عوالم بورخيس الخيالية التي تلغي الحدود بين الكاتب والقارئ

بين دانتي وشكسبير وجويس وعالم المرايا

GettyImages
GettyImages
المؤلف الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، 21 أكتوبر 1977.

عوالم بورخيس الخيالية التي تلغي الحدود بين الكاتب والقارئ

في كتاب "بورخيس.. مساء عادي في بوينس آيريس"، للشاعر والمترجم الأميركي ويليس بارنستون، أوقفتْ سيدة في شارع من شوارع بوينس آيريس، خورخي لويس بورخيس ومرافقه بارنستون، وصرختْ بهستيريا: "بورخيس أنت أعظم كاتب في الأرجنتين". كانت يد السيدة كلاوديا هي التي أخذت يد بورخيس الأعمى الذي استسلم للمصافحة، وقال بابتسامة، وهي صمام أمان لكلماته اللاحقة "صديقتي العزيزة قولك هذا برهان واضح على أن بلدنا يمر بامتحان كبير".

كانت كلاوديا قرأتْ مرة، أن المسافة بين بورخيس في حياته اليومية، وبين أدبه، تكاد تكون معدومة، فاستعاراته ومجازاته ومفارقاته، مبثوثة في كلامه اليومي وفي أشعاره وقصصه الخرافية. كل ما يلمسه بورخيس يتحول إلى أدب خالص، ولم تحدّد كلاوديا إن كان هذا جحيما أم فردوسا. هناك احتمالان أمام الأرجنتين في امتحانها الكبير، إمّا السقوط، وإمّا النجاح، السقوط يحرم يورخيس حدة سخريته، والنجاح يعني أن الأرجنتين استطاعت فهم أدب بورخيس، وبالتالي تقدير قيمته، وحرمان بورخيس من سخريته، هكذا يفضّل بورخيس سقوط الأرجنتين في تقدير قيمته الأدبية.

إلا أن السيدة كلاوديا ذهبت أعمق في تأويل كلمات بورخيس وقالت في نفسها "لكن لماذا يكون الامتحان كبيرا لذائقة الأرجنتين الأدبية؟ ألا يكفي أن يكون امتحانا فقط؟ ألهذه الدرجة يصعُب على الأرجنتين السياسية، ومن ورائها أميركا اللاتينية كلها، تقدير قيمة بورخيس الأدبية؟ الأدب اللاتيني الأيديولوجي، غارثيا ماركيز، جورج أمادو، كارلوس فوينتس، أليخو كاربنتيير، ميغل أستورياس، ماريو بارغاس يوسا الذي يسأل بورخيس في كتابه "نصف قرن مع بورخيس"، في شكل اتهام، "لماذا تعلن بوقاحة تأييدك للمحافظين؟" فيرد بورخيس "إن السادة الجنتلمانات يفضلون القضايا الخاسرة".

الأطفال قبل نطقهم الكلمات، يرون عوالم في المرايا، لكنهم ينسونها، والحيوانات ترى العوالم نفسها مع فارق أنها لا تنساها

حيوانات المرايا

أجمل أساطير بورخيس هي تلك المتعلقة بالمرايا في كتاب مختارات لشعره وقصصه، والفقرة بعنوان "حيوانات المرايا"، وفيها أن من قديم الزمان كان عالَم المرايا، وعالَم البشر، منفصلين أحدهما عن الآخر، وعلى قدر كبير من الاختلاف، ولا يتطابق شيء فيهما، وكانت المملكتان، مملكة المرايا، ومملكة البشر، تعيشان في سلام، والناس بين داخل للمرايا، وخارج منها. وذات ليلة غزا أهل المرايا الأرضَ، إلا أن الإمبراطور الصيني الأصفر الخرافي، سحر الغزاة، وحبسهم في المرايا، وحكم عليهم بتكرار أفعال البشر، إلى ما لا نهاية.

GettyImages
خورخي لويس بورخيس (1899 - 1986) في مكتبه، بوينس آيريس، الأرجنتين، 1971.

