في يوم السبت 27 يوليو/تموز 2024، وفي حدود الساعة 18:20، انطلق صاروخ إيراني الصنع برأس حربي يزن 53 كيلوغراما من محيط مزارع شبعا، وهي بلدة لبنانية يبلغ عدد سكانها نحو 25 ألف نسمة. وما إن قطع مسافة عشرة كيلومترات فقط، حتى سقط في ملعب كرة قدم في بلدة مجدل شمس بمنطقة الجولان، قبل أن يتمكن الكثير من الشباب الواقفين على حافة الملعب من الاستجابة لصافرات الإنذار التي تحذر من وقوع هجوم، فلقي اثنا عشر شخصا، بينهم أطفال، مصرعهم، ولم يكن بينهم على ما يبدو مواطنون إسرائيليون.
وسارع "حزب الله" بسرعة إلى نفي أي تورط له في الحادث الدموي، على الرغم من ادعائه أنه كان يقصف مواقع عسكرية إسرائيلية في مزارع شبعا في الوقت نفسه تقريبا الذي ضربت فيه مجدل شمس القريبة. ولا يملك أي طرف آخر صاروخا إيراني الصنع من هذا الطراز. ولعل التفسير الأكثر ترجيحا هو أن أحد هذه الصواريخ أخطأ هدفه المقصود ببساطة، دون أن يعترف "حزب الله" بالخطأ، ودون أن يقدم– بالطبع- أي اعتذار.
بعد ما يقرب من ربع قرن من دخول عبارة مزارع شبعا إلى قاموس الصراع العربي- الإسرائيلي، لا تزال هذه المراعي التي تعصف بها الرياح (بمساحة 25 كيلومترا مربعا تقريبا) على سفوح جبل الشيخ نقطة استقطاب للعنف لتبرير استمرار وجود ميليشيا لبنانية مسلحة تسليحا ثقيلا وتمثل مصالح إيران أكثر من مصالح لبنان. وعندما سعيت شخصيا بين عامي 2009 و2011 للتوسط في السلام بين سوريا وإسرائيل، كان هذا الموضوع أساسيا خلال محادثة حاسمة أجريتها مع الرئيس السوري بشار الأسد. وإلى يومنا هذا، ما زلت أكاد لا أصدق ما قاله الأسد لي. واليوم حين أفكر فيما قاله، يبدو لي مقتل 12 شخصا في مجدل شمس أمرا مشينا أكثر.
منذ اللحظة التي شنت فيها إسرائيل عمليات عسكرية في قطاع غزة في أعقاب هجمات "حماس" يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان "حزب الله" يتبادل إطلاق النار مع القوات الإسرائيلية بانتظام، بما يتفق ورغبات إيران. وبحسب ما ورد، وعدت إيران "حماس" بأنها ستدعم توجيه ضربة كبرى على إسرائيل بحماس واستدامة. وجاء هذا الدعم بداية على شكل مضايقات مسلحة من جانب "حزب الله" موجهة إلى شمال إسرائيل والجولان المحتلة، وخاصة منطقة مزارع شبعا، ذلك أن إيران و"حزب الله" كليهما لا يريدان حربا شاملة مع إسرائيل. صحيح أن صواريخ "حزب الله" وقذائفه قادرة على إلحاق أضرار جسيمة بإسرائيل وأن مقاتلي "حزب الله" سيبلون بلاء حسنا في القتال، إلا أن حربا شاملة ستدمر، على الأرجح، أو تضعف بشكل خطير قوة الردع الإيراني على خط المواجهة في لبنان ضد أي هجوم إسرائيلي كبير على إيران. والواقع أن الدفاع عن إيران (الوعد بشن هجوم انتقامي ضخم على إسرائيل من لبنان إذا شنت إسرائيل عملية هجومية كبيرة ضد إيران) هو المهمة العسكرية الرئيسة لـ"حزب الله".
وعلى هذا يسعى كل من إيران و"حزب الله" إلى إيجاد توازن دقيق بين بذْل ما يكفي من الجهد العسكري لإظهار التضامن مع "حماس" وتجنب الانخراط في حرب شاملة مع إسرائيل. والواقع أن قيادة "الحزب" لا تشرح لأنصار "الحزب" ومقاتليه– ناهيك عن اللبنانيين الآخرين– الدور الحيوي الذي يلعبه "الحزب" في الدفاع الاستراتيجي عن إيران. فبالنسبة لأنصاره، يمثل "حزب الله" الحركة التي مكنت طائفة المسلمين الشيعة، التي كثيرا ما جرى تهميشها وتجاهلها واستغلالها سواء في دولة لبنان الحالية أو أيام السيطرة العثمانية.
"الخط الأزرق" والمهمة الحقيقية
بالنسبة للبنانيين عموما، يمثل "حزب الله" نفسه "المقاومة اللبنانية"، التي أجبرت إسرائيل على إخلاء جنوب لبنان في مايو/أيار 2000 بعد نحو ثمانية عشر عاما من القتال ضدها. ولقد أدى قبول الطبقة السياسية اللبنانية المستمر لوضع "حزب الله" كـ"مقاومة لبنانية" بعد الانسحاب الإسرائيلي إلى دعم رفض المنظمة نزع سلاحها وفقا لقرارات الأمم المتحدة. ولقد حصل "حزب الله" على الغطاء السياسي اللبناني الذي مكنه من التركيز على مهمته الرئيسة- وإن لم تكن معلنة- في الدفاع عن إيران.
