العقوبات على روسيا... ترددات اقتصادية لدى الجيران

حرب الدب القطبي في أوكرانيا تُثقل كاهل عملات وصادرات أرمينيا وجورجيا وكازاخستان

إدواردو رامون
إدواردو رامون

العقوبات على روسيا... ترددات اقتصادية لدى الجيران

"يقدم العميل طلبا ونحسب المبلغ المستحق بناء على سعر الصرف الحالي. بعد مرور أسبوع، يأتي العميل ليدفع المبلغ المستحق، فنحصل في النهاية على مبلغ مختلف تماما. هذه التقلبات تلحق ضررا كبيرا بأعمالنا"، هذا هو واقع الأعمال، كما يختصره ماتيفوس بارسيغيان، وهو مدير شركة سياحة في أرمينيا.

كان ذلك في أغسطس/آب 2022، أي بعد ستة أشهر فقط من الغزو الروسي لأوكرانيا، عندما أصبحت أسعار صرف العملات مصدر قلق دائما لأصحاب الأعمال والتجار من أمثاله في أرمينيا وجورجيا، لأن قيمة العملات المحلية كانت ترتفع من دون أن تلوح نهاية واضحة في الأفق.

فماذا يحدث وراء الستار وماذا يمكن أن تتوقع الشركات المصدرة في هذه البلدان مع استمرار الحرب في أوكرانيا؟

رواد الاعمال الروس انتقلوا بسلاسة من روسيا إلى أرمينيا أو جورجيا، وأكملوا عملهم مع شركات توجد مقارها في بلدان أخرى وتدفع لهم بالدولار أو اليورو

عندما تشن قوة عظمى مثل روسيا حربا وتُفرَض عليها عقوبات اقتصادية، فإن عواقب ذلك تؤثر على المنطقة بأسرها. في مارس/آذار، كان الدولار الأميركي يساوي نحو 3.43 لاري جورجي تقريبا، لكنه انخفض أكثر من 25 في المئة خلال عام واحد، وأعقبه ارتفاع طفيف. وشهد الوضع في أرمينيا ارتفاعا مفاجئا مماثلا. فقد بلغ الدولار الأميركي 515 درام أرمينيا في الشهر التالي للغزو، وانخفضت قيمته بنسبة 25 في المئة بعد تسعة أشهر فحسب، وظل عند ذلك المستوى ما يزيد على 18 شهرا. وتراجعت قيمة اليورو الآن في هذه البلدان كثيرا عما كانت عليه في أوائل سنة 2022. فقد انخفضت قيمته بنسبة 17 في المئة مقابل اللاري الجورجي وبنسبة 34 في المئة مقابل الدرام الأرميني.

.أ.ف.ب
مسافران روسيان يصلان إلى كازاخستان عبر معبر حدودي في سيرم، 27 سبتمبر 2022.

ما أسباب هذا الارتفاع المفاجئ في قيمة العملات المحلية لتلك الدول في جنوب القوقاز؟

العامل الأكبر هو تدفق عشرات الآلاف من المواطنين الروس على هذه البلدان هربا من الحرب والعقوبات والعواقب المحتملة مثل التجنيد الإجباري في الجيش. وكان هؤلاء في كثير من الحالات من الشباب أو رواد الأعمال في منتصف حياتهم المهنية الذين يكسبون أموالهم من طريق الإنترنت، لذا تمكنوا من الانتقال بسلاسة من روسيا إلى أرمينيا أو جورجيا بدون حدوث أي انقطاع في عملهم. ويتكون عملاؤهم من شركات توجد مقارها في بلدان أخرى وتدفع لهم بالدولار الأميركي أو اليورو، مما أدى إلى فائض في عرض هذه العملات في الأسواق وارتفاع الطلب على اللاري أو الدرام.

إقرأ أيضا: بوتين وزيلينسكي و "ترمب الثاني"

وكان وزير الاقتصاد الأرميني فاهان كيروبيان قال في أبريل/نيسان 2022: "فتح غير المواطنين نحو 30,000 حساب منذ بداية الصراع في أوكرانيا حتى اليوم. وذلك تقريبا هو عدد الأشخاص الذين سيبقون في أرمينيا وينمّون أعمالهم ويعدّون أرمينيا مركزا محوريا لنموهم الاقتصادي في المستقبل". ويزيد الرقم الذي لفت إليه، على 1 في المئة من عدد السكان الإجمالي في أرمينيا، مما يشير إلى أن لحجم هذه الهجرة تأثيرا كبيرا على مستوى الاقتصاد الكلي للبلاد.

