ليست المرّة الأولى، منذ بدء إحدى أشرس الحروب وأكثرها وحشية في الشرق الأوسط في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، التي يقف فيها العالم حابسا أنفاسه، في انتظار منعطف آخر أكثر دراماتيكية يقود المنطقة إلى "حرب شاملة". مهما حاولتَ التعامل بعقلانية مع هذا الحدث، واستعنت بالتحليلات السياسية حول حسابات الربح والخسارة، ومواقف الدول الكبرى، والمنخرطين أساسا في الحرب، فإنك لن تستطيع دفع شعور خفيّ بالتوجّس. ربما "التوجّس" ليس التعبير الأنسب لوصف الحال، بقدر ما هو شعور دائم بالمفارقة. الحرب في غزة تعمل وفق معادلة باتت واضحة حدّ السخف: قتل مفتوح للأبرياء يحسّن شروط "الصفقة" التي يجري الحديث عنها منذ أشهر، أو ربما يمليها إملاء في نهاية المطاف. أي المزيد من القتل في سبيل التوصل إلى اتفاقية توقف القتل!
القتل هناك بات أمرا يوميا، ثابتا من ثوابت الحرب، عدادا تتوالى الأرقام على صفحته. الصور المرعبة باتت هي الأخرى مكرّرة، كلّ ما من شأنه أن يهزّ العالم، لم يعد يهزّ أحدا. مرة أخرى، نجحت آلة الحرب الإسرائيلية في جعل الموت شأنا اعتياديا. لتدرك فداحة ما يجري، حقيقة أن هناك أناسا، أطفالا ونساء، يقتلون بمعدّلات يومية تتحدّى كلّ منطق، ليس عليك سوى متابعة السجال حول لوحة "العشاء الأخير" في افتتاح أولمبياد باريس. السجال في حدّ ذاته، أي كونه قائما في الأساس، درجات الاستياء، تعبيرات الغضب، الآراء المتطايرة، المزاج العام، كلّ هذا يقودك إلى شعور مرير باليأس. قتل طفل واحد يفترض به أن يهزّ العالم، ويضعه موضع شكّ كبير حول كلّ القيم الأخلاقية والإنسانية والسياسية والثقافية، إلا أن هذا ببساطة لا يحصل. الموت في فلسطين هو مجرد حريق آخر في إحدى غابات العالم، حادث سير آخر على أتوتوستراد العالم السريع.
سجال "العشاء الأخير" في حدّ ذاته، أي كونه قائما في الأساس، يقودك إلى شعور مرير باليأس
ثم تأتي تلك المنعطفات، الحوادث الدافعة إلى الترقّب والانتظار والقلق. قبل ذلك كانت ليلة الصواريخ والطائرات المسيّرة، ثم جاء قصف مجدل شمس في الجولان السوري المحتل. في حقيقة الأمر، لم يبال أحد بأولئك الفتية الذين قتلوا هناك، بصرف النظر عن مصدر الصاروخ، والتراشق بالاتهامات، فموت 12 فتى لا يعني أحدا سوى من فقدوهم، أهلهم وأحبائهم. العالم عدا ذلك "يراقب بقلق"، تماما مثلما يراقب بقلق مقتل أطفال غزة، عذابهم وجوعهم ومرضهم ورعبهم. نحن في قعر غير مسبوق من تبلّد الأحاسيس. الجميع تحوّلوا ساعات تراقب فيها عقارب الثواني عقارب الدقائق، دون أن تتقدّم عقارب الساعات قيد أنملة. حقيقة الأمر أن العالم غير معنيّ بأولئك الضحايا اليوميين للحرب. إنهم ثمن لا بدّ منه. ثمن فادح ومؤلم فقط خلال لحظات حدوثه، ثم سرعان ما تُقلب الصفحة، ويختفي حتى الشعور البسيط بالأسف.
لكنّ الأسوأ يبقى ما يحلّ بروح الإنسانية في الأثناء. حقيقة أن ثمة منظومة أخلاقيّة افتراضية ما، يفترض بها أن تستر عيوب هذا العالم، وأن هذه المنظومة باتت بعد حرب غزة عارية تماما، وفارغة تماما من كلّ معنى، مثل كتلة أعصاب لم يعد يكسوها شيء، وصار علينا مواجهة الحقائق العارية الفجّة: موت البشر هو ضرر ثانويّ لآلة الحسابات السياسية المعقّدة. حرب غزة ليست استثناء سوى في حجم القتل ووتيرته ونطاقه الزمني الضيق. في سوريا والعراق قتل من الأطفال خلال العقدين الماضيين ما يوازي حربا عالمية ثالثة بالفعل، وفي المنطقة العربية برمتها لم يتوقف عدّاد القتل منذ عقود وعقود. كانت تلك مقتلة على دفعات. مقتلة غزة اليوم تجري دفعة واحدة. العالم لا يقف صامتا فحسب، بل يفعل ما بات يجيد فعله حدّ الفجيعة، اللامبالاة، اعتبار ذلك كله جزءا من ذلك الثمن الذي لا بدّ منه. أولئك الذين يحلّلون الأحداث قادرون على رسمها بوضوح قاتل بالمسطرة والقلم، ومع ذلك لن يقول أحد الحقيقة المرّة، أننا عدنا إلى عصور الإنسانية الأولى، حيث القبيلة تضحّي بأبنائها لكي تشبع غولا ما يقبع في الأعماق.
خلال "الحرب الباردة"، شاع في الجزء الغربي من العالم الخوف من القنبلة النووية. الجميع كانوا يواصلون حياتهم على وقع ذلك القلق. البعض القليل كان يبادر إلى وضع خطط وقائية، يبني ملاجئ تحت الأرض لينجو وعائلته مما كان يبدو حتميا. في الشعر كتب غريغوري كورسو قصيدته المؤثرة، "القنبلة"، التي أسماها "مدمّرة العوالم"، وفي السينما صنع ستانلي كيوبريك، "مستر ستراينجلف أو كيف توقفت عن القلق وتعلمت أن أحب القنبلة". الأول كان فجائعيا ورثى في قصيدته عالما ميتا، أرضا خرابا ورثها عن جده إيليوت، عن قائمة لا تنتهي من الأسلاف، أما الثاني فكان ساخرا متهكما، بدلا من أن نجلس منتظرين الموت بصمت، فلنضحك على الأقل.
عدنا إلى عصور الإنسانية الأولى، حيث القبيلة تضحّي بأبنائها لكي تشبع غولا ما يقبع في الأعماق
أسمع أحاديث عن "سيناريوهات" الردّ الإسرائيلي المحتمل، تحليلات ومقاطع فيديو تعرض أيضا هذه السيناريوهات، وهناك من يقول إن خطة الرد باتت جاهزة، لكنّ حادثة عرضية أخرى أجّلتها، بعد التمرد في قاعدتين عسكريتين إسرائيليتين. الجميع يقول "لا أحد يريد الانزلاق إلى حرب شاملة"، الجميع ينتظر القنبلة الآتية كأنها قدر محتوم. من هم على قائمة القتل لا يعرفون ذلك بعد. الضحايا لا يعرفون، لكننا نعرف أنه سيكون هناك ضحايا، وكلّ ما علينا فعله أن ننتظر، مثلما ننتظر مرور يوم آخر في غزة، شمس آخر تشرق على هذا العالم، وحش آخر علينا أن نطعمه أجساد أطفالنا لكي نواصل خوض نقاشاتنا المحمومة حول أحداث جرت أو لم تجر في الشرق قبل آلاف السنين أو حول مشهد في الغرب نرى فيه تجسيدا لـ"سقوط أخلاقي" آخر.