"يا زهر الرمان آن أوانك آن. تتفتح ع مجدل شمس تتصبح على الجولان. آن أوانك يا زهر الرمان... اللي ناطر عجمر ونار حتى الربيع يطل. اللي حامل علم وحجار... حر ما يطيق الذل. يرفع علم سوريا يرفع فوق فوق ترابو. عطشان للحريه مشتاق للأوطان. ينده على الحرية".
تلك الكلمات للفنان السوري المعارض سميح شقير كانت أول ما تبادر إلى ذهني وأنا أتابع مجريات المجزرة التي وقعت بحق أهالي قرية مجدل شمس في الجولان السورية المحتلة، والتي أسفرت عن مقتل 12 طفلا وإصابة 34 آخرين جراء سقوط صاروخ على ملعب لكرة القدم. في حين لم يتم حسم مصدر هذا الصاروخ، ردة الفعل الأولية- والصادقة في العادة- هي أن "حزب الله" أطلقه ربما بشكل خاطئ نحو منطقة مدنية، الأمر الذي نفاه "الحزب" والمقربون منه، مدعين في المقابل، أن الصاروخ هو اعتراضي إسرائيلي سقط من "القبة الحديدية"، وهو ما نفته إسرائيل أيضا، ليموت الأطفال بصاروخ عابر لم تنبههم له صفارات الإنذار بشكل مبكر، ليهربوا ويختبئوا منه.
بطبيعة الحال المعضلة الأساسية في ادعاء "حزب الله"، وقرينة براءته تبدأ وتنتهي من كونه يعتبر نفسه- فعلا وقولا- منزها عن الأخطاء، وما ينطق به هو حقيقة مطلقة غير قابلة للنقاش، ويذهب بعيدا باعتبار أي نقد يخدم إسرائيل حتى لو كان هذا النقد بناءً لأدائه السياسي أو العسكري. للمفارقة، "الحزب" لم يعترف طوال مسيرته بارتكاب سوء أو أخطاء، بل على العكس من ذلك فهو يظهر دوما أن كل خطوة وفعل يقوم بهما هو نتيجة تخطيط ومهنية عالية، في حين رأى منتقدوه أنه يتصرف بشكل مختلف على أرض الواقع ، إن كان في قتاله ضد الشعب السوري ومعهم الفلسطينيون في مخيم اليرموك وكذلك في الحرب المستمرة في الجنوب اللبناني، ويفتقر للتكنولوجيا والتسليح الحديث القادر على "تدمير" أو حتى ردع إسرائيل، وفق ما تردد البيانات والمواقف التي يطلقها زعماء "الحزب".
في الواقع، إن "حزب الله" أخطأ مرارا وتكرارا في سيرته الممتدة على نحو أربعة عقود من الزمن، من الأمثال على هذه الأخطاء عندما اعتبر أن جريمة قتل الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط 2005-المتهم فيها عدد من قادة "الحزب"- ستمر مرور الكرام، وأن اغتيال شخص بقامة الحريري من شأنه ترهيب الشعب اللبناني، وإجباره على الخنوع للجيش السوري في لبنان آنذاك. أو عندما قام بمحاولة الانقلاب على الدولة اللبنانية في 7 مايو/أيار 2008، وعندما سعى إلى دخول قرى الجبل التي يقطنها الدروز، حيث اصطدم بمقاومة محلية كبدته خسائر بشرية، وأعادت إظهاره كقوة ميليشياوية مثل تاريخه في الحرب الأهلية. أو حين أرسل عناصره إلى سوريا للقتال إلى جانب الأسد، في البداية تحت ذريعة حماية المزارات الدينية الشيعية، قبل أن يشن حربا مذهبية على أهالي سوريا متذرعا بقتال "داعش".
"حزب الله" أخطأ مرارا وتكرارا في سيرته الممتدة على نحو أربعة عقود من الزمن. ومن الأمثال على هذه الأخطاء عندما اعتبر أن جريمة قتل الرئيس رفيق الحريري ستمر مرور الكرام
ومن الأمثلة الكبيرة أيضا تخزينه أطنانا من مادة "نترات الأمونيوم" في مرفأ بيروت، التي تحولت إلى ثاني أكبر انفجار غير نووي عبر التاريخ، ليهدد القضاء اللبناني ويمنع استكمال تحقيق من شأنه الوقوف على الحقيقة، ويمنع المحاسبة، والأهم تحقيق العدالة ليمنع اللبنانيين من التأكد من دوره في تأمين "نترات الأمونيوم" لـ"البراميل المتفجرة" التي رميت على الأطفال والنساء العزل في مدن سوريا وقراها.
