محمد الحرز لـ"المجلة": الشعر السعودي لم يحظ بقراءة نقدية جادةhttps://www.majalla.com/node/321694/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%B2-%D9%84%D9%80%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A-%D9%84%D9%85-%D9%8A%D8%AD%D8%B8-%D8%A8%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%86%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%AC%D8%A7%D8%AF%D8%A9
ينتمي الشاعر محمد الحرز إلى جيل التسعينات في الشعر السعودي، ذاك الجيل الذي وجد نفسه بين مؤثراتٍ قوية وجذابة تأتيه من الخارج وتستجيب لطموحاته، وبين بيئة شعرية لا تزال مخلصة للتراث ولبدايات الحداثة الأولى التي جاءت مع قصيدة التفعيلة. وهكذا اندفع مع عدد من أفراد هذا الجيل إلى قصيدة النثر وممكناتها الواسعة والمتنوعة، واستطاعت تجاربهم أن تفتح أفقا جديدا للشعر السعودي الجديد، بل أن تصنع لهم مساحة داخل المشهد الشعري العربي ككل.
نشر محمد الحرز ست مجموعات شعرية، وكانت البداية مع "رجل يشبهني" سنة 1999. وإلى جانب الشعر أصدر مؤلفات نقدية عديدة.
هنا حوار مع الشاعر الذي ستصدر له قريباً مجموعة سابعة بعنوان "مشاؤون بأنفاس الغزلان".
كيف كانت بداياتك، القراءات والمؤثرات، وصولا إلى نشر "رجل يشبهني" أول ديوان لك؟
لم تتشكّل في ذهني صورة واضحة عن تلك المؤثرات التي قادتني إلى الشعر، ومن ثمّ، إلى تلك القراءات المرتبطة بها، لا سيّما أني عشت في مدينة الأحساء حيث كانت تقاليدها في الكتابة الشعرية ليست مفصولة عن عاداتها وتقاليدها الاجتماعية الموروثة. فالمناسبات الدينية والاحتفالات الشعبية كانت الحاضنة لكل ميل تظهر بوادره عند هذا الشاب أو ذاك. وبالتالي لم أتوقع يوما أن ينتهي بي المطاف إلى تبني الكتابة الحديثة (قصيدة النثر) خلاف ما درج عليه أقراني وأصدقائي الذين أصبح جلّهم مشهورين بالكتابة الشعرية الكلاسيكية. لكن حين ألتفت إلى الوراء، وأسترجع مفاصل معينة من حياة الطفولة، أدرك طبيعة المؤثرات اللاواعية التي ارتبطت بحساسية الشعر عندي، وطريقة التفكير فيه. ولهذه الطبيعة جانبان، الأول منهما يتعلق بفترة من طفولتي كنت فيها أتأرجح بين مدينتين يفصل بينهما بحر الخليج العربي. بين مدينة المحرق بالبحرين التي ولدت فيها قريبا من البحر، وبين مدينة الأحساء قضيت شطرا من طفولتي متنقلا بينهما عبر مراكب خشبية تشق عباب البحر ببطء وكأنها في نزهة وليس للسفر، مع عائلتي في السبعينات الميلادية. منظر البحر وأصوات أمواجه أظنها حفرت عميقا في ذاكرة ووجدان الطفل الذي لم يتجاوز عمره سبع سنوات. بينما الجانب الآخر هو ذلك الأثر الذي تركه جدي لأبي على شخصيتي، فقد كان شغوفا بقراءة قصص التراث وأساطيره كألف ليلة وليلة وسيرة عنترة وسيف بن ذي يزن أمام أحفاده بطريقة ساحرة ومحفزة لعمل المخيلة.
