أثناء مشاركته في الاجتماع الموسع للأحزاب والقوى السياسية العراقية في العاصمة بغداد، ضمن زيارته الأخيرة، والتي أتت بعد ست سنوات من "القطيعة السياسية مع العاصمة"، رفض زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني والرئيس الأسبق للحزب مسعود بارزاني الدخول في الخلافات التفصيلية بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان، مفضلا عرض "الرؤية الكردية لما يجب أن يكون عليه العراق استراتيجيا"، من إمكانية توسع الحرب الراهنة في غزة مرورا بالعلاقات مع دول الجوار، خصوصا إيران وتركيا، وصولا لما يعتقد أنها الآلية الأكثر منفعة للعراق في التعامل مع القواعد العسكرية الأميركية في العراق، معتبرا الخلافات الإدارية والمالية والقانونية بين بغداد وأربيل نتيجة لفقدان تلك الآلية التوافقية بين القوى والمكونات العراقية.
بعد زيارة بارزاني بأقل من أسبوع، ندّد مجلس الأمن الوطني العراقي بالتوغل التركي في إقليم كردستان، وقرر إرسال مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي إلى كردستان، لإيجاد موقف موحد من الأمر، بعدما كان مستشار رئيس الوزراء إبراهيم الصميدعي قد صرح لوسائل الإعلام بأن التوغل التركي يحدث بالتنسيق مع الحكومة الاتحادية العراقية.
تشكل الحادثتان المتتاليتان مؤشرا على طبيعة العلاقة الراهنة بين بغداد وأربيل: ثمة اعتقاد راسخ في الإقليم يعتقد بحتمية وضرورة إعادة بناء علاقة وثيقة مع القوى والسلطة الاتحادية في العراق، فعكسها يعني مزيدا من "الاهتراء" أمام النفوذين الإيراني والتركي، الجامحين نحو الإقليم بسبب الملفات السياسية والأمنية التي تربط كل منهما مع كردستان، وللحساسية الأولية والدائمة لكليهما من هذه التجربة الكردية، المؤثرة على استقرارهما وهيمنتهما على المجتمعات والتيارات الكردية داخلهما. فالصوت السياسي الأكثر وضوحا في كردستان اليوم يرى في ترك شؤون السلطة المركزية لسنوات، والتصرف على أساس الاهتمام والانشغال بالإقليم فحسب، هو ما عزز قدرة بعض القوى المناوئة للإقليم على التحكم في المؤسسات المركزية.
إلى جانب ذلك، فإن السلطة والقوى العراقية، حتى أكثرها نزوعا للمركزية، صارت تدرك أن ثمة ما لا يُمكن تجاوزه في تجربة كردستان، في بُعدها الجغرافي والكياني المحلي، فكردستان تشكل جزءا من الأمن القومي للعراق، على مختلف المستويات، على رأسها القضيتان الأمنية والاقتصادية/ البيئية.
لكنها ليست الصورة الكاملة، فمع هاتين الآليتين، لا يتوانى الكثير من القوى العراقية عن استخدام كل ما يتوفر له من أدوات وعلى رأسها المحكمة الاتحادية والسيطرة المالية، لنزع مزيدٍ من السلطات الفيدرالية من الإقليم، والتجريب قدر المستطاع، لتكون كردستان "فيدرالية بالحد الأدنى"، بعدما كانت "شبه كونفدرالية فعليا"، حسبما وصف مصدر سياسي كردي في حديثه مع "المجلة". وأضاف: "مقابل ذلك، فإن القوى الكردية تعول في هذه المماحكة المغلفة مع المركز على أداتين فاعلتين: الدستور الذي ثمة بنود ضمنه لا يُمكن تجاوزها، وطبعا يستحيل تغييره دون موافقة سياسية كردية، حسب آلياته. ومعه العلاقات الدولية والإقليمية، فالعراق في المحصلة دولة توازن سياسي، قائم على نظام ديمقراطي ولو ناقص، وتاليا ثمة حاجة دائمة للمركز في الإقليم".
صولجان الأغلبية
في شهر فبراير/شباط عام 2022، أصدرت المحكمة الاتحادية العراقية قرارا مفاجئا يقضي بـ"عدم دستورية قانون النفط والغاز المُقر من برلمان إقليم كردستان منذ عام 2007"، وطالبت المحكمة سلطات الإقليم بعدم تصدير النفط مطلقا، وتسليمه كاملا للشركة العامة لتسويق المنتجات النفطية (سومو). جاء القرار في وقتٍ كان العراق يشهد أزمة سياسية حادة، تتهم فيه الأحزاب الشيعية المقربة من إيران الحزب الديمقراطي الكردستاني، أكبر الأحزاب الكردية، بمحاولة إخراجها من السلطة، عبر التحالف الثلاثي الذي عقده الحزب مع كُلٍ من التيار الصدري (الشيعي) وحزب "تقدم" (السُني).
رفض الإقليم ذلك القرار وقتئذ، لكن المراقبين اعتبروه بمثابة فاتحة لاستخدام المحكمة كفاعل في المشهد السياسي، من قِبل القوى "الشيعية" المقربة من إيران، التي تملك نفوذا واضحا على القضاة والجهاز المؤسسي في المحكمة الاتحادية، بدلالة تماهي قراراتها مع تطلعات القوى السياسية، نوعا وتوقيتا.
تتالت قرارات المحكمة الاتحادية ضد إقليم كردستان بعد ذلك، كان تسعة منها على الأقل تقوض أنواع ومسارات الاستقلال النسبي لمؤسسات الإقليم عن السلطة الاتحادية، وتشكل أداة للتدخل في شؤونه الداخلية، السياسية والاقتصادية. فأصدرت المحكمة في أواسط عام 2023 قرارا بـ"عدم شرعية قوانين برلمان إقليم كردستان الصادرة بعد عام 2022"، لتجاوز البرلمان المدة القانونية لدورته، ورفضت تمديده لنفسه، وحولت الحكومة الإقليمية إلى "حكومة تصريف أعمال".
كما أصدرت حكما آخر يفرض على إقليم كردستان تسليم كل المعابر الحدودية ومواردها المالية للحكومة الاتحادية، ومن ثم أقرت بعدم شرعية وجود "كوتة الأقليات القومية" ضمن القانون الانتخابي المعمول به في الإقليم منذ عام 1992، وقررت إعادة توزيع دوائر الانتخابات المحلية، لتكون أربعا بدلا من واحدة، بل رفعت يد المفوضية العليا للانتخابات والاستفتاء في الإقليم عن الإشراف على الانتخابات البرلمانية المحلية. إلى جانب ذلك، ألغت المحكمة "كل قرارات مجلس الوزراء الاتحادي الخاصة بتحويل الأموال لإقليم كردستان"، مصنفة إياها كقرارات مخالفة للقانون ولمواد الدستور.