أضاف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب "العملات المشفرة" الى برنامجه الانتخابي أملا في ضم مجتمع التشفير الذي بات يتألف من نحو 50 مليون أميركي الى ناخبيه. من هنا يفهم اصراره على حضور مؤتمر ناشفيل الذي عقد أخيرا وضم حشدا من المعنيين بالتكنولوجيا المالية حيث وعد الحاضرين بأنه سيعمل في حال فوزه على "ضمان أن تكون بلادهم عاصمة العملات المشفرة على هذا الكوكب"، وعلى "ان يتم تعدين عملات بيتكوين المستقبلية في بلادهم".
كما تعهد بإنشاء مجلس استشاري رئاسي للعملات المشفرة واعفاء غاري غينسلر، رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصة، من مهامه لنهجه العدواني ضد هذه العملات، وبأن يكتب قواعد نشاط التشفير أشخاص يناصرون هذه الصناعة. وبرر ترمب تعلقه "المفاجئ" بالبيتكوين بأن هذه العملات "تمثل الحرية والسيادة والاستقلال عن الحكومة وسيطرتها".
وقد لاقى خطابه رضى أثرياء صناعة التشفير وفي مقدمهم الأخوان تايلر وكاميرون وينكلووس، وهما من أوائل المستثمرين بالبيتكوين، اللذان قدما تبرعات سخية لحملته الانتخابية بلغت أربعة ملايين دولار بما فيها البيتكوين والإيثيريوم والعملة المستقرة المرتبطة بالدولار الأميركي "USDC". وكانت لجنة الانتخابات الفيديرالية قد سمحت بتلقي هذه العملات كمساهمات منذ عام 2014 وتم رد التبرعات التي تجاوزت 844.600 دولارا للفرد وهو الحد القانوني المسموح به.
لطالما حذر ترمب من العملات المشفرة قبل سنوات في مقابلات علنية شهيرة وقال بأنها تهديد لسيادة الدولار وعملية احتيال
يناقض خطاب ترمب في ناشفيل ما كان ذكره في تغريدته قبل خمس سنوات في 12 تموز/يوليو 2019 حين كتب انه يزدري البيتكوين والعملات المشفرة، فهي ليست أموالاً وقيمتها متقلبة للغاية ومدعومة من الهواء، محذرا من أنها تسهل المضاربة والسلوك غير القانوني كتجارة المخدرات. بعد ثلاثة أيام قدم وزير الخزانة في حكومته ستيفن منوشين مشروع قانون لتشديد تنظيم الأصول المشفرة.
وكرر ترمب لاحقا في مقابلة مع "فوكس بيزنس" عام 2021 حذره من عملة البيتكوين واصفا اياها بأنها تهديد لسيادة الدولار وعملية احتيال. وهو موقف أكدته أمور لاحقة منها سجن سام بانكمان فريد، مؤسس بورصة العملات المشفرة FTX وكتاب الصحافي جاكوب سيلفرمان "المال السهل: العملة المشفرة ورأسمالية الكازينو والعصر الذهبي للاحتيال" الذي ظل لأسابيع الأكثر مبيعا.
كيف تحول ترمب
حصلت بداية التحول في بوصلة ترمب لصالح البيتكوين في شهر أيار/مايو المنصرم حين كتب على موقع "Truth Social": "أنا إيجابي للغاية ومنفتح في شأن شركات العملات المشفرة ولكل الأمور المتعلقة بهذه الصناعة الناشئة ويجب أن تكون بلادنا رائدة في هذا المجال"، وتوج تحوله هذا باختياره جي دي فانس، الجمهوري المؤيد بشدة للعملات المشفرة نائبًا له.
تزامن تأييد ترمب للعملات المشفرة مع رفضه المطلق لإصدار الدولار الرقمي، كما فعلت بعض الدول كالصين، وحجته في ذلك أن الأمر سيكون من قبيل الاستبداد الحكومي
تزامن تأييد ترمب الكامل للعملات المشفرة مع رفضه المطلق لإصدار الدولار الرقمي، كما فعلت بعض الدول كالصين وكما تتحضر لذلك دول اخرى كالدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي، وحجته في ذلك ان الأمر سيكون من قبيل الاستبداد الحكومي. في المقابل يرى الاحتياطي الفيديرالي أن مثل هذه العملة الرقمية "تعزز المدفوعات بشكل أسرع وأرخص وتوسع سبل وصول المستهلك إلى النظام المالي".
خطورة توجهات ترمب المشفرة
من جهته يرى جوليان برات، الباحث لدى "البوليتكنيك" الفرنسية، أن العملة الرقمية مثل العملة القانونية، لكن الأولى لن تكون عرضة لخطر التخلف عن السداد بالنسبة الى حاملها، على عكس العملات المشفرة التي يمكن أن تخضع لتقلبات حادة، ومن دون دعم وإطار قانوني يحكم مسؤوليات التعامل بها. لكن لرقمنة العملات عيوبا أهمها امكان تعطيلها والهجوم على سرية البيانات واطلاقها المنافسة المعقدة بين القطاعين العام والخاص واثارتها موضوع ثقة المتعاملين بها الذين يستخدمون عادةً وسائل دفع غير مادية (البطاقات المصرفية، والتحويلات والمدفوعات من طريق الهاتف أو من خلال الأنظمة المصرفية وغيرها)، ولا يرى الكثير منهم ما هو الجديد الذي ستجلبه لهم العملة الرقمية.
إذا تحققت رؤية أنصار العملات المشفرة للمستقبل، فإن "العقود الذكية" ستحكم الوساطة المالية في عالم من التمويل اللامركزي
الخطورة في المنحى الذي يعتزم ترمب قيادة بلاده والعالم اليه، هو بالتمام ما ذكر انه يخشاه من اعتماد الدولار الرقمي حول "استبداد الحكومة بالمواطنين". فالخطر هنا متأتٍّ من "استبداد القطاع الخاص" المشغل للعملات المشفرة. كتب الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي في يوم من الأيام ان "المال هو الحرية المنقدة"، اي حرية الخيار المسندة الى نقد سلعي كالذهب والفضة في البداية، والى نقد ورقي ومعدني صادر من المصرف المركزي لاحقا. لكن الوضع سيكون مختلفا تماما إذا كنا سنعيش في عالم يحكمه ذكاء اصطناعي يتمتع بمعلومات كاملة وقدرات معالجة لا نهائية. عندها قد لا يكون للمال الدور الملازم للحرية، بحيث يكون في مقدور التكنولوجيا إصدار "أموال قابلة للبرمجة" لغرض خاص واستخدام محدود وحق أولوية، ومن الممكن استخدام مثل هذه الرموز الرقمية لمنع الاستعمال المنحرف في الممنوعات والأعمال غير المشروعة وغيرها.
وإذا تحققت رؤية أنصار العملات المشفرة للمستقبل، فإن "العقود الذكية" سوف تحكم الوساطة المالية في عالم من التمويل اللامركزي حيث يمكن للخوارزميات المتطورة أن تحل محل البنوك المركزية واخفاقاتها في إدارة السياسة النقدية، وستكون الأمور عندها أفضل علامة على أن الذكاء الاصطناعي استولى فعليا على السلطة من خلال سيطرته على المال.