بيروت لم تكن مركزا جاذبا للحداثة وذاكرتها فقط، بل كانت المصدر والمرجع الثقافي والأدبي الذي كان يجعلنا على تماس مع العالم
لاحقا حينما بدأت بقراءة كلاسيكيات الشعر العربي وكتابته بحكم الدراسة في الجامعة، كنت مهجوسا بمتابعة كل ما يستجد في الساحة العربية من إنتاج شعري، طفت عواصم عربية، زرت شعراء عربا، وأجريت حوارات صحافية معهم وحضرت مهرجانات شعرية عديدة. ذلك كله أعاد تشكيل ذائقتي الشعرية وربطني بالحداثة الشعرية من أوسع أبوابها. جرى كل ذلك الحراك عندي ونشاطه في فترة التسعينات، وفي نهاية هذا العقد توّجتهُ بإصداري الأول "رجل يشبهني".
المراكز
ديوانك الأول صدر في بيروت، وكذلك بعض الدواوين التالية. العديد من الشعراء السعوديين وأكثرهم من جيلك فعلوا ذلك. هل هي محاولة للانوجاد في قلب مشهد شعري حيوي أكثر؟ البدء من أحد المراكز الأساسية للحداثة الشعرية العربية؟ الحصول على اعتراف خارج الحدود؟
قد تكون هذه المحاولة، واحدة من تلك الدوافع العديدة، التي رغب جيلي ممن يتطلعون إلى ارتياد أفق الحداثة الشعرية، في تحقيقها. فبيروت بالنسبة إلينا (وأنا أتحدث هنا عن مجموعة من الأصدقاء الشعراء المقربين) لم تكن مركزا جاذبا للحداثة وذاكرتها فقط، بل كانت المصدر والمرجع الثقافي والأدبي الذي كان يجعلنا على تماس مع العالم وما يجري فيه من أحداث وتحولات شعرية وفكرية، على درجة كبيرة من الأهمية للشاعر والمثقف على حد سواء. هي بمثابة الرئة التي يتنفس من خلالها كل شاعر، في تلك الفترة، إذا ما أراد لتجربته أن تتطور وأن تكون في قلب المشهد الشعري الحيوي كما قلت. وهذه من الشروط الملزمة التي لا ترتبط بهذه الجماعة أو تلك، ما دام الأمر يتعلق بالشعر وحراكه في الأفق العربي.
لكن ثمة دوافع أخرى، تخص مسألة الطباعة في بيروت، ففضلا عن كونها المركز الرئيس للطباعة في العالم العربي بجانب القاهرة، فمن الطبيعي أن يفكر المبدع أو الكاتب في الانوجاد والحضور، وأن يسعى لإثبات ذاته في أوساطها التي تشع بأسماء ورموز مؤثرة في الثقافة والأدب. ومما يزيد هذا المسعى إصرارا وتشبثا بحباله عند الكثير من جيلي، هو الوضع الذي كانت تعانيه مسألة طباعة الأعمال الإبداعية الحداثية مقارنة بالأعمال الكلاسيكية التي كانت تحظى بالكثير من العناية والرعاية والدعم عند الكثير من المؤسسات الثقافية الرسمية كالأندية الأدبية. صحيح أن الإعلام وبعض الملاحق الثقافية والأدبية في الصحف اهتمّت واحتفت في تلك الفترة بالكتابة الجديدة شعرا ونقدا. لكن ذلك لم يكن ليسمح للتمدد أكثر، فالتيار المضاد كان أشرس وأقوى.
