الرد الإسرائيلي على مقتل أطفال بلدة مجدل شمس بسقوط صاروخ نُسب إطلاقه إلى "حزب الله" يبدو كأنه خرق "قواعد الاشتباك" التي يلتزم بها الطرفان منذ بداية الحرب الحالية في أكتوبر/ تشرين الاولى الماضي والرامية الى عدم التسبب في انفجار أكبر مما يجب.
فاغتيال احد مسؤولي الحزب في الضاحية الجنوبية ليس سابقة من نوعه بل سبقه استهداف المسؤول في "حماس" صالح العاروري. لكن ثمة ما يدفع الى الاعتقاد ان الخطوة الاسرائيلية تحمل قدرا من التصعيد ومن الخروج على التوافقات غير المكتوبة بين الجانبين.
وبعد الغارة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في دمشق في أبريل/نيسان الماضي، والذي أسفر عن مصرع بعض كبار ضباطها، صممت طهران ردها بتأن لتستعيد به ماء الوجه من دون أن يحمل إسرائيل على رد عنيف يشكل بداية لتفاعل متسلسل مشؤوم. أعلنت إيران ساعة إطلاقها مسيّراتها وصواريخها والساعة المنتظر فيها وصول قذائفها إلى أهدافها. وانتهت تلك الليلة بإعلان الجميع انتصارهم. وبعد يومين قصفت إسرائيل الرادار المخصص للدفاع الجوي عن أحد المواقع الإيرانية. ومرة ثانية، خرج الجميع مسرورا.
إطلاق الصاروخ على أطفال بلدة مجدل شمس اعتبرته إسرائيل خرقا لكل الخطوط الحمراء ويتطلب ضربة مقابلة. فُتحت قنوات الاتصال على الفور وتدخل الوسطاء لتصميم رد يُرضي جميع الأطراف التي لا ترغب أو لا تستطيع الانخراط الآن في حرب واسعة النطاق، كل لأسبابه.
والغالب على الظن أن الممارسة هذه للحرب، تلبي حاجات القوى المعنية باستمرار الصراع ضمن "قواعد الاشتباك" الشهيرة. فالضربة المرتقبة تتصف بمقاييس يعرفها الوسطاء ويعلنون عنها في وسائل الإعلام: يجب أن لا تصاب العاصمة بيروت وإلا ستُقصف مدينة تل أبيب. يجب أن لا يقتل عدد كبير من المدنيين. وأن لا تتضرر منشآت حساسة. وغني عن البيان أن رد "حزب الله" على الرد سيكون بالمواصفات عينها.
على الجانب اللبناني، لا تحمل الحرب في حال خرجت عن السيناريو المستمر منذ انخراط "حزب الله" في القتال في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أية قيمة سياسية لـ"الحزب"، على عكس حرب يوليو/تموز 2006 التي استطاع الحزب بفضلها مد سيطرته إلى الداخل اللبناني وإجهاض مشروع إقصائه عن الحكم بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري. كانت "حربا مجيدة" استثمرها "الحزب" بنجاح لتطويق وضرب خصومه الداخليين وإظهار إفلاسهم السياسي.
الحرب في لبنان الآن لا تنطوي على إمكانية استثمار مشابهة. فالبلد أصبح ثمرة مهترئة لا يود أحد الحصول عليها ولا تحمل مسؤولية المصائب التي تزخر بها. من هنا يمكن فهم إصرار "حزب الله" على عدم الانزلاق إلى حرب شاملة إلا في حالات الاضطرار كتلقيه ضربة إسرائيلية لا يمكنه تحملها وتمريرها.
البلد أصبح ثمرة مهترئة لا يود أحد الحصول عليها ولا تحمل مسؤولية المصائب التي تزخر بها
في المقابل، لا يشعر كثر من اللبنانيين بأنهم معنيون بالحرب ولا بالصراع الدائر في جنوب بلدهم منذ أكثر من عشرة أشهر إلا بمقدار ما يؤثر القتال على حياتهم اليومية. ومعروف أن انهيار لبنان المستمر منذ 2019 يشمل ليس فقط مؤسسات الدولة، بل أيضا مساحات الحياة الاجتماعية المشتركة، فقد عادت الطوائف إلى معازلها حيث تقبع كل جماعة في "بانتوستان" تشعر فيه بالأمان في مواجهة الجماعات المعادية.
المفارقة في الحالة هذه أن أعدادا كبيرة من اللبنانيين لن تتأثر بالضربة الإسرائيلية المنتظرة. وإذا استثنيا مطار بيروت وبعض المرافق العامة، فلن نعثر على شيء يتشارك اللبنانيون فيه. فالكهرباء تنتج محليا بعدما فشلت الدولة في علاج هذه المعضلة المستمرة منذ عقود. ولا بنى تحتية يمكن أن تستحق هذه التسمية حيث الطرق والجسور وشبكات المياه والصرف الصحي والإنترنت في حالة مزرية وتعمل بالقصور الذاتي.
عليه، يمكن الاعتقاد أن الضربة الإسرائيلية ستصيب مكانها فقط ولن يتضرر منها "النسيج الاجتماعي" بسبب تمزق النسيج هذا وتوزع اللبنانيين على جماعاتهم ومناطقهم ومعازلهم التي يبحثون فيها عن الأمن في مواجهة "الآخر" الذي كان في يوم مضى، شريكا في الوطن. والمدنيون اللبنانيون الذين سيلاقون مصارعهم هم من المصنفين سلفا ضمن طوائف وليس ضمن انتماء وطني جامع. وعليه، سيكون الضحايا "شهداء" في بيئتهم وطائفتهم ومشروعها السياسي وليس "شهداء الوطن".
هل هي "الضارة النافعة" التي يُحكى عنها؟ بعدما اضمحلت عوامل الوحدة الوطنية والإجماعات الكبرى التي تبنى الدول عليها؟ ربما. خصوصا أن اللبنانيين لا يبدون كبير اهتمام بإعادة بناء دولة يعرفون مسبقا أنها ستعكس المستنقع الحالي الذي يقيمون فيه حاليا بمزيج من الرضا والتواطؤ والعجز.