تشكل الحرب التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، منذ عشرة أشهر، مفصلا تاريخيا مؤسسا لما بعده، بما لا يقل عن حربي 1948 و1967، إذ إن آثارها الاستراتيجية العميقة ستحدد مكانة القضية الفلسطينية، وواقع الشعب الفلسطيني، وشكل حركته الوطنية للمستقبل المنظور. بيد أن تلك الحرب ستمس بشكل خاص بمكانة "حماس"، كحركة سياسية وكسلطة في غزة، كما ستؤثر على خياراتها الكفاحية.
في الواقع فإن قيادة "حماس" معنية بمراجعة خياراتها السياسية والكفاحية، ما يتطلب التحرر من العقلية القدرية والانفصام عن الواقع والمبالغة في القدرات الذاتية وأوهام "وحدة الساحات" والتعويل على النظام في إيران.
بمعنى آخر فإن تلك القيادة معنية، أيضا، بالتعاطي مع الصراع مع إسرائيل تبعا لحقائق موازين القوى، واعتبارها بمثابة وضع دولي، وفقا للمعطيات الدولية والإقليمية الراهنة المواتية لها، والتي لا تسمح للفلسطينيين باستثمار تضحياتهم وبطولاتهم في إنجازات سياسية، ما يفيد بأن اللحظة الراهنة، مع الأسف، ليست لحظة التحرير ولا لحظة دحر الاحتلال، أو لم تعد كذلك، وإنما هي لحظة لتجنب الكارثة، وتفويت الفرصة على إسرائيل بإنفاذ سياساتها الرامية لترويع وإخضاع الفلسطينيين من النهر إلى البحر، ومحاولتها تحويل قطاع غزة إلى منطقة غير صالحة للعيش، للتخفف من أكبر كتلة سكانية فيه مستقبلا، بشتى الطرق، وتاليا وأد فكرة الدولة الفلسطينية نهائيا.
على الصعيد الذاتي، يفترض بتلك القيادة ملاحظة الواقع الذي شكلته إسرائيل، عبر تلك الحرب الوحشية، بدلا من المكابرة والمعاندة، وضمنه خسارة "حماس" ألوفا من كوادرها، ومنتسبيها، مع تآكل قوتها العسكرية، وفقدانها القدرة على السيطرة على الأرض، وتراجع شعبيتها، قياسا بالسابق، بنتيجة الأهوال التي عاشها فلسطينيو غزة خلال تلك الحرب، التي تعمدت فيها إسرائيل تدمير كل شيء، البشر والحجر والشجر والأمل.
مغزى عملية الاغتيال
باغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لـ"حماس"، تحديدا في طهران، يتبين أن إسرائيل، بدعم أميركي، غير معنية البتة بالمفاوضات لوقف الحرب، إذ إنها معنية باستمرارها وتوسيعها لتطال إيران ذاتها، ومعها لبنان وسوريا والعراق واليمن، حيث الميليشيات التي تشتغل كأذرع إقليمية للنظام الإيراني (في فيلق القدس)، وضمن ذلك فهي معنية بإطالة أمد الحرب ورفع أثمانها، دون مبالاة حتى بالأسرى أو الرهائن الإسرائيليين (الـ120) في غزة، مع ملاحظة أن ثمة إجماعا إسرائيليا، تقريبا، على ذلك، من دون مبالغة في الخلافات الشكلية أو التكتيكية بين حكومة نتنياهو وأطراف المعارضة، التي تتعلق بالتوصل إلى صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين، وأن تتواصل الحرب بعدها.
القصد من ذلك أن أي مراهنة على خلافات إسرائيلية ليست في محلها إطلاقا، وهي وهم آخر، وهذا ينطبق على مظاهرات أهالي الأسرى المعتقلين، التي ظلت محدودة وغير فاعلة، كما ينطبق على المظاهرات التي جرت وتجري في مدن الدول الغربية، على أهميتها، إذ إن فاعليتها تحتاج إلى مدى زمني، وإلى وضع فلسطيني وعربي أنسب. والغريب هنا أن بعض أوساط "المقاومة والممانعة"، التي تبالغ في مراهناتها على أزمات إسرائيل الداخلية، لا ترى البتة، أو لا تريد أن ترى، الواقع الفلسطيني (والعربي) المتردي بلا حدود، ولا رؤية المعطيات الدولية والإقليمية المواتية أكثر لإسرائيل.
مع ذلك، لنفترض أن إدراكات قيادة "حماس" لقدراتها وللواقع وللمعطيات العربية والدولية صحيحة، وأنها تمكنت من دحر الجيش الإسرائيلي من كل شبر من قطاع غزة، فما هو الواقع الذي ستجد نفسها إزاءه؟ القصد أنه حتى في هذا السيناريو المتخيل، ولنأمل أن يتجسد في الواقع، فإن قيادة "حماس" ستجد نفسها في منطقة محاصرة، أكثر بكثير من قبل، وأن ثمة 70 في المئة من قطاع غزة بات مدمرا، بعمرانه وبناه التحتية، وأن أكثر من مليوني فلسطيني يفتقدون للموارد وأماكن العمل والمأوى والغذاء.