شعراء من غزة يرصدون أهوال الحرب وقسوة النزوح وأحلام العودة

محاولات لتوثيق المأساة ونقل الألم الفلسطيني

AFP
AFP
فلسطينيون يفرون من مخيم البريج للاجئين في وسط قطاع غزة في 28 يوليو 2024

شعراء من غزة يرصدون أهوال الحرب وقسوة النزوح وأحلام العودة

غزة: أنتجت الحرب الشعواء التي تشنّها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة، صورا شديدة القسوة، وثقتها الكاميرات وتناقلتها وسائل الإعلام وحسابات التواصل الاجتماعي عبر العالم. وعلى الرغم من الظروف المستحيلة التي يعيشها أهل القطاع يوميا منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لم يتوقف الشعراء الفلسطينيون عن محاولة تجسيد المأساة والكتابة عنها، في مهمة ربما لا تكون جمالية بقدر ما تحمل همّ التوثيق ونقل الألم الفلسطيني إلى العالم.

تختلف ظروف كل شاعر عن الآخر خلال هذه الحرب، فمن بقي في شمال غزة، ليس كمن نزح إلى جنوبها. فنجد مثلا أن شمال غزة يعاني الجوع وشح المواد الغذائية، في حين يعاني نازحو الجنوب مأساة النزوح والعيش في الخيم والألم جراء فراق المكان، وضبابية المستقبل.

لكنّ مشاعر الألم والإحباط والخوف والتقزز مما ترتكبه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني هي المسيطرة لدى الشعراء الغزيين، حيث يتم انتهاك كافة الأعراف الدولية بطريقة دونية تفقد الإنسان أمانه، وتعزز خوفه وعدم ثقته بمستقبله، فتصبح مهمة الشاعر أشد قسوة في تجريد ذلك ودمجه شعريا.

جوع وقصف

يواجه الشاعر حيدر الغزالي الباقي في شمال غزة، رحلة الدمار والجوع والنزوح، ويرصد شعريا، كيف يموت الإنسان الفلسطيني كل ثانية تحت القصف، حتى أنه نسي معنى الهدوء. ويرصد كيف تمسح صورة من العالم كأنها ورقة خارجة من المحبرة، تُمزّق، ثم ينتهي الأمر، وتتواصل الحياة.

 جائع جدا

لكنني جائع للحياة أكثر

جائع جدا

لكنني جائع للهدوء أكثر

جائع جدا

لكنني جائع للسلام أكثر

حيدر الغزالي

يعبر الشاعر الشاب في نصه أيضا عن صرخة الجوع التي تحتلّ جسده. يكتب:

"جائع جدا

لكنني جائع للحياة أكثر

جائع جدا

لكنني جائع للهدوء أكثر

جائع جدا

لكنني جائع للسلام أكثر

كانت ملوّنة

بالخضار والطعام

من سرق ألوانَ ثلاجتنا؟

_إسرائيل".

حيدر الغزالي

تقفز الصورة عند الغزالي بصورة مباشرة، دون تورية أو مواربة، حيث لا يأتي الشعر في زمن الحرب والمجازر الجماعية بالمبتكر، وتصبح فرصة تعريف الضحية، أمرا شاقا.

تتجلى الضحية في شعر الغزالي، عبر اللعب على التناقضات، بين ما يجب أن يكون وما يحدث، وعبر استحضار الماضي، حيث كان لكل ألم نهاية، ولكل طريق محطة راحة. إنه الصراخ عبر اللغة، طريقة الغزالي في طرح المأساة الفلسطينية، وكأن الغزالي يسأل في نصوصه: هل يحتمل احتكاك الألم بالإنسان الى هذه الدرجة؟ هل يحتمل جسد إنسان هذه الحدة من السكين؟

وينسب الغزالي المذبحة الى جسده، فهو أحد ضحايا الذبح المحتملين خلال الحرب، ويضع من بعد ذلك العين وسيلة النقل والتخزين، كاميرا أخيرة لنقل فظاعة الجرائم الإسرائيلية، بعدما أفرغ شمال غزة من المصورين، يجيء الشعر ليقوم بمهمة فضح الجريمة.

لا يتوقف التجريب الشعري عند التوصيف، بل يحاول استكشاف المستقبل عبر التنقل ما بين المجازر، حيث يبدو اليوم التالي للحرب ضبابيا، فكل أهل غزة يحاولون تخيل ذلك المجهول، لربما بهدف مفارقة الألم الذي يعتريهم.