ولكن ما الذي تقاومه "المقاومة اللبنانية" على وجه التحديد؟ يقدم "حزب الله" وحلفاؤه، من لبنانيين وغيرهم، إجابة كاذبة، ولكنها واضحة: الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية. ويزعم البعض أن هذا الاحتلال استمر بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في مايو/أيار 2000 وبعد رسم "الخط الأزرق" الذي أكدت فيه الأمم المتحدة انسحاب إسرائيل. ولقد أدى انسحاب إسرائيل ومصادقة الأمم المتحدة على اكتمال هذا الخط إلى وضع "حزب الله" في معضلة: كيف يبرر بقاءه قوة مسلحة إذا كانت مهمة المقاومة قد أنجزت؟
وقد بادر ضابط في مديرية الاستخبارات في القوات المسلحة اللبنانية لمساعدة "حزب الله" فقدم له المبرر الذي يحتاجه. وكان ذلك الاكتشاف هو الخطوة الأولى التي انتهت إلى الأحداث المروعة في مجدل شمس يوم 27 يوليو 2024.
عندما سيطرت فرنسا على لبنان وسوريا بين الحربين العالميتين، لم تكن صارمة ولا متسقة في ترسيم الحدود بين الدولتين، وخاصة في المناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة. وعلى الحافة الشمالية لمرتفعات الجولان، تركت فرنسا درجة من الغموض فيما يتعلق بالحدود بين سوريا ولبنان. وتفاقم هذا الارتباك بسبب حقيقة أن بعض سكان بلدة شبعا اللبنانية كانوا بلا شك يمتلكون مراعي على المرتفعات الواقعة جنوب البلدة، وهي المناطق التي يشار إليها محليا باسم "مزارع شبعا".
وقد حكمت سوريا المستقلة هذه المنطقة كجزء من مرتفعات الجولان، وهي حقيقة تدعمها الخرائط العسكرية السورية واللبنانية. ولم يبد لبنان المستقل أي اعتراض حقيقي على السيادة السورية على المزارع المعنية، بل طالب فقط بإجراء محادثات ثنائية تهدف إلى توضيح الحدود، وهي المناقشات التي قد تؤدي (من وجهة النظر اللبنانية) إلى دمج المزارع في لبنان.
وقبل حرب يونيو/حزيران 1967، دارت مناقشات عرضية بين لبنان وسوريا بشأن مزارع شبعا، ولكن لم يتم إجراء أي تغييرات، فقد ظلت المزارع ضمن الأراضي السورية. وبدا أن الخرائط على الأوراق النقدية اللبنانية تشير إلى اعتراف بيروت بالسيادة السورية. وعلاوة على ذلك، عندما استولت إسرائيل على مرتفعات الجولان، بما في ذلك مزارع شبعا، من سوريا في يونيو 1967، لم تزعم بيروت أنها استولت على أراضٍ لبنانية. في الواقع، لم يتم تقديم أي ادعاء من هذا القبيل على مدى السنوات الثلاث والثلاثين التالية. ولطالما اعتبرت قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك (أندوف)، التي كانت تقوم بدوريات في مرتفعات الجولان منذ اتفاق فض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل عام 1974، مزارع شبعا جزءا من تفويضها لحفظ السلام بين إسرائيل وسوريا، بما يتفق مع خرائط وقف إطلاق النار لعام 1974.
الشرع إلى عنان: شبعا لبنانية
عندما تم إنشاء الخط الأزرق بين لبنان وإسرائيل في يونيو 2000، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أن القوات الإسرائيلية انسحبت بالكامل من لبنان وفقا لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 425. وقتها، أثارت الحكومة اللبنانية بعض الاعتراضات حول أجزاء من الخط الذي يفصل لبنان عن إسرائيل، مدعية (وعلها كانت على حق) أن الخط الأزرق في بعض المناطق لا يتطابق تماما مع خط الهدنة بين لبنان وإسرائيل لعام 1949. ومع ذلك، كانت هذه التناقضات طفيفة فيما يتعلق بالأراضي المتنازع عليها. ولكن ادعاء "حزب الله"، الذي دعمته الحكومة اللبنانية، بأن جزءا من مرتفعات الجولان السورية المحتلة من قبل إسرائيل هو لبناني هو الذي مهد الطريق لاستمرار الصراع المسلح، على الرغم من انسحاب إسرائيل من لبنان في مايو 2000.
وفي عام 2000، لم تكن إيران هي اللاعب الرئيس وراء الكواليس، بل كانت سوريا، هي من يلعب ذلك الدور. وكانت دمشق تأمل في تسهيل انسحاب إسرائيل من لبنان مقابل اتفاق يعيد مرتفعات الجولان وأجزاء من وادي نهر الأردن إلى السيطرة السورية. ولكن عندما اختار رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك الانسحاب من لبنان من جانب واحد، خلصت سوريا إلى أن وجود "حزب الله" المسلح سيتحول من نقطة قوة إلى نقطة ضعف، تفيد إسرائيل أكثر من سوريا.
وعندما انحازت حكومة لبنان إلى مزاعم "حزب الله" بشأن مزارع شبعا، اختارت دمشق دعمها بشكل غير رسمي. وفي السادس عشر من مايو 2000، اتصل وزير الخارجية السوري فاروق الشرع بالأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، مؤكدا أن مزارع شبعا لبنانية. وأشار عنان إلى أن لبنان وسوريا لم يقدما أي دليل يثبت نقل الأراضي، وأن لبنان لم يحدد قط مزارع شبعا كمكان ينبغي أن تعمل فيه قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان لمدة 22 عاما. وباختصار، كان هذا الادعاء احتيالا سافرا.