مغزى الضربتين الإسرائيليتين في بيروت وطهران

تحركات عالية المخاطر

أ.ف.ب
أ.ف.ب
لوحة إعلانية تحمل صور إسماعيل هنية وقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني (وسط)، والقيادي البارز في حزب الله فؤاد شكر على الطريق الرئيسي بالقرب من مطار بيروت الدولي في 3 أغسطس 2024

مغزى الضربتين الإسرائيليتين في بيروت وطهران

تلقت إسرائيل، باحتفال وغضب صامتين، نبأ الضربتين المتعاقبتين اللتين استهدفتا في الأولى مستشار حسن نصر الله زعيم "حزب الله"، وفي الثانية القائد السياسي لـ"حماس" إسماعيل هنية. واستعرضت إسرائيل بالتأكيد عضلاتها، بتنفيذ هجومين في بيروت وطهران في أقل من 24 ساعة، ورفعت من مستوى التحدي والتصعيد بإظهار قدرتها على إيجاد أهداف ثمينة وضربها حتى في جنوب بيروت، قلب معقل "حزب الله"، وفي شمال طهران، في واحدة من أكثر مناطقها أمنا.

لكن هذه الضربات يمكن أن تكون لها أيضا عاقبتان مهمتان، أولاهما التسبب في حرب شاملة مع "حزب الله"، وثانيتهما احتمال نسف الجهود الرامية إلى التوصل لاتفاق لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين الذين لا يزالون محتجزين في غزة، وهذا ما يفسر لماذا لمْ يحتفل الإسرائيليون بهاتين العمليتين العسكريتين غير المسبوقتين في بيروت وطهران.

أما نتنياهو فيراهما نجاحا منقطع النظير له. فبعد لحظات من الغارة التي استهدفت مستشار حسن نصر الله في بيروت، نشر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي صورة لبنيامين نتنياهو أثناء الهجوم، وهو يتحدث على ما يبدو عبر الهاتف- كما لو أنه هو من أعطى بنفسه الأمر بإطلاق النار. وبعد ساعات، وعقب الغارة على طهران التي أسفرت عن مقتل قائد "حماس" إسماعيل هنية، ومع أنه أصدر أمرا لجميع المسؤولين الإسرائيليين بعدم الحديث في الهجوم، نشر نتنياهو مقطع فيديو يتباهى فيه بأوجه الشبه بينه وبين جيمس بوند، معتبرا أنه تجسيد لشخصيته. إن هذه اللامبالاة التي بدا نتنياهو وهو يتعامل بها مع الاغتيالات الدراماتيكية في كل من بيروت وطهران، تتناقض مع حالة عدم اليقين التي باتت تلف المنطقة، كما تتناقض مع القلق الذي شعرت به عائلات الرهائن الإسرائيليين، الذين تساءلوا عن تأثير تلك الهجمات على المفاوضات.

وجاءت هذه الهجمات في الوقت المناسب لتطوي صفحة أزمتين في العلاقات العامة كانتا قد ظهرتا قبيل هذه الهجمات تماما. الأولى جاءت من زيارة نتنياهو إلى مجدل شمس، البلدة ذات الأغلبية الدرزية في مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل.

بعد لحظات من الغارة التي استهدفت مستشار حسن نصر الله، نشر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي صورة لنتنياهو أثناء الهجوم، وهو يتحدث عبر الهاتف، كما لو أنه هو من أعطى بنفسه الأمر بإطلاق النار

يتجنب نتنياهو هذا النوع من الزيارات، لعلمه أنها قد تتحول بسرعة إلى كارثة في العلاقات العامة. وهناك في مجدل شمس، المدينة التي كانت تترنح بعد هجوم "حزب الله" على ملعب لكرة القدم أسفر عن مقتل 12 مراهقا وطفلا، لم يتوانَ سكان البلدة عن التعبير عن غضبهم من رئيس الوزراء الإسرائيلي.

والأزمة الثانية والأكثر إثارة للقلق هي اندلاع أعمال شغب في قاعدتين عسكريتين بعد أن اعتقلت الشرطة العسكرية الإسرائيلية تسعة جنود إسرائيليين للاشتباه في قيامهم بتعذيب أسير فلسطيني. وأظهرت هذه الحادثة، علاوة على قضية التعذيب نفسها، شرخا عميقا داخل المجتمع الإسرائيلي، حيث شارك بعض متشددي اليمين واليمين المتطرف، ومنهم جنود إسرائيليون وحتى عضو برلمان من حزب نتنياهو نفسه، في الاحتجاجات التي سرعان ما تحولت إلى أعمال شغب، للدفاع عن الجنود المتهمين بالتعذيب. وكالعادة، عندما تسوء الأمور، يتوارى نتنياهو ولا يظهر في أي مكان.

