حين استضاف البلاط العباسي أول بطولة عالمية في الشطرنج

لعبة بلغت أوج مجدها في التراث العربي

Shutterstock
Shutterstock

حين استضاف البلاط العباسي أول بطولة عالمية في الشطرنج

في عصر الدولة العباسية وضع وزير المأمون الحسن بن سهل، شروطا وصفات يجب أن تتوافر في الأديب والمثقف، يقول: "على الأديب معرفة ضرب العود، ولعب الشطرنج والصولجان، وبعض الطب، والهندسة، والفروسية، والشعر، والأدب، وأيام الناس، وأحاديث السمر، ومحاضرات المجالس".

على الرغم من أن الفقهاء كان لهم موقف مناوئ ضد لعبة الشطرنج حيث اشتهر القول بتحريمها وبيعها ولعبها، وقال الذهبي عنها: "أما الشطرنج فأكثر العلماء على تحريم اللعب بها سواء كان برهن أو بغيره أما بالرهن فهو قمار بلا خلاف وأما إذا خلا عن الرهن فهو أيضا قمار حرام عند أكثر العلماء". إلا أن الماوردي ذكر في "الحاوي الكبير" أن عددا من الصحابة لعبوا الشطرنج ومنهم: "الحسن بن علي، وأبو هريرة، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عباس"، وكان عمر بن الخطاب يمر بهم ويشاهد لعبهم"، حيث روى الخطيب مولى سليمان بن يسار قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمر بنا ونحن نلعب بالشطرنج فيسلم علينا ولا ينهانا.

وروى الضحاك بن مزاحم قال: رأيت الحسن بن علي مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: ادفع ذا ودع ذا. وروى أبو راشد قال: رأيت أبا هريرة يدعو غلاما فيلاعبه بالشطرنج. وروى عبد الله بن عباس: أنه كان يجيز الشطرنج ويلعب بها.

لبّ الرجال

وروي عن عدد من كبار التابعين لعب الشطرنج، منهم سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والشعبي، وكان المحدث الفقيه الكبير محمد بن سيرين يلعب بالشطرنج، ويقول عنها: هي: "لب الرجال".

روى الخطيب مولى سليمان بن يسار قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمر بنا ونحن نلعب بالشطرنج فيسلم علينا ولا ينهانا

وفي سنن البيهقي، قال الشافعي: لعب سعيد بن جبير بالشطرنج من وراء ظهره فيقول: "بأيش دفع كذا؟"، قال: بكذا، قال: "ادفع بكذا"... كان محمد بن سيرين وهشام بن عروة بن الزبير يلعبان بالشطرنج استدبارا، وروي عن الشعبي أنه كان يلعب به.

‎لعبة الشطرنج بلغت مجدا وازدهارا في عصر الحضارة الإسلامية، حيث أقيمت لأجلها منافسات دولية، وقد شغف هارون الرشيد بها، الى درجة أنه أرسل إلى شارلمان ملك الروم هدية عبارة عن رقعة شطرنج بديعة الصنع، وفي عهده جرت أول مباراة عالمية على مستوى آسيا، أقيمت في مجلسه وكان بطلاها جابر الكوفي، وزيراب قطان أشهر أبطال اللعبة، وكان الرشيد يكرم الفائز بنفسه. ‎ولا عجب إذن حين يقول الجاحظ: "من أكثر الأنواع مداولة بين الخلفاء والعظماء في ذلك العصر هو لعبة الشطرنج".

Shutterstock
الحجرة النبوية داخل المسجد النبوي، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية

وفي القرن الثالث الهجري حمل زرياب معه لعبة الشطرنج من بغداد إلى الأندلس، تلك اللعبة التي عرفها العرب قديما من بلاد الهند وفارس، واشتهرت في الأندلس على أنها لعبة العرب، وهناك بدأت تنتشر اللعبة شيئا فشيئا داخل الممالك المسيحية في إسبانيا، حتى عبرت الحدود إلى جنوب فرنسا، حيث تعرفت اليها أوروبا لأول مرة.

