المرحلة الأولى يعبّر عنها هذا البيت:
أطاعنُ خيلا من فوارسها الدهرُ
وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبرُ
والثانية يعبّر عنها هذا البيت:
أريد من زمني ذا أن يبلّغني
ما ليس يَبلغه من نفسه الزمنُ
أما الثالثة فيعبّر عنها هذا البيت:
وما الدهرُ إلا من رواة قصائدي
إذا قلتُ شعراً أصبح الدهر مُنشِدا
إنها مواجهة مريرة في مختلف مراحلها، وإن كانت طموحة جدا. فالعمر يمضي بلا هوادة، واللحظات الجميلة فيه هي كالأوهام العابرة كما يقول المتنبي نفسه:
للّهو آونةٌ تمرُّ كأنها
قُبَلٌ يزوّدها حبيبٌ راحلُ
أو كما يقول أيضا:
وكيف التذاذي بالأصائل والضحى
إذا لم يعُد ذاك النسيم الذي هبّا
ذكرْتُ بهِ وصْلا كأنْ لم أفُزْ بهِ
وعيْشا كأني كنتُ أقطعه وثْبا
قد تكون المواجهة بين المتنبي والزمن فريدة من نوعها. إلا أن الزمن، والشكوى منه ومن جريانه الذي لا يرحم، والشعور بعبثية المقاومة حياله، أمورٌ نجدها على نحو أو آخَر في الآداب كلها. بل هي مواضيع شائعة في الفنون على اختلافها. التأمل في العلاقة بالزمن لا ينجو منه التأمل في الوجود وجدواه ومعانيه. وهذا مشترَك بين الفلسفة والعِلم والأدب ... الخ. وقد أردتُ في هذه المقالة أن يكون الكلام مقتصِرا على الأدب العربي.
تحسّر ويأس
التحسّر على ماض، قريب أو بعيد، قد يترافق مع مشاعر الندم وقد يترافق مع الشكوى من الحاضر والحنين إلى زمن مفقود. وقد يصل أحيانا إلى الشعور باليأس.
كثيرا ما يرى الشاعر العربي إلى شيخوخة الزمن الذي يعيشه، وكذلك إلى ضعفه وتهاويه بالمقارنة مع فتوّة الأزمنة السابقة وقوتها وانطلاقها. يقول المتنبي:
أتى الزمانَ بنوهُ في شبيبته
فسرّهم وأتيْناهُ على الهرَم ِ
وقال المعرّي بعدَه بزمن قصير نسبياً:
تمتّعَ أبكارُ الزمانِ بأيْدِهِ
وجئنا بوهْنٍ بعدما خَرِف الدهرُ
فالشاعران المذكوران لم يتنعما بشباب الزمان ولا بقوته (كلمة الأيْد تعني القوة)، ففاتتْهما فُرص التمتع والسرور، تلك الفُرص التي كانت من حصة الذين عاشوا قبلهما (أبكار الزمان)، أي الذين بكّروا في العيش، قبل أن يُصاب الزمان بالهرَم أو الوهن.
عنترة بن شداد العبسي (نجد، 525-615)، شاعر ومحارب عربي قبل الإسلام، دمشق، سوريا
ولكنّ شاعراً كان عاش قبل المعرّي والمتنبي بزمن ليس بالقصير، وإنما هو طويل نسبيا، شكا هو الآخَر من أن السابقين لم يتركوا له شيئا. حتى أنهم قالوا كل ما يمكن أن يُقال، فأوقعوا اللاحقين بهم في العجز أو التكرار. هذا الشاعر هو عنترة بن شدّاد، الذي عاش قبل الإسلام، وهو من أصحاب المعلقات التي وجدنا فيها بدايات الشعر العربي، أو بالأحرى هي من أوائل القصائد التي عرفناها أو وصلت إلينا. يقول عنترة في مطلع قصيدته المعلقة:
هل غادر الشعراء من متردّم ِ
أم هل عرفتَ الدار بعد توهّم ِ
إذن هي شكوى عابرة للزمن، أو بالأحرى هي الشكوى نفسها في كل زمن. ولكن المرء كثيرا ما يجد نفسه متحسرا على لحظات جميلة من عمره، عبرت بسرعة، ثم لم يحْظَ بمثلها أو بما يقاربها. هذا ما عبّر عنه شاعر عربي قديم (يقال في بعض الروايات إنه حسان بن ثابت) في هذا البيت:
لله درّ عصابة نادمتُهمْ
يوما بجلّقَ في الزمان الأوّلِ
ومثل هذا التحسر الممزوج بالحنين إلى ماض قريب نجده في أبيات لأبي تمام، الذي يربط الشعور بطول الوقت أو قِصَره بأمور كالغبطة، والعيش الغض، والزمان الغلام، والوصْل، والنوى، والهجْر، والجوى، والأسى، والأحلام. هذه الأبيات هي الآتية:
ولقد أراكِ فهل أراكِ بغبطةٍ
والعيْشُ غضٌّ والزمانُ غلامُ
أعوامُ وصْل كان يُنسي طولَها
ذِكرُ النوى فكأنها أيامُ
ثم انبَرتْ أيامُ هجر أردفتْ
بجوىً أسىً فكأنها أعوامُ
ثم انقضت تلك السُنونُ وأهلُها
فكأنها وكأنهم أحلامُ