أ.ف.ب
رجال شرطة الخيالة الإسرائيليون ينتشرون أثناء قيام أنصار وأقارب الإسرائيليين المحتجزين كرهائن في قطاع غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول بتنظيم مسيرة للمطالبة بالإفراج عنهم في تل أبيب في 3 أغسطس/آب 2024

كل هذا يحدث فوق أزمتين أعمق قد تؤديان إلى تفكك الحكومة. أولاهما الأزمة المستمرة حيال تجنيد اليهود المتدينين المتشددين، والتي تصاعدت حدتها مؤخرا مع قرار المحكمة الذي أجبر الجيش على البدء في تجنيد عدة آلاف منهم.

والثانية مواجهة بين اثنين من حلفاء نتنياهو، وهما وزيره اليميني المتطرف إيتمار بن غفير، وحزب "شاس"، حليفه الديني. حيث إن بن غفير يسعى إلى مزيد من السيطرة على القرارات الحربية، ويستعمل قدرته على استخدام حق النقض (الفيتو) ضد تمرير القوانين التي يرعاها حليف نتنياهو الديني، لابتزازه كي يمنحه مزيدا من الصلاحيات. وعلى الرغم من أن الأزمة مجمدة مؤقتا، لأن البرلمان الإسرائيلي في عطلة حتى نهاية أكتوبر/ تشرين الأول، إلا أن هذين السيفين مصلتان على رأس نتنياهو.

كل هذا يحدث فوق أزمتين أعمق قد تؤديان إلى تفكك الحكومة

قد يثير هذا الأمر تساؤلا عند البعض، هل أثرت الأسباب السياسية على اتخاذ القرار بتنفيذ الضربتين في طهران وبيروت؟ ومع أنه لا يمكن استبعاد الحسابات السياسية عن أي عملية من عمليات اتخاذ القرار، فإن هاتين الضربتين كانتا أيضا اغتناما لفرصتين وفرتهما ظروف تكتيكية مواتية. فالهجوم في بيروت كان ردا على هجوم مجدل شمس، الذي لم يكن نتنياهو يتوقعه، أما الضربة الثانية في طهران فقد استغلت فرصة نادرة لضرب رأس "حماس" وهو بعيد عن قطر، البلد الذي لا ترغب إسرائيل في العمل فيه، لأن ذلك ينسف المفاوضات بالكامل ويستعدي دول الخليج الأخرى بالإضافة إلى قطر.

إذا كان هذه الضربات تُظهر شيئا، فإنها تظهر أن "الأشياء الجيدة تأتي لمن ينتظر"، وهو شعار يمكن بسهولة أن يكون طريقة عمل نتنياهو الخاصة. ومع أنه ليس مرجحا أن يكون قرار تنفيذ هاتين الضربتين سياسيا، فإنه يمنح نتنياهو هامش مناورة جديدا، فالضربات تمنحه الفرصة لتصوير نفسه مجددا على أنه "سيد الأمن،" الرجل القوي القادر على الترفع عن الأمور السياسية الصغيرة من أجل الاهتمام بأمن إسرائيل، وهي استراتيجية سمحت له بالبقاء في السلطة حتى 7 أكتوبر/تشرين الأول عندما واجهت إسرائيل فشلا أمنيا ذا حجم تاريخي.

كما يمكنه الآن أن يتخلص بسهولة أكبر من ضغوط اليمين المتطرف، أقله لبعض الوقت، كما يسمح لنفسه بالتفكير في خيارات لم تكن متاحة له من قبل سياسيا. وقد يمنحه حتى مقتل هنية هامشا سياسيا كافيا لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاق وقف إطلاق النار/ إطلاق سراح الرهائن في غزة الذي كان على وشك الإنجاز، إلى أن عرقل هو نفسه المحادثات بإضافة شروط جديدة إلى مسودة الاتفاق.

وينطوي هذا بالطبع، على مخاطر كبيرة، فإيران وحلفاؤها مستعدون للرد. وربما راهن نتنياهو، وهو الذي يتجنب عموما رمي النرد، على أن الصدمة الكبيرة التي أحدثتها الضربتان المتتاليتان ورغبة آيات الله الإيرانيين في تجنب حرب إقليمية قد تكون مكلفة لهم، ستحد من حجم ردهم. ولكن رغم كل تباهي نتنياهو، فالمخاطر لم تكن يوما على هذا القدر من الارتفاع.

font change

مقالات ذات صلة