سلمان رشدي الكاتب السعيد بمصيبته

صاحب "آيات شيطانية" يروي تفاصيل محاولة اغتياله

AFP
AFP
الكاتب البريطاني الأميركي سلمان رشدي

سلمان رشدي الكاتب السعيد بمصيبته

يختتم الكاتب التراجيدي الإغريقي سوفوكليس مسرحيته "أوديب ملكا" بالحكمة التالية: "إياك أن تصف إنسانا بأنه سعيد قبل أن يكون اجتاز نهاية عمره دون أن تلم به مصيبة".

في 11 أغسطس/ آب 2022، كان سلمان رشدي رجلا سعيدا. يكتب عن ذلك اليوم: "أعود بذاكرتي إلى ذلك الرجل السعيد، أنا، وهو يقف هناك يغمره ضوء القمر في ليلة الثلاثاء تلك من شهر أغسطس/ آب. إنه سعيد لأن المشهد أمامه رائع، ولأنه يعشق امرأة، ولأنه انتهى من كتابة روايته (...). تبدو له الحياة جميلة. لكننا نعلم ما لا يعلمه. نعلم أن خطرا مميتا يتربص بالرجل السعيد الذي يقف على ضفة البحيرة. لكنه غافل تماما عن ذلك، مما يفاقم خوفنا عليه".

في صباح اليوم التالي، 12 أغسطس/آب 2022، حلت به المصيبة: 15 طعنة سكين – في العين اليمنى والعنق واليد والصدر والبطن والفخذ. حصل ذلك بعد لحظات من اعتلاء رشدي خشبة مسرح في "معهد تشوتاكوا" (غرب ولاية نيويورك)، فيما كان على وشك إلقاء كلمة عن أهمية حماية الكتّاب المعرضين للخطر. إنها فتوى الخميني الصادرة عام 1989، التي دعا فيها مسلمي العالم إلى قتل مؤلف "آيات شيطانية"، تلك الفتوى التي ظن الجميع، بمن فيهم رشدي نفسه، أنها تقادمت وباتت شيئا من الماضي السحيق، ها هي تعود متجسدة في هادي مطر، الشاب الأميركي العشريني (24 عاما) من أصل لبناني، الذي قرر أن يقتل سلمان رشدي، بعدما قرأ ثلاث صفحات من أعماله وشاهد له بضع محاضرات على "يوتيوب".

يمكن اعتبار هذا العمل فصلا جديدا من المذكرات التي نشرها رشدي  عام 2012

مذكرات

في كتابه "السكين: تأملات بعد محاولة اغتيال"، الصادر حديثا بالإنكليزية عن دار "راندوم هاوس" (وبترجمة فرنسية عن دار "غاليمار")، يروي رشدي محاولة الاغتيال تلك وتبعاتها على حياته. يمكن اعتبار هذا العمل فصلا جديدا، غير متوقع إطلاقا، من المذكرات التي نشرها الروائي البريطاني ذو الأصول الهندية عام 2012 في كتاب عنوانه "جوزيف أنطون"، فسرد فيه تفاصيل حياته خلال السنوات المديدة التي أمضاها مختبئا في حماية الشرطة البريطانية. رشدي لم يكتب تلك المذكرات إلا عندما تراءى له أن حياته لم تعد في خطر، ظانا أن القصة انتهت فصار يمكن روايتها، وهو ما قام به مستخدما ضمير الغائب بدلا من ضمير المتكلم، ربما لأن ذلك أتاح له تأمل ما عاشه من بعد، مثلما يتأمل الروائي مصائر شخصياته.

AP
بعيد محاولة الاغتيال في "معهد تشوتاكوا"، نيويورك، 12 أغسطس/ آب 2022

أما بعدما مزق السكين جسده، جاعلا منه قطع لحم أعاد الجراحون إلصاق بعضها ببعض، فقد صارت المسألة مسألة شخصية لا بل حميمة لا تتيح أي تأمل من بعد، ولا يمكن تناولها – كما يقول رشدي – إلا باستخدام ضمير المتكلم. والمسألة هذه باتت حميمة لا لأنها تتمحور حول الجسد وآلامه فحسب، بل أيضا لأنها بدأت بما يشبه اللقاء الحميم: الثواني السبع والعشرون التي قضاها رشدي مع هادي مطر بينما كان الأخير يطعنه بالسكين، ثوان مرعبة يصفها بأنها "لحظة الحميمية الوحيدة التي عشناها معا. حميمية بين غريبين". ومن قد يتوهم أنها مدة قصيرة فما عليه سوى العد ببطء حتى الرقم 27 متخيلا سكينا لا تنفك تُغرز في جسده مرة تلو أخرى.

