"أم جرسان" السعودية... هنا استقر الإنسان على مدى 10 آلاف عامhttps://www.majalla.com/node/321721/%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%85-%D9%88%D8%AA%D9%83%D9%86%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7/%D8%A3%D9%85-%D8%AC%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%87%D9%86%D8%A7-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%85%D8%AF%D9%89-10-%D8%A2%D9%84%D8%A7%D9%81-%D8%B9%D8%A7%D9%85
يقع كهف "أم جرسان" داخل حرة خيبر وهي منطقة بركانية، في منطقة المدينة المنورة شمال غرب المملكة العربية السعودية. ويعد حاليا أطول أنبوب حمم معروف في شبه الجزيرة العربية ويبلغ طوله الأفقي 1481 مترا ويتميز بممرات يبلغ ارتفاعها من 8 أمتار إلى 12 مترا وعرضها الأقصى 45 مترا.
الزمان: قبل أكثر من 10 آلاف عام.
المكان: شبه الجزيرة العربية وتحديدا منطقة كهف "أم جرسان".
كان المناخ شديد الحرارة في تلك المنطقة الجرداء الممتلئة برمال الصحراء. على امتداد البصر، لاحظ أحدهم وجود كهف عملاق قد يساعده على تأمين الحماية والظل، وربما بعض الغذاء لقافلته. اتجه الرجل نحو الكهف ومعه صحبه. وهناك، وجد الظل وبعض النباتات وربما أيضا قليلا من المياه.
من دون تردد، استقر الرجل وصحبه في الكهف، مؤمنين بأنهم وجدوا ملاذا موقتا يمكنهم الاستفادة منه في رحلتهم الطويلة. بات الكهف مأوى لهم في تلك الأجواء القاسية. ويبدو أنهم قرروا وقف الرحلة، والاستقرار لبرهة من الوقت في ذلك المكان.
مأوى موقت
كشفت دراسة حديثة نُشرت في دورية "بلاس وان" أجريت في كهف "أم جرسان"، الواقع في شمال المملكة العربية السعودية، عن رؤى جديدة حول السكان الرعويين الذين سكنوا تلك المنطقة قديما.
هناك العديد من المواقع الأثرية في شمال شبه الجزيرة العربية التي تؤكد حقيقة أن المنطقة شهدت نموا سكانيا كبيرا خلال عصر الهولوسين
تقول تلك الدراسة إن البشر استخدموا ذلك الكهف كمأوى بشكل متقطع لمدة تصل إلى عشرة آلاف عام. وعلى الرغم من أن الكهف لم يكن بمثابة موقع للسكن الدائم، إلا أنه لعب دورا حاسما في توفير المأوى والظل والوصول إلى المياه للرعاة العابرين ومواشيهم. كما يتوقع الباحثون أن يكون الكهف على الأرجح لعب دورا في أنشطة الصيد.
تشير الأبحاث السابقة إلى أن شبه الجزيرة العربية لم تكن دائما صحراء قاحلة. ففي الماضي البعيد، كانت هذه المنطقة تحتوي على بحيرات وأنهار ومساحات خضراء مورقة، مما جعلها ملجأ للنباتات والحيوانات والبشر على حد سواء. جذبت هذه الموارد المائية والبيئة الخضراء الكثير من الحيوانات والبشر من مناطق أخرى مثل أفريقيا إلى شبه الجزيرة العربية، وربما منها إلى بقية العالم.
بيئة غنية
كانت بيئة الصحراء العربية متنوعة وغنية تدعم الحياة والتنوع البيولوجي. فاستقر بعض البشر في تلك المنطقة وعاشوا فيها لقرون طويلة، فيما فضل البعض الآخر إكمال "رحلة الهجرة الإنسانية" إلى بقاع أخرى من عالمنا الفسيح.
بعد ذلك، تبدلت البيئة وتغيرت المناظر الطبيعية. ويعتقد أن تحول شبه الجزيرة العربية إلى صحراء حدث تدريجيا على مدى آلاف السنين، بدءا من نحو 10 آلاف سنة خلال عصر الهولوسين.
تكشف تلك الدراسة لمحة من حياة البشر خلال تلك الفترة، إذ اتسمت تلك المنطقة بصعوبات هائلة وتحديات كبيرة للغاية من ضمنها ندرة الموارد والمناخ الجاف والحرارة الشديدة.