يقول الغزالي:

"أنا في المذبحة، كل عين أمامها سكين واضحة كالمرايا.

تسألني عن المستقبل

ولا أرى سوى قاتلي

كلما تتلطّخ السكين بالدماء

يغيب".

يختصر شعر الغزالي طبيعة الحياة خلال حرب غزة، عبر ذكر يوميات عادية، لربما كانت قبل الحرب مملة، لكنها تحولت أمنيات لدى الفلسطينيين، في مواجهة مستويات شتى من المشقة، تنتظر الفلسطينيين كل صباح. فيبحث الفلسطيني خلال الحرب عن الراحة، وانتهاء رحلة النزوح، والعودة إلى المنزل أو ركامه، وذهاب الحرب دون عودة، بأصوات صواريخها، والرعب الناجم عنها. يكتب الشاعر:

"نسيت

كيف أدلق قلبي في البانيو

وأشعل في الماء صمتا

وأغفو.

كيف أُعدُّ نفسي لنوم عادي

كمن لا يجهز نفسه لصاروخ.

نسيت مذاق الهدوء،

فذكروني".

نزوح وخيمة

لكن الشاعرة نعمة حسن، التي نزحت من رفح إلى خان يونس، وتنقلت بين عدة أماكن للنجاة وعائلتها من الموت، تبدو تركيبة المشاعر لديها أكثر تفصيلا وتعقيدا، حول النزوح المتكرر، ورهبة الموت، الذي لربما صار أقلّ حدّة لدى سكان شمال غزة،  فلا تترك حسن مكانا الا وتتلمّس الموت فيه داخل هذه الحرب المبيدة لكل شيء.

AFP
مخيم للنازحين الفلسطينينن في أراضي مقبرة في الجزء الغربي من مدينة خان يونس، في جنوب قطاع غزة، في 26 يوليو 2024

تتجسّد في الخيمة حالة شعرية بائسة دون أن تتدخل الشاعرية للوصف والتجريد وإعادة تركيب المعنى، فتبحث حسن عن خيالاتها داخل الخيمة كأنها تلقي حجرا في بئر، وتصيخ السمع إلى خوفها، عبر تفعيل صورة الخيمة، ليس كونها قماشا على رمل، بل غطاء لبعض الموتى، يرقدون تحتها للراحة من رؤية موتى آخرين حولهم.

  الموت يختبئ في كل مكان،

وأنا أخاف أن أقلق الجثث

نعمة حسن

وعلى الرغم من ثقل وطأة الموت في شعر نعمة حسن، إلا أنها تبحث دوما عن طريقة للمواصلة والنجاة، فلا طريق آخر في هذه الحرب، خاصة في ظل إغلاق الاحتلال الإسرائيلي جميع معابر قطاع غزة، ومنع سكانه من المغادرة، فصار الجميع أمام أحكام إجبارية بمواجهة أبشع أشكال الموت.

تقول نعمة حسن:

"كلما جربت الحفر في رمل خيمتي،

وتحسست شيئا صلبا، أتراجع فورا عن التكملة،

الموت يختبئ في كل مكان،

وأنا أخاف أن أقلق الجثث".

يظهر وجه آخر للحياة في شعر نعمة حسن، حينما تعود الى طرح فكرة البقاء في الأرض، والتشبّث بها كأن جذورا جديدة تنمو للإنسان مع كل نزوح قهري، ذلك الأمل الذي يتشبّث به المرء في أحلك ظروفه.

ويأتي الباطن الممتلئ بالخوف في كلمات حسن، دوما ممزوجا بآمال العودة، حيث يحمل خطابها الشعري حياة، لا تموت فيها كل الأشياء، على الرغم من كثافة الموت.

نعمة حسن

تريد نعمة حسن القول إن الحياة التي تنبت داخل الشعر، على الرغم من سطوة حرب الإبادة التي يتعرض لها أبناء القطاع، هي بمثابة فكرة أخرى يحملها الفلسطيني في يده ليتمكن من مواصلة العيش، ولو من داخل خيمة.

تكتب الشاعرة: "الصباحات التي تنمو داخلك..كشجرة تؤنس وجه الخيمة تجعلك تؤمن أن البقاء فكرة لا تستطيع الحرب أن تقتلها.