هناك ظلال لحكاية بورخيس عند نسطوريوس الأنطاكي الذي ولد 381 ميلاديا، ومات في 451 ميلاديا، فقد كتب نسطوريوس على هامش لاهوته الرئيس القائل بطبيعتين، أن الأطفال قبل نطقهم الكلمات، يرون عوالم في المرايا، لكنهم ينسونها، والحيوانات ترى العوالم نفسها مع فارق أنها لا تنساها مثل الأطفال. وذكر جاك لاكان حكاية نسطوريوس الأنطاكي عن الأطفال والحيوانات والمرايا، وقال إن ما يراه الأطفال والحيوانات في المرايا ربما هو "الآخر الكبير"، والآخر الكبير عند لاكان هو الغرفة المظلمة التي تستوعب كل نفايات علم النفس غير القابلة للتفسير.  

اشتقاق

يشتق بورخيس من كتاب قديم كتابا جديدا، حتى يبدو الكتاب الجديد أفضل من القديم، وهذا أيضا حال الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو مع "مقامات" الهمذاني والحريري، فلا أحد يحب أن يدين بشيء لمعاصريه. ففي قصة بورخيس "الاقتراب من المعتصم"، يحسد بورخيس حسدا مهنيا اشتقاقات جيمس جويس، بقوله "إن الاتصالات المتكررة، وغير المهمة، بين عوليس جويس، والأوديسة الهوميرية، ما زالت تُقرأ بإعجاب".

من الملاحَظ أن رأي بورخيس سلبي في "عوليس" جويس، فهو يتهم ديدالوس وبلوم بطلي "عوليس"، بعدم قدرة القارئ على التعرف اليهما رغم الكتابات الكثيرة المكرسة لهما، مُقَارَنَة بشخصيات دانتي وشكسبير. الغريب أن شخصية بلوم المتعالمة الموسوعية، الخفيفة الظل، الساخرة، المهرطقة، كان لها أن تُرضي بورخيس لولا معاصرة جويس لبورخيس. مات جويس في 1941، وكان بورخيس في الثانية والأربعين من عمره.

كتب بورخيس أعماله السردية الأساسية في أربعينات القرن الماضي، "حديقة السُبل المتشعبة"، "تيلون، أوكبار، أوربيس، تيرتيوس"، "التاريخ الكوني للعار"، إلا أن تقدير قيمة بورخيس الأدبية جاءت من الغرب في ستينات القرن العشرين عندما دشّن الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في كتابه "الكلمات والأشياء" عام 1966، افتتاحية تقدير تقول "لهذا الكتاب مكان ولادة في نص لبورخيس، في الضحكة التي تهز عند قراءته كل عادات الفكر".

GettyImages
مكتبة "El Ateneo Grand Splendid" في 23 أغسطس 2019 في بوينس آيريس، الأرجنتين.

نستطيع تَمَثُّل الضحكة التي تهز عادات الفكر في قصة بورخيس "بيار مينار، مؤلف دون كيخوته"، فهناك بيار مينار، وهو مؤلف من القرن العشرين، أخذ على عاتقه تأليف "دون كيخوته"، وهي عمل ميغال دي ثيربانتس في القرن السادس عشر، دون أن يقول إنها إعادة تأليف. لتحقيق ذلك، يتعلم مينار اللغة الإسبانية، ويعيد اكتشاف المذهب الكاثوليكي، ويحارب المسلمين، وينسى تاريخ أوروبا، باختصار تصير شخصية مينار هي نفسها شخصية ميغال دي ثيربانتس، وبعد هذا التطابق الخارق، يقوم مينار بكتابة "دون كيخوته" دون الرجوع إلى الأصل. وهنا يكتب بورخيس جملته المذهلة التي تهز عادات الفكر "نص مينار ونص ثيربانتس متطابقان حرفيا إلا أن نص مينار الأحدث أغنى بصورة مطلقة تقريبا".      

