في كل مرة يكتشف علماء الآثار بعض اللقى أو القطع الأثرية الغامضة في تفسيرها، تتحول بالنسبة إليهم مباشرة إلى مصدر ساحر يأسر خيالهم ويجعلهم في حيرة، فيبحثون بشغف حول القطعة الملتبسة التي يجب حلها، وكأن رموزها مشتبكة كلغز ينتظر حلا، فإن كانت من المصنوعات اليدوية غير المعروفة، والمعنى بعيد المنال حول أغراضها، فما الهدف منها يا ترى؟ وهل تعد رمزا روحيا؟ أم جزءا من طقوس دينية قديمة؟ أم لها معنى فلكي؟ ويزيد التحدي مع عدم وجود سجل مكتوب، مثلما حصل بعد اكتشاف جيش الطين الممتد في مقاطعة شيان أو شنشي الصينية، وكذلك الأحجار المنزلقة لـستونهنغ في بريطانيا كشواهد قديمة محيرة، وغيرهما من الآثار الغامضة.
لفك لغز القطع الغامضة المكتشفة، سواء في مواقع قروية، أو قبور، أو في مدن الحضارات القديمة، يعتمد الآثاري أولا على الإشارات البصرية والتحليل المقارن للقطعة، فقبل عقدين حين اكتُشف موقع ساروق الحديد في دبي، ولم يكن قبرا قديما كبقية المواقع الأثرية، بل أحد المراكز الرئيسة لصهر النحاس، يعود إلى نحو ثلاثة آلاف عام، كان من ضمن الأدوات المستخرجة والمُصَنّعَة، حلقات نحاسية شبه مفتوحة وبحجم ضخم، ولا تفسير لها، لتبدو خلخالا لأقدام الجِمال، لكن لا خلاخل للجمال في تاريخ القوافل، إذن ربما كانت الحلقة حرزا لمعتقد ديني قديم... ومهما اختلفت التفسيرات يبقى المؤكد أنها مبهمة، ولعلها ذات معنى أعمق، ليبقى التحليل المقارن من أفضل الطرق لكشف أسرار الآثار.
يعيدني التحليل المقارن إلى ذاكرة الجامعة في تخصص الآثار بلبنان، وحين كان لدينا درس عملي لقطعة مبهمة، حيث غالبا كان البروفسور ينصحنا باستخدام التحليل المقارن، وهو النظر إلى الزمان والمكان، أي أن نبحث عن زمن القطعة المبهمة، ثم نرسم أوجه الشبه شكلا بينها وبين قطع مشابهة لها في مكان آخر، لنكمل تخميناتنا المدروسة حول غرضها أو معناها، حتى نقترب من التفسير ويزول الإبهام عن القطعة ولو قليلا.
لفك لغز القطع الغامضة المكتشفة يعتمد الآثاري أولا على الإشارات البصرية والتحليل المقارن
ولعلّ الثعابين الصغيرة المنحوتة والخفيفة الوزن، وبكميات كبيرة في موقع ساروق الحديد، تستحق استخدام التحليل المقارن، في أنها كانت تباع للناس، لتُستخدم حرزا دينيا، بوصفها رمز الحياة والعيش والخلود في المقارنة بينهما وبين الثعابين المختلفة بذات الشكل في بلاد الرافدين القريبة والتي يصب نهراها في الخليج العربي، ومن مصر القديمة أو الهند والعلاقة التجاريةالوطيدة... لتُعدّ من الرموز المتكررة في كل المواقع الأثرية في أراضي العالم، وبقياس ذلك الزمن، وتصبح المعلومات أوضح من خلال المقارنة في السياق الأوسع.
كما عثر في ساروق الحديد على خنجر نحاسي صدئ وأنيق، وعلى مقبضه صورة منحوتة لوجه إنسان، وهناك تفسيران له، أولهما دنيوي: بأنه عمل فني، وملكية لصاحب الوجه، أي هويته، أما التفسير الديني، فهو مصنوع من اجل استخدامه في طقس جنائزي لصاحبه المتوفى، لوضعه معه في المقبرة مع بقية الإرث، ويصبح الاقتراب أكثر من تفكيك معاني القطعة الفنية المبهمة من حيث الاستعمال قدر الإمكان.
وعودة الى الجامعة، ثمة فائدة بحثية أخرى كنا نستعملها في إطار الجامعة، حين يصعب علينا تفسير قطعة أثرية، أو تفكيك رموزها، يوضع نهج آخر لاستعماله، وكأن المحاولات لا ترغب بالتوقف، وهو أن نجمع خبرات التخصّصات الأخرى في الجامعة، كي يفسروا معنا، وهي تخصصات تدنو من تخصصنا، مثل قسم الأنثروبولوجيا، واللغويين، وقسم التاريخ... وشيء من تبادل المعرفة والتشجيع على التعاون، ونصل الى آراء منوعة أكثر لفك أسرار ومعاني القطع الغامضة.
على أية حال، هذا لا يعني إنكار التقدم التكنولوجي الذي له دور في الإضاءة، بدءا من المسح الضوئي، والأشعة السينية، إلى الليزر وتقنيات التحليل الكيميائي، كلها تساعد في فك الأثر وإشاراته الغامضة.