ومن يرغب في التفتيش- بسذاجة أو لخبث سياسي- عن ذرائع لنفي مسؤولية "الحزب" عن قتل أطفال مجدل شمس، عليه أن يتذكر أن "الحزب" يراهن على حلفه مع النظام السياسي اللبناني، وخوف الطوائف والمجموعات اللبنانية من فكرة نشوب حرب مذهبية أهلية جديدة، مع تذكرهم لمحاولاته السابقة التلاعب بنار الفتنة المحلية، من اتهام عناصره في المحكمة الدولية بالاغتيالات السياسية إلى هجوم السابع من مايو 2008 إلى اعتداء عناصره ومقربين منه على المحتجين في مواقع واحتجاجات مختلفة، وليس آخرها بعدة أماكن مما يعرف بثورة "17 تشرين" 2019.
في الواقع، فإن الدروز وبسبب نظرتهم الجماعية لدورهم في المنطقة وانتمائهم العربي، يبدون محرجين من اتهام "حزب الله" مباشرة بالمسؤولية عن صاروخ مجدل شمس، والسبب لا يختلف عليه اثنان، وهو الخوف من وضعهم في خانة "المتواطئين على مقاومة الحزب" أو أن ينتزع منهم "النموذج الإيراني" أحد بيارقهم التاريخية التي تعزز وجودهم في المنطقة كحماة ثغور للساحل الممتد من الإسكندرون إلى سيناء بوجه الحروب الصليبية، حرج يدفع بعضهم للمغالاة بمجاهرتهم بـ"دعم المقاومة" من أي جهة أتت، هو الحرج نفسه لدى الجسم السياسي والديني محاولا عدم اتهام "الحزب" وانتقاء الكلمات في النفي أو ربما الدفاع عنه، ما يؤكد تورط هذا الأخير بسفك دماء الأطفال في مجدل شمس.
لكن رغم "التزلف" و"التقية السياسية" لبعض القادة، فإن صاروخ مجدل شمس عرّى "حزب الله"، ويمكن القول إن الفتنة الحقيقية هي بتحويل "الحزب" كل شيء لا يتناسب مع مواقفه إلى موضوع مذهبي، بحيث يصبح حق الدفاع عن النفس عمالة. وما حصل ذكّر الجميع بمن فيهم الطائفة الشيعية اللبنانية، بأن إيران وكافة أذرعها لا يكترثون للشعوب العربية ولدماء أبنائها، ومستعدون لاستعمال دروز الجولان والسويداء وأهالي الجنوب اللبناني كصناديق بريد لتحسين فرصهم في الحصول على مكاسب سياسية على طاولة المفاوضات مع واشنطن، التي أثبتت التجربة أنها مستعدة للتنازل لصالح إيران وحرسها الثوري بغياب سياسة واضحة لدى الإدارة الأميركية.
الجريمة الحقيقية في مجدل شمس هي محاولة التأطير الطائفي والمذهبي للجريمة بحيث عمد "حزب الله" وإسرائيل إلى التركيز على البعد الأقلوي لأهل الجولان والاستثمار في دماء أطفالهم، فمن جهة ربط "الحزب" بين هويتهم الدينية وهوية دروز إسرائيل، ومنهم من يحاربون في صفوف جيشها، من خلال التركيز على أن أهل مجدل شمس يدفعون فاتورة إخوانهم في الدين. أما من جهة نتنياهو وإسرائيل، فالتركيز على الانتماء الدرزي لمجدل شمس، والتوعد بالانتقام لمقتل الأطفال، يلعب دورا أساسيا في محاولة استعطاف دروز إسرائيل والدروز بشكل عام، على أنهم كما يهود إسرائيل ضحايا إيران وإرهابها. في حين أن الطرفين، كما يردد صديقي الشجاع من مجدل شمس لا يعنيان شيئا لأهل البلدة.
الدروز، وبسبب نظرتهم الجماعية لدورهم في المنطقة وانتمائهم العربي، يبدون محرجين من اتهام "حزب الله" مباشرة بالمسؤولية عن صاروخ مجدل شمس، والسبب هو الخوف من وضعهم في خانة "المتواطئين على مقاومة الحزب"
في آخر المطاف، إن انكسار الدروز وأهالي المشرق عامة، مع استمرار إيران وأذرعها في المقامرة بمستقبلهم لن ينجيهم من صواريخ مستقبلية بهويات مجهولة. عاش الدروز في مشرقهم العربي بكرامة ومحبة وقاموا ببناء الأوطان التي عاشوا فيها منذ قرون، ومن هنا، فإذا رغبوا في الحفاظ على أرضهم ومكانتهم، عليهم العودة إلى الحكمة المتجذرة في ثقافتهم السياسية والوجودية "قُومٍ بَلا جُهَّالْ ضاعَت حْقوقْهُمْ، وْقُومٍ بَلا عُقَّالْ راحُو قَطايِعْ"، أي ضرورة أن تترافق القوة والحكمة معا في مواجهة الصعوبات. والأهم أن يستمعوا إلى أناشيد سميح شقير المتجذرة في حياة المنطقة وأهلها، وأن يرفضوا تبني أناشيد "الثورة الإيرانية" وبدعها المختلفة.