إعجاب جارف

بعجرفة باطنها الإعجاب، أورد شوبنهاور في كتابه "العالَم إرادة وتمثُّل"، صورة شعرية شهيرة لشكسبير من مسرحية "العاصفة"، وأوردها أيضا بورخيس بنصها، وبتنويعات لا نهائية، لكن بإعجاب جارف دون تحفظ الغيرة، فبورخيس لو جاز التعبير يؤمن بوحدة حلولية إبداعية متطرفة، تتجاوز الزمن، ولا تُفرِّق بين القارئ والكاتب حرفيا، حلول مُتبَادَل لا مجال فيه للمنافسة، "إننا مصنوعون من النسيج نفسه الذي تُصنع منه الأحلام، وحياتنا الضئيلة مكتنفة بحلم"، وكانت إضافة شوبنهاور لشكسبير ، "إن الحياة والأحلام هي أوراق من الكتاب نفسه، والقراءة المتسقة لهذا الكتاب تُسمى الحياة الواقعية"، إلا أن النقطة الدقيقة التي تخدم عجرفة شوبنهاور، وربما تُسعد بورخيس، هي أن الفروق تافهة بين قراءة عميقة منتظمة لكتاب الحياة، وبين قراءة عابرة لصفحة واحدة بعين الطائر من الكتاب عينه. 

المكتبة الدائرية ستترك مساحات فراغ عند تماس الدوائر، وهذا يكسر مثالية المكتبة، ومتوازياتها الفائقة

في كتاب بياتريث سارلو، "كاتب على الحافة" (1993)، يتحدث بورخيس عن تصميم لم ينجزه في قصته الشهيرة "مكتبة بابل" كما وصلت إلينا، لأنه لم يستطع تحقيق عبارة الرياضي والفيلسوف الفرنسي بليز باسكال في كتابه "خواطر"، وهي أن "الطبيعة كرة لا نهائية مركزها في كل مكان، ومحيطها ليس في أي مكان"، فالمكتبة الدائرية ستترك مساحات فراغ عند تماس الدوائر، وهذا يكسر مثالية المكتبة، ومتوازياتها الفائقة، وهنا وجد بورخيس حلا آخر، وهو أن تكون "مكتبة بابل"، سداسية الأضلاع، فالشكل السداسي الأضلاع، مثل خلايا النحل السداسية، أكثر الأشكال اقتصادا للمكان، ولا يترك الشكل السداسي فراغات عند التماس، فهو مثل الأرابيسك، مفتوح في نهاياته على تشكيلات سداسية أخرى لا تنتهي.

وصف المخرج كريستوفر نولان فيلمه "تذكار" (2000)، بأنه ابن عم غريب لقصة بورخيس "ذاكرة فونيس". بطل بورخيس يملك ذاكرة خارقة يستطيع بها مقارنة أشكال الغيوم في يوم محدّد منذ سنتين، بصورة خطوط رخامية على غلاف كتاب لم يره إلا مرة واحدة. أمّا ليونارد شيلبي بطل نولان، فهو لا يستطيع تذكّر ما حدث له في الأمس، فيأخذ صورا للشخصيات والأماكن، ويكتب تحتها تذكارات لليوم التالي، أو ينقش على جسده وشوما تذكره بما سيفعل.

AFP
من اليسار إلى اليمين غابرييل غارثيا ماركيز، خوليو كورتازار وخورخي لويس بورخيس وماريا إيلينا والش، خلال الدورة الرابعة والأربعين لمعرض بوينس آيريس الدولي للكتاب، في العاصمة الأرجنتينية في 7 مايو 2018.

يقول نولان إن فيلمه "تذكار"، يُعد انقلابا على قصة "ذاكرة فونيس". لكن نولان يأخذ من بورخيس الدقة والكفاءة، وهما عنصران سينمائيان. فتكاد التفاصيل المكثفة في فيلم "تذكار"، تكون مستحيلة الاستيعاب في مُشاهَدة أولى، أو حتى ثانية. ذاكرة فونيس كما يقول بورخيس على لسان بطله، هي مكب نفايات، لا تُفلت شيئا، وذاكرة ليونارد شيلبي عند نولان، هي هواء متطاير. هوية كثيفة لا تُحْتَمَل، وأخرى تكافح النسيان والتبدد.   

font change

مقالات ذات صلة