وسلطت الأبحاث الأثرية الحديثة في شمال شبه الجزيرة العربية الضوء على التاريخ الغني للمنطقة، وكشفت عن مجموعة متنوعة من الاكتشافات الأثرية والحفريات. فخلال عصر البليستوسين، كان الاحتلال البشري في هذه المنطقة متقطعا، وغالبا ما تزامن مع فترات المناخ الملائم. مع ذلك، تمكن البشر مع بداية عصر الهولوسين، من الاستقرار بشكل أكثر ثباتا في المنطقة، حتى خلال فترات الجفاف.
مواقع أثرية
هناك العديد من المواقع الأثرية في شمال شبه الجزيرة العربية التي تؤكد حقيقة أن المنطقة شهدت نموا سكانيا كبيرا خلال عصر الهولوسين، خصوصا خلال الفترة الرطبة التي تساقطت فيها الأمطار بمعدل جيد منذ نحو 10600 عام.
وشهدت تلك الفترة إدخال الماشية المحلية وتطوير تقنيات تسخير المياه وزراعة الواحات خلال العصر البرونزي، مما سهل الاستيطان حتى مع عودة الظروف القاحلة.
الجدير بالذكر أن السمات المرتبطة عادة بالعصر الحجري الحديث، مثل الاستقرار وصناعة الفخار والزراعة، كانت غائبة في شمال شبه الجزيرة العربية حتى العصر البرونزي.
وتشمل الاكتشافات الأثرية في الدراسات السابقة، قطعا حجرية ذات أوجه تشابه مع الثقافات المشرقية التي يعود تاريخها إلى نحو 12250 عاما مضت. كما تشير مواقع المواقد، التي غالبا ما ترتبط برواسب البحيرات القديمة، إلى وجود بشري طويل الأمد في مناطق متعددة. كما عثر الباحثون أيضا على هياكل دائرية ومستطيلة من الحجارة التي يعود تاريخها إلى نحو 7200 عام، وهي من أقدم الهياكل في المنطقة ويبدو أنها كانت تستخدم لأغراض شعائرية. وقد تكون لعبت دورا حاسما في الحفاظ على الروابط الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من خلال عادات مثل الولائم.
الأدلة تؤكد تكرار عمليات استيطان كهف "أم جرسان" بدءا من العصر الحجري الحديث على الأقل امتدادا لآلاف السنين
ويقول المؤلف المشارك في الدراسة، ماثيو ستيوارت، وهو عالم في جامعة "غريفيث" الأسترالية، إن تلك الاكتشافات تؤكد "وجود استيطان بشري بحجم كبير في تلك المنطقة".
لكن الدراسة الجديدة تُقدم أمرا مختلفا تماما. إذ تشكل الدراسة الجديدة أول دليل على استيطان الإنسان للكهوف في شبه الجزيرة العربية. ويقول ستيوارت في تصريحات خاصة لـ"المجلة" إن الأدلة تؤكد تكرار عمليات استيطان كهف "أم جرسان" بدءا من العصر الحجري الحديث على الأقل امتدادا لآلاف السنين.
مميزات كهف "أم جرسان"
يقع كهف "أم جرسان" داخل حرة خيبر، وهي منطقة بركانية على بعد 130 كيلومترا شمال المدينة المنورة، شمال غرب المملكة العربية السعودية. ويعد كهف "أم جرسان" حاليا أطول أنبوب حمم معروف في شبه الجزيرة العربية ويبلغ طوله الأفقي 1481 مترا ويتميز بممرات يبلغ ارتفاعها من 8 أمتار إلى 12 مترا وعرضها الأقصى 45 مترا.
يمكن الوصول إلى الكهف عبر ثلاثة مداخل مختلفة. وكان الوصول إليه صعبا حتى 2017 عندما قامت الهيئة العامة السعودية للسياحة والتراث الوطني ببناء جدار ودرج عند المدخل الرئيس.
يتميز الممر الشرقي لكهف "أم جرسان"، وهو أيضا فسيح يبلغ ارتفاعه نحو عشرة أمتار وعرضه 30 مترا، بوجود هياكل حجرية دائرية ومستطيلة، مما يشير إلى الاستخدام البشري للكهف في الماضي. كما توجد أيضا في مناطق أخرى من الكهف أدلة على تراكم عظام الضبع المخطط وحيوانات أخرى.
ووجد العلماء أيضا شظايا لجماجم بشرية انتشلت من مواقع مختلفة داخل "أم جرسان"، ويعتقد الباحثون أن تلك الشظايا ناجمة عن صراعات بين البشر والضباع.
في تلك الدراسة، أجرى فريق متعدد التخصصات مسحا وحفرا شاملين في كهف "أم جرسان" لتقييم المواد الأثرية والحفريات والرسوبية المرئية وتحديد المناطق المحتملة التي تحتوي على رواسب تحت السطح.