بلاط صلاح الدين الأيوبي

‎وقد كان للعبة الشطرنج الموقع الأثير في بلاط صلاح الدين الأيوبي، ذلك الرجل الذي خاض غمار حروب كثيرة، ووحد جبهته الداخلية، وبسط نفوذه على مصر والشام، وواجه الحملات الصليبية بقوة وضراوة، إلا أنه رغم ذلك كان يحب أن تقام لعبة الشطرنج في مجلسه، ولا يجد في ذلك أدنى غضاضة، أو تعارض مع أسلوب حياته. وينقل ياقوت الحموي في "معجم الأدباء" أن صلاح الدين كان يلعب الشطرنج مع أحد جلسائه، وكان الشاعر أسامة بن منقذ يتابع مجريات اللعبة، فطلب من صلاح الدين أن يأذن له بقراءة بيتين له قالهما في الشطرنج، فأذن له، فأنشد:

‎انظر إلى لاعب الشطرنج يجمعها

مغالبا ثم بعد الجمع يرميها

‎كالمرء يكدح للدنيا ويجمعها

حتى إذا مات خلاها وما فيها

وأفرد أبو منصور الثعالبي في كتابه "اللطائف والظرائف" فصلا بعنوان "باب مدح الشطرنج"، وأحسن ما فيه قول ابن المعتز:

‎يا عائب الشطرنج من جهله

وليس في الشطرنج من باس

‎في فهمها علم وفي لعبها

شغل عن الغيبة والناس

‎وتذهل العاشق عن عشقه

وصاحب الكاس عن الكاس

‎وصاحب الحرب بتدبيرها

يزداد في الشدة والباس

‎وأهلها في حسن آدابهم

من خير أصحاب وجلاس

‎وسئل محمد المزني عن المتلاعبين بالشطرنج، فقال: "إذا سلمت أيديهما من الضرب والخسران وألسنتهما من الفحش والعدوان، وصلاتهما من السهو والنسيان كانت أدبا بين الإخوان والخلان".‎ وكان المأمون يقول: "عجبت من ذراع في ذراع يديرها العقلاء منذ دهر طويل فلم يقفوا لها على غاية. وكان سعيد بن جبير، يقول: ما وضع هذا الشطرنج إلا لأمر عظيم".

 في عهد هارون الرشيد جرت أول مباراة عالمية على مستوى آسيا، أقيمت في مجلسه وكان بطلاها جابر الكوفي وزيراب قطان

واختتم الإمام السخاوي كتابه "عمدة المحتج في حكم الشطرنج" قائلا: "لا يعرف لهو أحسن من الشطرنج، ولم تزل ملوك الأعاجم تعلمه أولادها مع سائر الآداب، حتى كان من لا يلعب به متأخرا عندهم عن نظرائه ممن يلعبه، وكذلك كان الأمر في بني العباس. ولذلك نرى في عصرنا أن الرفيع الرتبة في العلم ممن لا يلعبه يكون عند كثير من أرباب الدولة متأخر الرتبة عمن هو دونه ممن يلعبه بكثير، ولهذا تشتد منهم العناية به فيما يرومه من الوظائف الدينية التي لا يستحقها إلا أفراد من أئمة العصر".

تصنيف وتأليف

و‎لم يقتصر الأمر على مجرد اللعب والمنافسة بل انتقل الاهتمام بهذه الألعاب إلى حقل التصنيف والتأليف في خطط اللعبة وحيلها، وألغازها، ومن أشهر هؤلاء المصنفين، الأديب أبو بكر الصولي المتوفى ٣٣٥هـ، وما زالت مؤلفاته في الشطرنج ذات قيمة وحضور حتى اليوم، بل إن حيله وافتتاحياته الشهيرة أثرت في كثير من الأوروبيين والروس الماهرين في اللعبة.

Getty Images
هارون الرشيد - الخليفة العباسي الخامس (786-809)

‎أصبح المختصون في هذا الفن يطلق عليهم لقب "الشطرنجيون"، الماهرون والحاذقون فيها، والذين ألفوا فيها المؤلفات، ومن أبرز تلك الكتب: "كتاب الشطرنج" لأبي العباس أحمد بن محمد بن الطبيب السرخسي، وكتاب "تضاعيف بيوت الشطرنج" لأبي يوسف المصيصي، يعقوب بن محمد الحاسب، وكتاب "الشطرنج" لأبي زيد البلخي، وكتاب "الشطرنج" لأبي بكر محمد بن يحيى بن عبد الله بن العباس المعروف بالصولي الشطرنجي، وكتاب "منصوبات الشطرنج" لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن صالح، وكتاب "منصوبات الشطرنج" لابن الإقليدسي، وأيضا لأبي الفرج محمد بن عبيدالله اللجلاج، وكتاب "إيقاظ المصيب في ما في الشطرنج من المناصيب"، للشيخ تاج الدين علي بن محمد؛ المعروف بابن الدريهم الموصلي، وغير ذلك من الرسائل والمؤلفات.