لقد اشتروا نحو 10,000 شقة، وذلك يعني استثمار نحو نصف مليار دولار في الشقق وحدها، فالشقة المكونة من غرفتي نوم تكلف 50,000 دولار

الرئيس السابق للبنك المركزي الجورجي رومان غوتسيريدزه

تشير البيانات الواردة من جورجيا في خريف 2022 إلى أن نحو 120 ألف مواطن روسي ظلوا في البلاد في ذلك الوقت، واشتروا آلاف الشقق. ففي حديث مع إذاعة "ليبرتي" في يونيو/حزيران 2023، قال الرئيس السابق للبنك المركزي الجورجي رومان غوتسيريدزه: "لقد اشتروا نحو 10,000 شقة. وذلك يعني استثمار نحو نصف مليار دولار في الشقق وحدها، فالشقة المكونة من غرفتي نوم كانت تكلف 50,000 دولار، فما بالك بالعقارات الأخرى. باختصار، إنه مبلغ كبير من المال في السوق وأدى ذلك إلى تعزيز العملة الوطنية".

معاناة المصدّرين

كما في حالات "المرض الهولندي" (أي النتائج السلبية الناجمة عن ارتفاع سعر صرف العملة المحلية)، واجهت شركات التصدير في أرمينيا وجورجيا معاناة كبيرة من هذا الارتفاع في قيمة العملة. في أرمينيا، كان وقع ذلك صعبا جدا على قطاع تكنولوجيا المعلومات في البلاد. وقد عبّر عن ذلك أرمين كوتشاريان، الرئيس التنفيذي لشركة البرمجيات "فولفو" في نوفمبر 2022/تشرين الثاني بقوله: "الشركات التي تطورت منذ عشرات السنين في بيئة طبيعية وأنشأت فرقا تقوم بمهمات معقدة صارت على شفير الانهيار الآن". وفي محاولة لاحتواء الأضرار التي لحقت بهذا القطاع، أعلنت الحكومة الأرمينية حسما ضريبيا يكلف الدولة نحو 25 مليون دولار. 

أثار ارتفاع قيمة اللاري أيضا قلق رجال الأعمال الجورجيين. وقال فاختانغ بيزهيتاشفيلي، رئيس جمعية مصدّري الفاكهة الجورجية في سنة 2023: "شهدت الصادرات انخفاضا واضحا، إذ تراجعت صادرات التفاح إلى النصف تقريبا وما زالت مستمرة في التراجع. ويمكننا القول إنه إذا لم تُبَع المنتجات في السوق المحلية، فسيكون من الصعب بيعها".

خلافا لأرمينيا، حققت جورجيا نجاحا أكبر في تثبيت سعر الصرف، إذ بلغ سعر الدولار الأميركي 2.72 لاري جورجي في يوليو/تموز 2024، وذلك ليس بعيدا جدا عن قيمته قبل الحرب

خلافا لأرمينيا، حققت جورجيا نجاحا أكبر في تثبيت سعر الصرف، إذ بلغ سعر الدولار الأميركي 2.72 لاري جورجي في يوليو/تموز 2024، وذلك ليس بعيدا جدا عن قيمته قبل الحرب التي بلغت 2.98 في فبراير/شباط 2022. وقال رئيس الوزراء الجورجي إيراكلي كوباخيدزه في اجتماع لمجلس الوزراء الجورجي في يوليو/تموز 2024: "عاد سعر صرف اللاري إلى قيمته الأصلية بسرعة كبيرة بفضل النمو الاقتصادي السريع والسياسة الإدارية الفعالة".

ضعف الروبل يؤثر على التحويلات المالية

شهدت قيمة العملة المحلية لهذين البلدين – فضلا عن كازاخستان، وهي خيار آخر شائع للمهاجرين الروس الفارين من الحرب - ارتفاعا كبيرا مقابل الروبل الروسي. ويثير ذلك قلقا كبيرا للأسباب عينها - فروسيا وجهة تصدير ضخمة للسلع التي تنتجها هذه البلدان. لكن هناك عامل آخر مثير للقلق لا سيما للأسر الفقيرة في أرمينيا وجورجيا وكازاخستان. فكثير من الأسر في هذه الدول تعتمد اعتمادا كبيرا على الأموال التي يجنيها أقاربهم في روسيا ويرسلونها إلى الوطن.

.أ.ف.ب
متظاهر يرتدي العلم الأرميني واقف أمام قوات حفظ السلام الروسية، في خارج ستيباناكيرت عاصمة إقليم ناغورني كارباخ، 24 ديسمبر 2022.

