الخطى الناقصة والحياة الضائعة في الشعر العربي القديم

ردم هوة الزمن عبر القصائد

Shutterstock
Shutterstock
معرض الشارقة الدولي للكتاب

الخطى الناقصة والحياة الضائعة في الشعر العربي القديم

كثيرا ما يتراءى للمرء أنّ اللحظات الجميلة من حياته ليست سوى تلك اللحظات التي أضاعها، أو بالأحرى التي لم يحسن اغتنامها. وكثيرا ما ينتبه إلى أن خطوة أو حركة بسيطة كانت تكفي في لحظة معينة، لكي تجري الأمور على النحو المرتجى. إلا أن خللا ما، أو تقصيرا، أو عدم انتباه، قد حال دون ذلك.

ولكن الذي ينقضي لا ينقضي! فاللحظات الجميلة الضائعة، التي تتفاوت إزاءها الأحاسيس بالخسارة، تقيم في الذاكرة مشكّلة مخزونا لا ينفد من الندم. كتبتُ مرّة : "... وأبلغُ من كل ذلك أن الذي غابْ/لاح ثانية ثم غابْ". التحسّر هنا مضاعَف. ذلك أن الفرصة الضائعة عادت فأصبحت مؤاتية، ولكنها ما لبثت أن ضاعت مرّة ثانية. في مثل هذا الضياع، أو بالأحرى في مثل هذا الإحساس بالفقدان، يكمن المصدر الأساسي لكل نزعة فنيّة، وبالأخص لنزعة الشعر التي تسعى إلى أن تردم - بالتعبير اللغوي الفني - ثغر الندم والحسرة والتلهف والحرمان والخسارة.

ألم يكن الشعر على الدوام ذلك الفن الذي يمزج بين مشاعر الندم ومشاعر الأمل؟ وفي الشعر العربي، أمثلة كثيرة شاهدة على ذلك. أليس الوقوف على الأطلال ومناجاة الأحبة الغائبين أكثرَ المواقف تعبيرا عن الشعور بالفقدان من ناحية، وعن نزعة التمسّك بأمل اللقاء من ناحية ثانية؟

الحبيب في الشعر العربي القديم هو ذكرى وأمل في آن. إنه ماض ومستقبل. إنه الضائع والمرتجى

الحبيب في الشعر العربي القديم هو ذكرى وأمل في آن. إنه ماض ومستقبل. إنه الضائع والمرتجى. الحبيب هو ليلى التي أضاعها قيس، ولم ييأس من البحث عنها:

تذكرتُ  ليلى  والسنين  الخواليا

وأيامَ لا نخشى على اللهْو ناهيا

وقد يجمع  الله  الشتيتيْن  بعدما

يَظنان  كل الظن  أنْ  لا تلاقِيا

خطوة ناقصة

من المرجح أن ما قلْناه على شعرنا القديم يصحّ على كل شعر، بل على كل فن. من المرجح أن الفن ينبثق دائما من الخطى الناقصة. من المرجح أن كل عمل فنيّ ناجح هو تناغم مع خطوة ناقصة، هو ردْم لثغرة الندم التي تُحْدثها العبارة الآتية: "لم يكن ينقصنا سوى خطوة". وهي العبارة التي أوردها نجيب محفوظ في حوار عابث بين عجوزيْن يستذكران ويبتسمان.

هذه العبارة وردت في كتاب لنجيب محفوظ، عنوانه "أصداء السيرة الذاتية"، وأظنّه كتابه الأخير. هذا الكتاب يضمّ مقطوعات قصيرة مكثفة، تُقارب الشعر في مراميها وإيحاءاتها.

Shutterstock

والمقطوعة التي تحتوي على العبارة الآنفة الذكر تحمل عنوان "النهر"، وهذا نصها: "في دوامة الحياة المتدفقة، جمعَنا مكان عام في أحد المواسم. مَن تلك العجوز التي ترنو بنظرة باسمة؟ لعل الدنيا استقبلتْنا في زمن متقارب... واتسعت ابتسامتها، فابتسمتُ رادّا التحية بمثلها. سألتْني: ألم تتذكر؟ فازدادت ابتسامتي اتساعا. قالت بجرأة لا تتأتى إلا للعجائز: كنتَ أوّل تجربة لي وأنت تلميذ... وساد الصمت لحظة، ثم قالت: لم يكن ينقصنا إلا خطوة! وتساءلت مذهولا: أين ضاعت تلك الحياة الجميلة؟".