في البداية، بدأت عملية حفر اختبارية بقياس متر مربع واحد بالقرب من حفرة تم حفرها سابقا على طول الجدار الشمالي لمدخل المنطقة (ج) من الكهف، ليجد الباحثون مجموعة متراكمة من عظام الحيوانات.
بعد ذلك، قام الباحثون بعملية تُعرف باسم التأريخ، باستخدام التلألؤ المحفز بصريا(OSL)، وهي طريقة تستخدم لمعرفة المدة التي مضت منذ دفن مواد معينة تحت الأرض.
من كهف "أم جرسان"، أخذت ثلاث عينات من أعماق مختلفة تحت الأرض. وتم إرسال هذه العينات إلى مختبر خاص في جامعة رويال هولواي في لندن، حيث تم تحضيرها بعناية وأزيلت الأجزاء الخارجية منها واستخدمت لقياس مقدار الضوء الذي تعرضت له ومدى رطوبتها.
ثم تمت معالجة الرواسب المتبقية بالمواد الكيميائية للتخلص من أي كربونات أو مواد عضوية. بعد ذلك، تمت غربلة العينات لفصل الجزيئات ذات الحجم المحدد.
لتأكيد عمر العينات، استخدم الباحثون طريقة التأريخ بالكربون المشع وأرسلوا عينات العظام إلى مختبر في اسكتلندا حيث تم تحليلها بتلك الطريقة الخاصة.
تكيفات السكان القدماء
أسفرت أعمال التنقيب بالقرب من مدخل أحد الكهوف عن اكتشاف أكثر من 600 عظمة حيوانية وبشرية و44 قطعة من الأدوات الحجرية، ويعود تاريخ أقدم الأدوات الحجرية إلى نحو عشرة آلاف عام مضت، وكان عمر أقدم شظايا العظام البشرية نحو سبعة آلاف عام.
ووفقا لهيئة التراث في المملكة العربية السعودية، شملت الحفريات بقايا لعظام حيوان الضبع المخطط، والجمال، والخيل، والغزال، والوعل، والماعز، والبقر، إضافة إلى الحمير البرية المتوحشة، وجمعيها بحالة جيدة رغم مرور زمن طويل.
وأظهر تحليل البقايا العظمية البشرية باستخدام النظائر المشعة، اعتماد الجماعات البشرية على تناول اللحوم بشكل أساسي. وبمرور الزمن، وجدت دلالات على أكلهم النباتات، مما يعطي مؤشرات إلى ظهور الزراعة.
كما يشير التحليل النظائري للبقايا الحيوانية إلى أن الحيوانات العاشبة تغذت في المقام الأول من الأعشاب والشجيرات البرية، مما يشير إلى الاعتماد على النباتات الطبيعية بدلا من النباتات المزروعة.
لا يوجد الكثير من أدلة الحفريات في السعودية، إذ تعمل الرياح والحرارة الحارقة على تحويل العظام والمصنوعات اليدوية إلى غبار، مما يجعل دراستها صعبة
وتسلط هذه النتائج الضوء على التكيفات الغذائية للسكان القدماء مع الظروف البيئية المتغيرة وتوافر الموارد، كما تؤكد أيضا قدرة الدراسات المتعددة التخصصات في الكهوف وأنابيب الحمم البركانية على تعزيز فهمنا للتاريخ البشري والتفاعلات البيئية في المنطقة.
أدوات حجرية ورسومات صخرية
ويقول ستيوارت إن الفريق اكتشف أدوات حجرية ورسومات صخرية في "أم جرسان" وفي المناظر الطبيعية المحيطة بها. وتشير العصور التي تم تقديرها إلى أن زيارة "أم جرسان" بدأت على الأقل خلال العصر الحجري الحديث وامتدت لآلاف السنين، إذ "توضح الرسومات الصخرية مجموعة متنوعة من مشاهد الرعي التي تشمل الماشية، كما أن هناك أيضا مشاهد صيد مصورة، تتضمن في بعض الحالات استخدام الكلاب".
ولا يوجد الكثير من أدلة الحفريات في السعودية، إذ تعمل الرياح والحرارة الحارقة على تحويل العظام والمصنوعات اليدوية إلى غبار، مما يجعل دراستها صعبة.
وبحسب ستيوارت فإن الكهوف وأنابيب الحمم البركانية في المملكة العربية السعودية قد يوجد فيها عدد من الأدلة المحمية من تلك الظروف، وبالتالي هي تمثل موردا غير مستغل للمواد البيولوجية والأثرية، "ومن خلال التحقيق في هذه الأمور، سنكون قادرين على سد الثغرات المهمة في السجلات البيولوجية والبيئية القديمة، والأثرية أيضا".