تنتمي زمنيا إلى جيل التسعينات في الشعر السعودي. ما أهم منجزات هذا الجيل، وكيف هي العلاقة بين الأجيال والتجارب الجديدة في الشعر السعودي؟
تنوعت قصيدة جيل التسعينات بين من يكتب منهم القصيدة التفعيلية وحتى العمودية، ومنهم من يكتب قصيدة النثر فقط. لكنهم جميعا كانوا يشتركون في فضاء كتابي واقع تحت سطوة ونجومية شعراء الثمانينات، وأذكر هنا محمد الثبيتي وعبد الله الصيخان كمثلين فقط. هذه السطوة أنتجت نسخا مكررة من قصائد التفعيلة عند جيل التسعينات باستثناء تجارب قليلة تجاوزت هذه السطوة وارتادت مناطق شعرية جديدة في صيغتها التفعيلية، ومحمد حبيبي كمثل، وهناك بالطبع أسماء تغيب عن ذهني هذه اللحظة. أما كتّاب قصيدة النثر فإحساسهم بالتهميش من أطراف متعددة (المتلقي، المنابر والمنصات، النقاد) قادهم إلى التمسك بحرية إبداعهم من جهة، وبحرية النص الذي يكتبونه من جهة أخرى، دون ضغوط أو تورط في مساجلات مرهقة، كأن النص وحده من يحتل تفكيرهم، فجاءت قصائدهم ممهورة بتأمل الفضاء المكاني الذي يعيشون فيه كتعويض مباشر عن مسألة التهميش، وعلى هذا الأساس تباينت سمات وخصائص تجارب هؤلاء من جيل التسعينات، وهذا التباين أفرز أصواتا متفردة رغم أنها في معظمها ذات مرجعية حداثية واحدة، وهذا في ظني أهم منجزات هذا الجيل.
العلاقة بين الأجيال والتجارب الجديدة قائمة على الذاكرة القصيرة، لا حوار ولا إصغاء، مجرد ضجيج
أما العلاقة بين الأجيال والتجارب الجديدة فهي قائمة على الذاكرة القصيرة، لا حوار ولا إصغاء، مجرد ضجيج، صداه لا يفتح أفقا تتطور من خلاله القصيدة. وما أعنيه هنا بالحوار والإصغاء هو وضع مختلف التجارب الشعرية القائمة بين الأجيال موضع المساءلة أمام الانفتاح على المشهد الشعري العالمي. لكن جيل التجارب الجديدة يملك الفرصة المتاحة للتقدم إلى هذا الموضع وتحقيقه، لأن الثقافة الجديدة في المملكة مع تحولات الرؤية مؤهلة لأن تنتج تجارب شعرية ذات منابع متنوعة، لم تكن متوفرة عند الأجيال السابقة كالنص السينمائي والفنون البصرية بشكل عام.
النقد
إلى جانب الشعر، أنت نشط على الجانب النقدي أيضا، وأصدرت عدة كتب عن الشعر وتحولاته ومفاهيم الكتابة ومسارات النقد. ماذا أضاف ذلك إلى تجربتك؟
في بداية تجربتي دخلت في مسار صعب من التشوش الذهني، وهو ما بدا واضحا في المنطق النقدي في بعض القصائد والجمل الشعرية في المجموعات الشعرية الأولى. لكن سرعان ما انتبهت إلى هذا المطبّ، وبفضل التأمل النقدي أيضا توصلت إلى قناعة أن امتلاك اللغة النقدية الصارمة ذات البعد اللغوي المجرّد الجاف، سوف يذهب بالمنطق الشعري والحساسية الكامنة خلفه، وعندها سيتوهم المرء أنه يكتب شعرا انطلاقا من انفعالاته بالحياة وانطلاقا من علاقته الحميمة باللغة. لكنه في واقع الأمر يكتب الشعر بلغة نقدية جافة. الكثير من النقاد المحترفين يقعون في هذا الفخ عندما يريدون كتابة الشعر. لذلك بقدر ما كانت قراءاتي النقدية وثيقة الصلة بحبّ التجارب التي أتناولها من العمق كانت لغتها أقرب إلى الشعر منها إلى الخطاب النقدي وصرامة مفاهيمه ومصطلحاته. قد لا تكون هذه القراءات معيارا صالحا كمرجع للدراسات الأكاديمية في نظر الأكاديميين والمحترفين. لكن في نظري هي وثيقة مهمة تعكس قدرة الشعر على التواصل والحوار بين المبدعين مهما تباعدت بينهم المسافات والأزمنة. وهذه في ظني أهم وظائف النقد بين الشعراء. ناهيك عن التأمل النقدي انطلاقا من اللغة الشعرية نفسها منحني القدرة على تبرير جماليات ما أكتب، ومن ثم أضاء لي اختبار تلك الجماليات سواء بالحديث عنها بصوت مرتفع، أو من خلال نقدها بالأدوات النقدية التي أملكها. ولا أظن أن الوعي النقدي عند الشعراء يُخلي مكانه بالكامل للدور الكبير الذي يمارسه الناقد الأكاديمي، فكلا الطرفين له القدرة على الإضافة في مجاله وتأثيره على الخطاب الشعري. وكوني شاعرا فأنا أميل إلى أن يأخذ الشعراء بعضهم يد بعض نقديا بعيدا من المماحكات وتقليل قيمة الشاعر المنافس. بينما تبقى المقاربات النقدية الكبرى للنقاد الأكاديميين الجادين علامة بارزة في التاريخ الشعري.
