في عالمنا العربي هناك اختزال مخلّ لمفهوم الحرية، فلا نراه إلا في صورة منحلّة لا تحترم شيئا، حرية إشباع الشهوات الحسّية، مع أن الحرية قضية نبيلة شريفة كبرى وشأن عظيم تحار فيه العقول، تحار لكبر المساحات التي يتسلل إليها، وحجم الاختلاف في فهمها. ويزداد الاختلاف اتساعا عندما يكون الحديث عن فرع من فروع الحرية، ألا وهو حرية التعبير، موضوع الساعة، وهل يليق أن يقف إنسان متحضر ضد حرية التعبير فيصطف بذلك مع محاكم التفتيش وصلب العلماء والفلاسفة؟ وإن هو نحى منحى آخر فكيف سيستبيح إلحاق الأذى بمليارات من البشر، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالدين والمعتقدات التي يقدسها الناس؟ لا بد من النظر إلى جانبي القضية كما كان يفعل بيرون والفلاسفة السفسطائيون.
لك أن تبدأ في تصور اتساع مفهوم الحرية عندما تتذكر أن المريض عندما يتعافى يكون قد تحرّر مما كان يحبسه ويطرحه أرضا. فالمريض مثل السجين بلا حرية لأنهما لا يستطيعان أن يفعلا ما يريدان. عندما تتفكك مشكلة قد أقضت مضجعك وأشغلت فكرك فإنك ولا بد ستشعر بنعمة الحرية وستتنفس الصعداء. عندما تتحرّر من الحزن والغضب والخوف فأنت تتخلص حقا من رق.
الحرية ضد العبودية، وتقول العرب أن الحُر من الأشياء هو أفضلها مثلما يوصف أفضل أنواع الصقور بأنه "الحر". ووصف شيء ما بأنه حر يعني أن يكون خاليا من الشوائب ولذلك يقولون: ذهب حُر، أي لا نحاس فيه. وكما هو معلوم، يمكن أن يرتبط المصطلح بصبغة اجتماعية فعندما تحرر المستعبدون قديما من الرق أصبحوا أحرارا، فالحُر هو الطليق من كل قيد اجتماعي.وقد يأخذ المفهوم معنى نفسيا، فالحُر هو الخالي من اللؤم.
عندما تتحرّر من الحزن والغضب والخوف فأنت تتخلص حقا من رق
الحرية صفة للموجود الخالص من القيود العامل بإرادته وطبيعته، وهذا ليس خاصا بالبشر، بل كل شيء بما في ذلك الجمادات. ولذلك أثار علماء الفيزياء الحديثة قضية السقوط الحُر للجسم، وعن طبيعة حركته إذا لم يصطدم بجسم آخر، وتحدث البيولوجيون عن وظائف الحياة الحيوانية والنباتية التي توصف بالحرية إذا لم يمنعها مانع.
هل يمكن أن يكون الإنسان حُرا بالكامل؟ هذا ما ينفيه الفيلسوف الألماني لايبنتز فهو يرى أن الحرية المطلقة لله وحده، أما الكائنات العاقلة فلا توصف بالحرية إلا بمقدار تحرّرها من الهوى. وهناك فلاسفة كبار كسبينوزا وهيغل ينحيان منحى مختلفا فيقرران أن لا حرية فردية، وأن الحرية الوحيدة التي يمكن أن نتمتع بها هي حرية القبول والخضوع لهذه الجبرية الحتمية التي تحكم العالم والوجود. إنهما يحيلان مفهوم الحرية إلى القوى الطبيعية التي لا دور للفرد فيها. الفاعل الحُر عند سبينوزا وهيغل هو من يقيد نفسه بعقله، بمعنى أن الحرية تابعة لشروط متغيّرة توجب تحديدها وتخصيصها.
في مقابل هذا الرأي، يخلص جان بول سارتر إلى القول: أنت حُر رغم أنفك وكل البشر كذلك. حتى من يشعر أنه ضحى بحريته من أجل الآخرين وأنه لم يعش حياته كما ينبغي، هو من وجهة نظر سارتر حُر قد اتخذ قرارا وجوديا حُرا، وهو وحده المسؤول عن هذا الاختيار وتبعاته. إنه يقف موقف التحدّي ضد الحتمية السبينوزية الهيغلية لأنه يعتقد أن فعل الإنسان يتولد عن إرادته. أي أنك عندما تبحث في أعماق نفسك عن سبب لفعل ما فعلته، فلن تجد سوى إرادتك، مهما حاولت أن تحيل إلى سبب آخر، لأن الإرادة هي السبب الأول المتحرر من المؤثرات الخارجية، ولهذه الإرادة الحق في الترجيح من دون مرجح إن لزم الأمر.
ويمكن أن نطلق وصف الحرية على القدرة التي تظهر ما في نفس الإنسان من صفات فريدة يحقق بها ذاته في كل فعل من أفعاله فيُحس بحريته مباشرة ويشعر أنها نظام فريد يصبح فيه العقل بلا قيمة حقيقية. وقد أوضح هنري بيرغسون هذا بالقول إن الحرية تعني أن ننسب ذواتنا إلى أفعالها كنسبة الفنان إلى أعماله الفنية.
الحرية المطلقة تبدو مفهوما خياليا لا يمكن أن يتوفر في حياة البشر
والحرية بالمعنى السياسي الاجتماعي تتفرع إلى قسمين نسبي ومطلق، فالمطلق هنا يبعد الفرد عن مجتمعه ويجعله من دون التزام بأي شيء، والإنسان كائن اجتماعي بطبعه، كما قرر أرسطو، لا يمكن أن يعيش وحده، إلا في حالات شاذة للغاية. أما الحرية النسبية فتعني التحرر من الإكراه الاجتماعي، والحُر النسبي هو المواطن المطيع للقانون، كما جاء في المادة 11 من ميثاق حقوق الإنسان الفرنسي الأول سنة 1789: أن حرية الإعراب عن الفكر والرأي أثمن حقوق الإنسان، وللمواطن التعبير عن رأيه بشرط أن يكون مسؤولا عن عمله في الحدود التي يعيّنها القانون. وفي المادة 29: يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته للقيود التي يحددها القانون. والغرض من التقيد بالقانون هو ضمان الاعتراف بحقوق الغير، واحترام حرياته، وتحقيق ما يقتضيه النظام العام من شروط عادلة. حريتك تنتهي عندما تصل إلى حدود حرية الآخرين، بمعنى أنه يجب ألا تنطوي على أي نوع من الضرر لمن هو سواك. هذا هو الممكن، أن تكون حُرا نسبيا، أما الحرية المطلقة، فتبدو مفهوما خياليا لا يمكن أن يتوفر في حياة البشر ولا في حياة حيوان الغاب.