الغباء القاتل

من أهم الفوارق بين الشخصية الروائية الخيالية والشخص الحقيقي، هو أن سلوك الأولى وأفعالها ترتكز عادة على دوافع وميول يستطيع القارئ فهمها، من حيث المبدأ، أما سلوك الفرد في عالم الواقع فلا يتقيد بمثل هذا الشرط. لا يعني هذا أن أفعال الفرد الحقيقي لا دوافع لها، بل أن الغموض يكتنفها في أحيان كثيرة، فتبقى عصية على التفسير والإدراك. وهو ما لا يصح في الرواية، ذاك أن الشخصية الخيالية التي لا تفهم دوافع أفعالها وسلوكها إنما هي، في غالب الأحيان، دليل على خلل أو قصور في العمل الروائي، وهو ما يقصده القارئ حين يقول إن هذه الشخصية أو تلك غير مقنعة.

يقول سلمان رشدي إنه لو جعل من هادي مطر شخصية روائية، لوجهت إليه الانتقادات لكون هذه الشخصية غير مقنعة، إذ أنها تخطط لجريمة قتل وتقدم عليها بدم بارد، لا يدفعها إلى ذلك سوى قراءة الصفحات الثلاث الأولى من "آيات شيطانية"، ومشاهدة بضعة مقاطع فيديو على "يوتيوب" لمؤلف تلك الرواية.

حتى ما صرح به هادي مطر للصحافة الأميركية بعد توقيفه لا يسعف البتة في فهم دوافعه الحقيقية. في حديث الى صحيفة "نيويورك بوست"، يبدي إعجابه بالخميني، ثم يقول متكلما عن رشدي: "لا أستسيغ هذا الشخص. لا أعتقد أنه شخص جيد. لا أستسيغه. لا أستسيغه بالمرّة. اعتدى على الإسلام. اعتدى على معتقدات المسلمين". ثم يصفه بالمنافق قائلا: "لا أحب الأشخاص المنافقين مثله". هذا تقريبا كل شيء في ما يخص الدوافع.

ولد هادي مطر في كاليفورنيا لوالدين هاجرا من بلدة يارون جنوب لبنان، ثم انفصلا لاحقا، فعاد الأب إلى بلدته اللبنانية، في حين انتقلت الأم وأولادها الثلاثة من كاليفورنيا إلى نيوجيرسي. تقول والدة مطر إن ابنها تغير بعد عودته من رحلة قصيرة إلى لبنان لزيارة والده في عام 2018، فصار كثير الانزواء يكاد لا يغادر قبو المنزل، ينام نهارا ويصحو ليلا ويعدّ طعامه بنفسه.

من المحتمل، إذن، أنه أصبح متطرفا دينيا، لكن حتى هذا لا يفسّر شيئا. لماذا اختار قتل سلمان رشدي تحديدا، وليس شخصا آخر؟ فلو كان التطرف الديني دافعا كافيا لذلك، لتقاطر الألوف من المسلمين المتطرفين لقتله.

هذه عينة من التساؤلات التي يطرحها رشدي على نفسه، ولا يجد لها أجوبة. يفكر أنه ربما يجدر به طلب لقاء هادي مطر في السجن، عله يحصل منه على جواب ما، ثم يعدل بسرعة عن ذلك، إذ يتخيل أن هذا الشاب، إذا رضي بأن يكلمه، فلن تخرج من فمه سوى جمل قصيرة وغير مترابطة، جمل فارغة وبلهاء كتلك التي أدلى بها للصحافة ("لا أستسيغه كثيرا"، "إنه منافق"، "اعتدى على المسلمين"... إلخ).

 يقول رشدي إنه لو جعل من هادي مطر شخصية روائية، لوجهت إليه الانتقادات لكون هذه الشخصية غير مقنعة

يستعيض رشدي عن هذا اللقاء في عالم الواقع بلقاء آخر متخيل يخصص له فصلا كاملا من كتابه. على مدى نحو 30 صفحة، يتخيل أنه يطرح أسئلة على هادي مطر في السجن، فيستمع إلى أجوبته التي لا تجيب عن شيء. فهادي مطر المتخيل هذا ليس لديه ما يقوله غير ترداد كليشيهات وعبارات مكررة عن الغرب والإسلام والكفار والجنة والنار وما إلى ذلك.