في موازاة ذلك، وبالنسبة إلى ما كُتب وما يُكتب راهنا، هل حصل الشعر السعودي على ما يستحق من متابعة ونقد من الصحافة الثقافية العربية وليس من الصحافة السعودية أو الخليجية فقط؟
لفترات طويلة ظلت خريطة الشعر السعودي غير معروفة على نطاق الصحافة العربية إلا كأسماء محددة في الشعر والنقد، فرضها منذ مرحلة السبعينات والثمانينات انتشار المهرجانات الشعرية والدوريات المتخصصة في بلدان ومدن كالعراق ومصر وبيروت والأردن. لكن لم يبدأ التركيز المكثف على تفاصيل الخريطة إلا مع بروز الملفات المخصصة للشعر في هذا البلد أو ذاك، بإزاء انتشار الأنطولوجيات الشعرية التي عرّفتْ شريحة كبيرة من الجمهور العربي على ملمح عام عن أبرز شعراء العالم العربي. رغم ذلك فإن مثل هذا التركيز لا يقارن بطبيعة الحال بما يجري من حراك في الساحات الرئيسة الأخرى كبغداد أو القاهرة أو بيروت، وما يجري من تحولات مفصلية في تاريخ الشعر العربي على يد شعراء كبار، المقرون دائما بصحافة ثقافية وأدبية قوية تواكب كل هذه التحولات وتسلط الضوء عليها.
أميل إلى أن يأخذ الشعراء بعضهم يد بعض نقديا بعيدا من المماحكات وتقليل قيمة الشاعر المنافس
بيد أن التطور الهائل الحادث في اللحظة الراهنة على شبكات التواصل وفّر الفرصة الكاملة للاطلاع والتعرف والانتشار والتواصل. وبالتالي لم تعد الصحافة الورقية المنفذ الوحيد كما السابق. لكن السؤال الذي يبقى قائما ضمن مفهوم الاستحقاق، هل خضع الشعر السعودي إلى دراسات جادة؟ أظن أنه لم يحظَ بذلك، رغم كثافة الرسائل الأكاديمية التي تصدّرها جامعاتنا عن بعض النماذج الشعرية من هنا وهناك.
نقلات
صدرت لك سبعة دواوين. ما النقلات أو التغيرات التي كانت تحدث في شعرك؟ أم أن الشعر يظل حصيلة تغيرات بطيئة وجوّانية ليس بالضرورة أن تكون دراماتيكية داخل تجربة الشاعر الواحد؟ بمعنى آخر: هل يكتب الشاعر دوما قصيدته ذاتها؟
عبوري من ديوان إلى آخر، كانت تحكمه الخطوات نفسها والمسار ذاته. لم أشعر يوما ما بهاجس التغيير الذي يدفعني إلى تجاوز ما أكتبه، وتخطي بعض السمات التي ارتبطت بشعري، أكان مثل هذا التجاوز بدافع الشعور الواعي أم بدافع اللاوعي. ربما رتابة الحياة التي كنت أعيشها ونمطيتها فرضت جزءا من هذا الشعور. وكما قلت هناك قصيدة واحدة يكتبها الشاعر في حياته، وما يتراكم فوقها من قصائد ليست سوى تنويعات عليها تقل أو تكثر، تضيق أو تتسع حسب العالم الداخلي الروحي للشاعر، وعلاقته بالحياة المباشرة وظروفها. بالنسبة إليّ أظن أنني، من خلال تأثيرات السوريالية في نسختها العربية، عبرت بتجربتي من فكرة التجريب في اللغة إلى فكرة الحياة نفسها باعتبارها واقعا وجوديا ونفسيا وتاريخيا. من التداعي السردي إلى التكثيف والتركيب، أي من ديوان "أخف من الريش أعمق من الألم"، وديوان "أسمال لا تتذكر دم الفريسة" إلى ديوان "أحمل مسدسي وأتبع الليل". لكنه بالنهاية يمثّل لي عبورا خافتا، لا يقع تحت نظري النقدي، ولا يقع تحت رغبتي في تجاوز ذاتي سواء في الكتابة أو الحياة.