لقد اختار محفوظ لمقطوعته هذه عنوان "النهر"، وبدأها بالكلام على دوّامة الحياة المتدفقة. إذن، الزمن هو النهر المتدفق. ونحن، الأحياء، لا نملك إزاء تدفقه سوى العمل على إحسان التصرف، وعلى اغتنام الفرص المؤاتية، كي لا يجرفنا السيل ونستسلم له دون مقاومة أو تحايل أو تجنّب. فليس أقسى على المرء من أن يفقد التحكم بسيْره، من أن تقودَه خطاه بدلا من أن يقودَها. وكل خطوة ناقصة أو متعثرة من شأنها أن تُحْدث ثغرة يظل يرتع فيها الندم.

مواجهة مع الزمن

هكذا لا نستطيع الوقوف في وجه الزمن، ولا نستطيع أن نفعل شيئا حيال  جريانه، ولا نستطيع القبض على بعض ما نعيشه من لحظاته الجميلة إلا في ذاكراتنا المثقوبة. بلى، ربما نستطيع أحيانا القبض على بعض تلك اللحظات، إذْ نأسر ظلالا لها في أشعارنا، وإنْ ظلت محاولاتنا هذه مَشوبة بالتلهف أو الحسرة أو الندم. فكل سرور ناقصٌ إزاء جموح الزمان، كما يقول المتنبي:

جمَحَ الزمانُ فلا لذيذٌ خالصٌ

مما  يشوبُ  ولا سرورٌ كاملُ

ولكنّ المتنبي عاند هذا الجموح في شعره، بل خاض مواجهة (عبثية؟) مع الزمن. وقد يكون من الممكن أن نميّز في هذه المواجهة بين ثلاث مراحل: الأولى إعلان الحرب على الزمن، والثانية محاولة التفاهم أو التحالف مع الزمن، والثالثة الرغبة في استخدام الزمن أو الاستفادة منه.

الزمن هو النهر المتدفق. ونحن، الأحياء، لا نملك إزاء تدفقه سوى العمل على إحسان التصرف، وعلى اغتنام الفرص المؤاتية

المرحلة الأولى يعبّر عنها هذا البيت:

أطاعنُ خيلا من فوارسها الدهرُ

وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبرُ

والثانية يعبّر عنها هذا البيت:

أريد من  زمني ذا أن  يبلّغني

ما ليس يَبلغه من نفسه الزمنُ

أما الثالثة فيعبّر عنها هذا البيت:

وما  الدهرُ  إلا من رواة قصائدي

إذا قلتُ شعراً أصبح الدهر مُنشِدا

إنها مواجهة مريرة في مختلف مراحلها، وإن كانت طموحة جدا. فالعمر يمضي بلا هوادة، واللحظات الجميلة فيه هي كالأوهام العابرة كما يقول المتنبي نفسه:

للّهو آونةٌ   تمرُّ   كأنها

قُبَلٌ يزوّدها حبيبٌ راحلُ

أو كما يقول أيضا:

وكيف التذاذي بالأصائل والضحى

إذا لم  يعُد  ذاك النسيم الذي هبّا

ذكرْتُ  بهِ  وصْلا  كأنْ لم  أفُزْ بهِ

وعيْشا  كأني   كنتُ  أقطعه  وثْبا

قد تكون المواجهة بين المتنبي والزمن فريدة من نوعها. إلا أن الزمن، والشكوى منه ومن جريانه الذي لا يرحم، والشعور بعبثية المقاومة حياله، أمورٌ نجدها على نحو أو آخَر في الآداب كلها. بل هي مواضيع شائعة في الفنون على اختلافها. التأمل في العلاقة بالزمن لا ينجو منه التأمل في الوجود وجدواه ومعانيه. وهذا مشترَك بين الفلسفة والعِلم والأدب ... الخ. وقد أردتُ في هذه المقالة أن يكون الكلام مقتصِرا على الأدب العربي.