الشجرة التي كبرت أمام خيمتي تركتها تكمل فكرة الحياة وذهبت نحو نزوح جديد".

تجريد وحروب سابقة

أما الشاعر الغزي خالد جمعة، المقيم في الضفة الغربية والذي عايش عدة حروب من قبل داخل غزة، فيتبنى في إحدى قصائده حوارات ذاتية كأنها الأسرار التي يعجز الأب عن مناقشتها مع أطفاله وقت احتدام الحرب، في ظل القصف العنيف، والتنكيل بالإنسان، وانقطاع الماء والكهرباء، وتناقص فرص الأمان في ظل النزوح تحت الصواريخ المستمرة، فتكون الحالة المسيطرة هي الخوف من كل شيء، وانعدام الثقة في النجاة.

وفي ظل تعدّد مشاهد الإبادة وتكرارها، أو التنويع في أساليبها، بنهج يتبعه الاحتلال لترهيب الفلسطيني وقتل إرادته، واجه أطفال كثر مشاعر الفقد البشعة، للأبوين والعائلة، فهل يكون الشعر في تلك الصورة سوى محرّك لماء الأسئلة الراكدة؟

AFP
انفجار صاروخ في مدينة غزة أثناء غارة جوية إسرائيلية في 8 أكتوبر 2023

تلك المشهدية التي يرسمها جمعة في نصه، تقتبس جزءا من مقاطع الخراب الذي تنتجه الحرب على الدوام، وتطرح صورة موازية للعالم عبر مكان لم يكن لأحد أن يتخيله من قبل، لكنه أصبح جزءا من الواقع خلال الحرب، لكن لربما يتخيل جمعة الحرب بذاكرته القديمة، ومشاعره المخزنة عنها، لذا كتب عنها بطريقة أكثر تجريدا، ممن يعيشون الحرب الحالية، ترصد المشاعر والتناقضات بينها، فغلب على نصه الطابع الحسّي.

 حين وصلني الدور بعد ساعات

عرفت أن الطابور كان لعائلات

تحاول التعرف على جثث أبنائها

خالد جمعة

هذه تظاهرة الشعر الصامتة، التي يقوم بها خالد جمعة، ومن خلالها يختصر صوت القتل الذي يتعرض له الفلسطيني، بمجازية الشعر. يكتب:

"لا تسأليني، فأنا لا أعرف

كل ما قلتُه لك من قبل.

كان كذبا كي تنامي.

كان كذبا كي تصدقي

أن الماء غير ضروري للحياة.

كان كذبا لتحلمي أنّك ستعودين

إلى ألعابك ودفاترك وصديقاتك.

كان كذبا كي تظني أن أبويك ما زالا حيين.

كان كذبا لتتوهمي

أن الجائعين يدخلون الجنة مبكرا.

لا تسأليني فأنا لا أعرف

أين ستكونين بعد خمس دقائق،

ولك حرية أن تصدقي كذبتي الأخيرة

"ستكونين بخير"

مع كل هذا الخراب".

تذهب أفكار جمعة في كثير من نصوصه، نحو تجسيد المشاهد اليومية في غزة بعمومية الوصف، وجماعية الأثر. فكل ظاهرة يمكن دمجها في قصيدة النثر، إن كان الشاعر متمرسا، ومجايلا لأكثر من زمن، مثل جمعة.

خالد جمعة وبحر غزة

يقدم الشاعر الغزي المخضرم صوتا قارئا لواقع غزة عبر تاريخها الطويل مع الألم، دامجا بين ذاكرة الماضي وخراب الحاصر، عبر أدوات تتكرر، ففي الماضي كان الطابور للحصول على طرد غذائي، أو ربطة خبز تتهافت عليها العائلات الغزية عندما تندلع الحرب، لكن عند جمعة، يأتي الطابور مختلفا، فيكتب:

"قال لي: شاهدتُ طابورا طويلا

قلتُ ربما يبيعون، أو يوزعون شيئا

لم أعرف ما الذي هناك

لأن من يصله الدور

يخرج من الجهة الأخرى

وحين وصلني الدور بعد ساعات

عرفت أن الطابور كان لعائلات

تحاول التعرف على جثث أبنائها".

font change

مقالات ذات صلة