المعجم
تتسم قصائدك بنوع من التدفق اللغوي مع معجم بمفردات متينة وفيها نكهة تراثية أيضا، بالإضافة إلى غزارة الصور والمجازات. من أين يأتي كل ذلك؟ وكيف يمتزج في نص شعري يسعى إلى أن يكون حديثا وراهنا؟
أحمل ذاكرة شعرية انبنى جزء كبير منها على قراءات في التراث الأدبي والشعري. حفظت كثيرا من أشعار المتنبي وأبي تمام، وتولعت في لحظة ما بأشعار نزار قباني وبدوي الجبل والجواهري. وكتبت القصيدة العمودية والتفعيلة فترة من الزمن ليست بالقصيرة. قد تكون هذه المنابع لا تزال تتدفق بطريقة أو بأخرى، وتتسلل إلى نصي من أبوابها السرية. لكنها تعطيني الإحساس بالعودة إلى التراث على أرض جديدة مخصّبة بكل التصورات والقناعات التي أحملها عن الشعر في لحظتي الراهنة. ربما هذا المزج الذي أشرت إليه في سؤالك يفضي إلى معضلة إغراق النص بالمجازات والصور، ومحاولة التخفف هو عمل مضاد للإغراق. لكنه يعتمد في الأساس على اكتشاف الحياة في ارتباطها بالعالم، وأظن نصي يسعى إلى ذلك، لكن من الصعوبة بمكان، لأن هذا ما لا يتوفر في كل نص، فضلا عن التجارب كاملة.
الغياب مثلما الموت حالة شعرية لا يتوقف ماؤها عن التدفق وإغراء الشعراء بالتزود منه
ديوانك الجديد "مشاؤون بأنفاس الغزلان" سيصدر قريبا. ما الجديد الذي فيه؟
الكثير من نصوص المجموعة يدور حول الموت والغياب والشعر نفسه. وهي ثيمات كانت حاضرة في مجموعاتي السابقة. لكن ثمة فرقا بين حضور الموت – على سبيل المثل- كتأمل وجودي في بعض القصائد وبين حضوره في هذه المجموعة كحدث يرتبط بالوجدان والجسد. وكذلك الغياب مثلما الموت حالة شعرية لا يتوقف ماؤها عن التدفق وإغراء الشعراء بالتزود منه، حيث الواحدة تستدعي الأخرى، في ترابط يفتح الباب على تأمل هشاشة الإنسان من الداخل. وما ينطبق على الموت والغياب عندي ينطبق على الشعر نفسه وكأن استدعاء هذه الثيمات شرط نفسي وفني لاكتمال القصيدة عندي في هذه المجموعة.
تقول في واحدة من قصائد هذا الديوان: "أنا الشاعر الذي تعوّد أن يضع سريره/ قرب سرير الكلمة وينام". هل يمكن القول إن هذه الصورة هي خلاصة ما لعمل الشاعر؟
الصورة في جوهرها قائمة على فكرة الانصات للغة والإصغاء إلى كلماتها، عبر غرف النوم المظلمة حيث الحواس في حالة سكون وانتباه في الوقت نفسه، والجسد يكون في وضعية استقبال المعنى بكامل طاقته. وما تسميه خلاصة عمل الشاعر، عندي تقطير اللغة عبر أنبوب الجسد هو خلاصة شقاء الشاعر مع جسده ولغته.