في سنة 2023، قدّر البنك المركزي الأرميني التحويلات المالية الشخصية إلى البلاد بنحو 1.7 مليار دولار أميركي، أي ما يعادل 7 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للبلاد. ويأتي جانب كبير من هذه الأموال من روسيا وقد شهد انخفاضا كبيرا في العقدين الماضيين، لكن الأسر الفقيرة هي التي تعتمد على هذا الدخل في الغالب. ويقول الخبير الاقتصادي أغاسي تافاديان: "يفضل المواطنون الأرمن الآن العمل في أرمينيا على الهجرة للعمل في روسيا"، لكن فرص العمل في البلاد لا تزال محدودة.

في 2023، قدّر البنك المركزي الأرميني التحويلات المالية الشخصية إلى البلاد بنحو 1.7 مليار دولار أميركي، أي ما يعادل 7% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد

في العامين المنصرمين، كان العمال المهاجرون من أرمينيا مترددين في شأن ما يمكن أن يعنيه الذهاب إلى روسيا. وقد عبر عن ذلك كوستان كوستانيان، أحد المقيمين في قرية بانيك الأرمينية، لإذاعة "ليبرتي". عندما ظهرت الأزمة للمرة الأولى بقوله: "الذهاب ليس خيارا جيدا، لكن البقاء ليس خيارا جيدا أيضا. نحن في القارب نفسه جميعا. إننا أناس مختلفون، ولكننا نواجه المشكلات عينها". 

يرى البنك الدولي أن للوضع العام في روسيا تأثيرا سلبيا مضاعفا على دول مثل أرمينيا وجورجيا وكازاخستان. ووفقا لكبير الاقتصاديين في البنك الدولي لشؤون الهجرة والتحويلات المالية، ديليب راثا، والمحلل المالي يونغ جو كيم، "إن ضعف النشاط الاقتصادي في روسيا يضعف فرص العمل ويقلل دخل العمال المهاجرين وقدرتهم على إرسال التحويلات المالية. ويشكل ضعف الروبل مقابل الدولار الأميركي القناة الثانية للتأثير، مما يقلل القيمة الاسمية للتحويلات المالية المرسلة بالروبل".

التنغي الكازاخستاني أكثر اهتزازا

يبدو وضع التنغي الكازاخستاني أكثر اهتزازا، عندما يتعلق الأمر بسعر الصرف في مقابل العملات الأجنبية. فبعد ارتفاع سعره مثل اللاري الجورجي والدرام الأرميني، بدأ بالتراجع منذ مايو/أيار 2024، إذ انخفض من نحو 440 تنغي مقابل الدولار الأميركي إلى 476 تنغي في يوليو/تموز. ويجد المحللون في البلاد صعوبة في تفسير ذلك، وكثر منهم يعتقدون أن ذلك ناجم عن التغيرات الموسمية أو المؤقتة في سوق النفط، وأنه لن يستمر مدة طويلة.

لقد أغرقت الحرب في أوكرانيا عملات الدول الأخرى في المنطقة في حقبة من عدم اليقين

غير أن المحللة المالية آنا بودروفا توقّعت أن تشهد العملة مزيدا من الانخفاض. وقالت: "لا تزال العوامل الضاغطة على حالها - وهي تشمل العقوبات الجديدة التي فرضها الغرب على روسيا في يونيو/حزيران بالإضافة إلى انخفاض مستوى السيولة بالدولار التي يدخلها البنك المركزي".

إقرأ أيضا: المطالب الروسية تعقّد مسار الحرب في أوكرانيا

لقد أغرقت الحرب في أوكرانيا عملات الدول الأخرى في المنطقة في حقبة من عدم اليقين على ما يبدو. فوفقا لبنك التنمية الأوروبي الآسيوي في كازاخستان، الذي أصدر في منتصف هذا العام توقعاته للاقتصاد الكلي للفترة 2024-2026، تبدو توقعات سعر صرف الدولار الأميركي مقابل 396 دراما أرمينيا متفائلة للغاية، إذ إن متوسط السعر لهذا العام أقل من ذلك بالفعل ويبدو أنه آخذ في الانخفاض. وتبدو التوقعات في شأن التنغي أيضا بعيدة عن الواقع عند 447.6 بالنظر إلى الوضع القائم حاليا في كازاخستان.

هذا التقلب يجعل الحياة صعبة للغاية على الشركات والأفراد الذين يسعون إلى التصدير أو يأملون في كسب العيش من التحويلات المالية المرسلة من الأقارب في الخارج. وسيستمر هذا التقلب بعض الوقت في المستقبل، بالنظر إلى عدم وجود نهاية تلوح في الأفق للحرب في أوكرانيا أو العقوبات المفروضة على روسيا.

font change

مقالات ذات صلة