تطور ورقي

إن الحديث عن هذه المظاهر يوضح لنا مستوى التطور الاجتماعي، والرقي الحضاري في العصرين الأموي والعباسي، فالتاريخ الإسلامي ليس مجرد حروب وغزوات، بل هو بناء مدني متحضر، وصور بديعة من التلاقي الخلاق بين الثقافات، تتجلى فيه مستوى رفاهية الحياة، وتطور الفنون، ورقي الذوق والأدب.

‎تاريخ الألعاب في الحضارات والأمم ليس مجرد ترف علمي، ولا تكلف ثقافي، بل هو حديث عن أحد الجوانب التي تفسر التغيرات الثقافية والاجتماعية في تاريخ الأمم والمجتمعات، ففي دراسة تاريخ الألعاب عند العرب تتكشف لنا الحالة النفسية والمزاجية، وطبيعة الاستقرار السياسي والاجتماعي أو اضطرابه، كما أنها تعبر عن حالة تطور العلوم والمعارف حين تزدهر صناعة بعض الألعاب التي تطلب هندسة أو مهارة، وفنا، وزخرفة، كما تفسح لنا المجال للتعرف الى أحوال الناس واختياراتهم ورغباتهم بعيدا من حكم الخطاب الديني المحافظ، والآراء الفقهية التي تميل لرفض حياة اللهو والهزل، وتنحاز للتحوط والحذر، وتغلب جانب التحريم في ما يخص الألعاب، خاصة إذا كانت سببا لضياع الكثير من الأوقات، لكن قراءة هذه الآراء الفقهية لا تعبر لنا عن حقيقة الصورة داخل المجتمع، فما يرى الفقيه تحريمه ديانة أو تحوطا، لا يعني بالضرورة عدم وجوده أو انتشاره بين الناس، ولا أدل على ذلك من لعبة الشطرنج التي قالت بعض المذاهب الفقهية بتحريمها، لكن في المقابل نرى أن تلك اللعبة شهدت ازدهارا كبيرا، وأقيمت لأجلها مسابقات عالمية، واعتنى بها الخلفاء والوزراء والسلاطين، وكتب فيها الفقهاء والأدباء والعلماء، وقدم العرب فيها مؤلفات عظيمة كانت من أهم الكتب التي تشرح خططها وحيلها.

هذه الشواهد تكشف لنا عن حالة إنسانية مرنة حيوية في العصور العربية الإسلامية المبكرة، وهي شواهد ضرورية لاستيعاب البعد الإنساني في التاريخ، وفهم الطبائع النفسية والمزاجية المشتركة، وتقريب ذلك للناس، بدلا من تصوير أحداث التاريخ في صورة جامدة، أو أخلاقية وعظية.

في دراسة تاريخ الألعاب عند العرب تتكشف لنا الحالة النفسية والمزاجية، وطبيعة الاستقرار السياسي والاجتماعي أو اضطرابه

لم يقتصر الأمر على الشطرنج بل عرف العرب العشرات والمئات من الألعاب، واعتنوا بها، وكتبوا عنها، وتغنوا بها في أشعارهم، وقد جمع المفكر والأديب العربي أحمد تيمور باشا في أحد كتبه أسماء عشرات الألعاب التي كان يلعبها قدماء العرب، مرتبة حسب الأحرف الهجائية، مع ذكر شرح كل لعبة وأقوال الشعراء والأدباء فيها، حيث عرف العرب الكثير من الألعاب مثل: الدعلجة، والطبنة، والطواحة، والكبنة، والكرة، والأرجوحة، والغميضاء، والأنبوثة، والهبهاب، والشطرنج، والصولجان، وغيرها. وكثير من هذه الألعاب جاءت قادمة من الهند، أو بلاد فارس، وآسيا والصين، انتقلت إليهم، ثم حملوها معهم إلى بلاد الغرب، وأضافوا عليها من روحهم ونكهتهم.

Shutterstock

تشكل الألعاب رحلة إنسانية، وحلقة وصل ثقافي بين الأمم، حيث تتشكل اللعبة في بلد المنشأ ثم تنتقل بين الأمم، وفي كل مرة تضاف إليها لمسات جديدة من ثقافات متعددة، حتى تصبح هذه اللعبة بمثابة فسيفساء ثقافية تجمع في داخلها ثقافات الشرق والغرب.

font change

مقالات ذات صلة