياة حقيقية".
زيارة الأم
تكشف لوحة "العائلة" عن نزوع الى تأريخ أثر وملامح زمن كامل بكل تفاصيله، يسبق الولادة، وكأنها رحلة تروي الأصل والمنشأ والهوية. يعرض بعلبكي ظروف وعناوين اللوحة العائلية: "رسمت المشهد العائلي الذي يعود إلى عام 1977، حيث كانت عائلتي من ستة أشخاص ولم أكن قد ولدت بعد، وهي تعود إلى منزلنا في منطقة الشياح، حيث الأباجور الأخضر والإضاءة المصفرة، وحيث كانت العلاقة بالصورة الفوتوغرافية لذلك الزمن تتسم بسطوة الألوان الدافئة والمطبوخة بشبح الألوان الترابية. كان هناك نوع من بخار خاص، هو بخار نيغاتيف الصورة ومادتها مثل صور كوداك، مما يضع الصور في إطار شبحي يميز صور الثمانينات".
يضيف: "رسمت عائلتي وكأن اللوحة كانت نتاج تحليق سينمائي للعين في ذاكرة تلك المرحلة، فقد كنت أريد أن ألتقط سرابا واسعا يضم صورة أمي ولوحة أبي التي كانت قيد الإنجاز، والتي كان فيها تجسيد لبومة، وعائلتي التي كانت تتموضع من أجل الصورة، كأنها تخضع لأمر أبويّ بالاصطفاف. أطياف كثيرة تحضر لتحيي لحظة تشتبك في تكوينها عناصر كثيرة، مظللة بشؤم الحرب والخراب، ولكن المركزية فيها تتجلى في الرغبة الدفينة في زيارة أمي في زمنها".
عكس الواقع
في لوحة "المرفأ"، تتراءى علامة التشغيل في وسطها، كأنها تبث طموحا حلميا بإمكان عكس الواقع وتجاوزه، والعودة إلى ما قبل الكارثة أو السفر إلى ما بعدها. ينتبه أسامة بعلبكي في اللوحة التي تحمل عنوان "الوقت لا ينقضي" إلى ممارسات تطويل لحظة الفاجعة، وتركها تحتل الزمن والذاكرة، وتقيّد حضور الناس بحدودها القاسية، كأنهم صاروا مشدودين إليها وإلى معناها.
يحاول تفكيك واقع انفجار المرفأ بالحلمي المنطوي على إمكان سياسي وواقعي. لا يدخل في الإنكار بل يبحث عن مجال للعبور، ويجده في الفن الذي، إذ ينشئ حالة رمزية عبر علامة "اللعب"، يتساءل ويحلم ويدين.
يقول: "العمل الخاص بمرفأ بيروت يطرح سؤالا حول ماذا لو كان تغيير ما حصل ممكنا؟ إشارة الانطلاق تحتمل التقديم والتأخير، فنحن نعلم أن زمننا السياسي والحدثي قد أفلت منا نتيجة مصادفات أو شؤم مقيم لا يعبر ولا ينتهي، وبات يفيض على كل المستويات ويخلق قلقا داخليا تنتج منه رغبة طفولية في رسم صورة تحمل إمكان عكس المشهد، وهي رغبة تصطدم باللا معقول وتكاد تكون أقرب إلى حلم يعادي كل هذا الشقاء المتراكم".