لقد دمر حياته بيديه، مدفوعا إلى ذلك بمجموعة من الكلمات السحرية الفارغة. هادي مطر هو الفراغ متجسدا. والغباء أيضا. غباء قاتل. ولا بد من الإشارة إلى أن سلمان رشدي لا يسمي هادي مطر باسمه ولو لمرة واحدة، بل يشير إليه بكلمة "القاتل" أو بحرف الحاء اختصارا لكلمة "حمار" ("A" بالإنكليزية اختصارا لكلمة "ass").

متفائل بإفراط

إضافة إلى دوافع هادي مطر، ثمة شيء آخر يكتنفه الغموض، لا بل يثير العجب: تفاؤل سلمان رشدي وعشقه الحياة. تفاؤل وعشق يبدو أنهما لم يتأثرا كثيرا بالمصيبة التي حلت به. فعلى الرغم من أن نصف الكتاب تقريبا يدور حول معاناة رشدي الجسدية (الطعن، العمليات الجراحية، الألم، خطر الموت، إعادة التأهيل الجسدي، فقدان البصر في العين اليمنى)، فإن السرد يتسم بنوع من الخفة وبحسّ الفكاهة أيضا، حسّ فكاهة لا تداخله أية سوداوية. بل يمكن حتى القول إن السرد في هذا الكتاب يتسم بشيء من المرح، ولا تشوبه أية مرارة.

AFP
كتاب "السكين" للكاتب البريطاني الأمريكي سلمان رشدي في إحدى المكتبات في لوس أنجلوس، كاليفورنيا في 15 أبريل 2024

يقول رشدي: "لطالما أردت أن أكتب عن السعادة، يدفعني إلى ذلك ما ينطوي عليه الأمر من صعوبة بالغة (...). فالسعادة لا يمكن جعلها مرئية على الورقة. إنها خفية لا ترى". ويتابع أنه كتب الفقرة الأولى من قصة يدعى بطلها هنري، وهنري هذا "يعاني من السعادة مثلما يعاني الناس من الأمراض المستعصية أو من الغباء". وقد أراد رشدي أن يقذف هنري بجميع الويلات والمصائب التي يمكن تخيلها، "فإذا بقي سعيدا بعد كل ذلك (...)، فألا تكون سعادته، وربما كل سعادة، ضربا من ضروب الجنون أو الغباء؟".

  لطالما أردت أن أكتب عن السعادة، يدفعني إلى ذلك ما ينطوي عليه الأمر من صعوبة بالغة، فالسعادة لا يمكن جعلها مرئية على الورقة

سلمان رشدي

يتوقف رشدي عن كتابة هذه القصة، والسبب – كما يشرح – أنه عثر على السعادة. عثر عليها في شخص راشيل إليزا غريفيث، الشاعرة والروائية والمصورة الفوتوغرافية التي تعرّف إليها قبل خمس سنوات من محاولة اغتياله، فوقع في حبها على الفور، ثم تزوج منها. يكتب: "كنت سعيدا – كنا سعيدين – لأكثر من خمس سنوات. ثم حلت بي مصيبة تشبه المصائب التي كنت أريد إنزالها بهنري. فهل يمكن لسعادتنا أن تصمد أمام ضربة كهذه؟".

لا يجيب رشدي عن هذا السؤال، لكن الجواب جلي لمن يقرأ الكتاب: أجل. فمثلما شكلت نجاة رشدي من الموت معجزة (بحسب قوله)، فإن بقاءه رجلا سعيدا معجزة من نوع آخر، يراها القارئ تحصل أمام عينيه، إذا جاز التعبير، لكنه يعجز عن فهمها.

AP
الكاتب سلمان رشدي خلال تسلمه جائزة عن إنجازاته مدى الحياة في مجال السلام من مؤسسة مكتبة فاتسلاف هافيل في مركز فاتسلاف هافيل في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 في نيويورك

لا تصح في رشدي حكمة سوفوكليس التي يختتم بها "أوديب ملكا"، إذ يمكن وصفه بالسعيد حتى بعدما ألمّت به المصيبة. وهذا تحديدا ما يمكن قوله لكارهيه، وهم كثر في العالم العربي: إنه سعيد، لا بل هو كشخصيته هنري مريض بالسعادة.  

font change

مقالات ذات صلة