تحسّر ويأس

التحسّر على ماض، قريب أو بعيد، قد يترافق مع مشاعر الندم وقد يترافق مع الشكوى من الحاضر والحنين إلى زمن مفقود. وقد يصل أحيانا إلى الشعور باليأس.

كثيرا ما يرى الشاعر العربي إلى شيخوخة الزمن الذي يعيشه، وكذلك إلى ضعفه وتهاويه بالمقارنة مع فتوّة الأزمنة السابقة وقوتها وانطلاقها. يقول المتنبي:

أتى الزمانَ بنوهُ في شبيبته

فسرّهم وأتيْناهُ على الهرَم ِ

وقال المعرّي بعدَه بزمن قصير نسبياً:

تمتّعَ  أبكارُ   الزمانِ   بأيْدِهِ

وجئنا بوهْنٍ بعدما خَرِف الدهرُ

فالشاعران المذكوران لم يتنعما بشباب الزمان ولا بقوته (كلمة الأيْد تعني القوة)، ففاتتْهما فُرص التمتع والسرور، تلك الفُرص التي كانت من حصة الذين عاشوا قبلهما (أبكار الزمان)، أي الذين بكّروا في العيش، قبل أن يُصاب الزمان بالهرَم أو الوهن.

Getty Images
عنترة بن شداد العبسي (نجد، 525-615)، شاعر ومحارب عربي قبل الإسلام، دمشق، سوريا

ولكنّ شاعراً كان عاش قبل المعرّي والمتنبي بزمن ليس بالقصير، وإنما هو طويل نسبيا، شكا هو الآخَر من أن السابقين لم يتركوا له شيئا. حتى أنهم قالوا كل ما يمكن أن يُقال، فأوقعوا اللاحقين بهم في العجز أو التكرار. هذا الشاعر هو عنترة بن شدّاد، الذي عاش قبل الإسلام، وهو من أصحاب المعلقات التي وجدنا فيها بدايات الشعر العربي، أو بالأحرى هي من أوائل القصائد التي عرفناها أو وصلت إلينا. يقول عنترة في مطلع قصيدته المعلقة:

هل غادر الشعراء من متردّم ِ

أم هل عرفتَ الدار بعد توهّم ِ

إذن هي شكوى عابرة للزمن، أو بالأحرى هي الشكوى نفسها في كل زمن. ولكن المرء كثيرا ما يجد نفسه متحسرا على لحظات جميلة من عمره، عبرت بسرعة، ثم لم يحْظَ بمثلها أو بما يقاربها. هذا ما عبّر عنه شاعر عربي قديم (يقال في بعض الروايات إنه حسان بن ثابت) في هذا البيت:

لله  درّ  عصابة نادمتُهمْ

يوما بجلّقَ في الزمان الأوّلِ

ومثل هذا التحسر الممزوج بالحنين إلى ماض قريب نجده في أبيات لأبي تمام، الذي يربط الشعور بطول الوقت أو قِصَره بأمور كالغبطة، والعيش الغض، والزمان الغلام، والوصْل، والنوى، والهجْر، والجوى، والأسى، والأحلام. هذه الأبيات هي الآتية:

ولقد أراكِ فهل أراكِ بغبطةٍ

والعيْشُ غضٌّ والزمانُ غلامُ

أعوامُ وصْل كان يُنسي طولَها

ذِكرُ  النوى  فكأنها  أيامُ

ثم انبَرتْ أيامُ هجر أردفتْ

 بجوىً  أسىً  فكأنها أعوامُ

ثم انقضت تلك السُنونُ وأهلُها

فكأنها   وكأنهم   أحلامُ

 المرء كثيرا ما يجد نفسه متحسرا على لحظات جميلة من عمره، عبرت بسرعة، ثم لم يحْظَ بمثلها أو بما يقاربها

...وبعد هذا كله، قد يقود التذمر من الزمن الحاضر إلى اليأس، الذي لا يُبقي مجالا لمدح أي زمن سابق. ولنا في هذين البيتين للمعرّي ما يعبّر عن ذلك تعبيرا بليغا:

علّلاني فإن بيضَ الأماني

فنِيَتْ والظلامُ ليس بفانِ

كم أردْنا ذاك الزمانَ بمدْحٍ

فشُغِلْنا بذمّ هذا  الزمانِ

font change

مقالات ذات صلة