في مديح الهاتف الذكي

shutterstockREUTERS
shutterstockREUTERS

في مديح الهاتف الذكي

على عكس الرنين المفزع للهاتف الثابت، فإن رنين الهاتف الذكي لا يخيفني، وقلما أفترض عند سماعه خبر شؤم. على أي حال، فنحن الذين نختار طبيعة الرنين وشدته من بين اختيارات متعددة يتيحها لنا هو نفسه. أفترض دائما أن الهاتف الذكي لا يمكن أن يكون نذير شؤم. فمشاعري نحوه ليست مطلقا كتلك التي كانت لدي إزاء تلك الآلة الوقورة السوداء التي كانت تنزوي في ركن بيتنا، والتي كانت تفرض علينا وقارها، وتبعثنا على احترامها، فلم نكن نقربها إلا بمشيئتها وعندما تنادينا هي، فنهرول نحوها متوقعين الأسوأ. وقد كانت نداءاتها نادرة قياسا إلى نداءات الهاتف الذكي. كما أن مدة تواصلها كانت وجيزة، فلم تكن تسمح لنا إلا بما "قل ودل" من الكلام. وقد كانت "ثابتة" طبيعة وأخلاقا، فكانت تفرض علينا ثباتها فتشدنا إليها من طريق سلك لم يكن يسمح لنا بالقيام بأي فعل آخر عدا مخاطبة من يهاتفنا.

عالم مصغر

علاقتي بهاتفي الذكي تكاد تكون نقيض هذا كله. فأنا لا أفارقه، أنقله أينما انتقلت، هو لعبتي المفضلة، بل هو عالمي المصغر. تربطني به حواسي جميعها، إلا أن أشدها رباطا به هي حاسة اللمس، فأنا لا أكف عن ملامسته. حاسة اللمس لا تحترم المسافات، إنها حاسة القرب، حاسة التعرية ونزع الغطاءات، لذا يقول عنها رولان بارت إنها "من بين الحواس جميعها، هي الأكثر كشفا للحقائق، على عكس البصر، الذي هو الأكثر سحرا". فما هو جميل لا يمكن لمسه. إنه يفرض مسافة. "أمام السمو، نتراجع باحترام. وعندما نصلي، نضم أيدينا". اللمس مدمر، إن لم نقل إنه مدنس. لا يمكنه أن يتعجب أو يندهش. اللمس يعري، ويكشف الحقيقة، ويزيل عنها هالتها، ويفقد الأشياء هيبتها. وهو يحرق المسافات، ويجعلك "ملتحما" مع/ وبما تلمسه.

عندما ألمس شاشة الهاتف أتحكم في جهازي، ومن خلاله أتحكم في العالم. بمفرده، يمنحني الهاتف الذكي شعورا بالحرية، فلا شيء فيه يجبر على السلبية والعجز. وهو يبعث فيَّ إحساسا بأن لديَّ سيطرة كاملة على العالم وعلى الآخرين. المعلومات التي لا تهمني تحذف بسرعة. في المقابل، أصابعي تكبّر المحتويات التي تعجبني. عبر هذا الجهاز العجيب، لا شيء يخرج عن تحكمي، كل "أشياء" العالم. يبين صاحب كتاب "نهاية الأشياء" أن كلمة "شيء" تأتي من الفعل اللاتيني "obicere"، الذي يعني "مواجهة" أو "معارضة" objecter أو "تقديم اعتراض". إنها تحمل سلبية المقاومة. في الأصل، الشيء هو شيء يتجه ضدي، يعارضني، ويقاومني، إنه يخضعني. لذا كتب دريدا: "الشيء هو الآخر، الآخر المختلف تماما الذي يملي القانون ويسنه [...] إنه يفرض عليّ نفسه بشكل لانهائي لا يتوقف، وينبغي أن أخضع له".

علاقتي بهاتفي الذكي تكاد تكون نقيض هذا كله. فأنا لا أفارقه، أنقله أينما انتقلت، هو لعبتي المفضلة، بل هو عالمي المصغر

الرقمي ومقاومة العالم

الرقمي يفقد أشياء العالم قدرتها على التمنع والمقاومة. "الأشياء" الرقمية لا تملك سلبية الـ"obicere". إنها لا تظل موضوعات Objets تنتصب أمام ذوات Sujets. عبر هاتفي الذكي لا أشعر بمقاومة الأشياء. إذا كان الهاتف الذكي ذكيا، فذلك لأنه يزيل عن الواقع طابع المقاومة "بحد ذاته، فسطحه الأملس ينقل شعورا بنقص المقاومة". إنه يوفر لي سلاسة الوجود ويضمن لي سلاسة التصرف. على شاشته الملساء كل شيء يبدو سهلا قابلا للتعامل، كل شيء يمكن الوصول إليه.

صحيح أن غياب المقاومة في العالم الرقمي والبيئة الذكية يؤديان إلى فقر العالم والتجربة، إلا أنني لا أكترث لما قد يتولد من ذلك الغياب من إفقار للعالم، ما يهمني هو أن يتجه العالم نحوي. بهذه الطريقة، فإن الهاتف الذكي لا يبالي بـ"الموضوع"، إلا أنه يعزز الإحالة على "الذات" ويغذيها. من طريق نقرات على شاشته الملساء، أخضع العالم لاحتياجاتي. بل إنني أعيد صياغته وفق اختياري، وأحدد للآخر شكل العلاقة بيننا. لا أحد يزاحمني في ذلك، ففي التواصل الرقمي، يكون الآخر دائما أقل حضورا. وعلى أي حال، ففي استطاعتي دوما أن أقلص حضوره، وحتى "حميمية" تواصله. في إمكاني أن أستعيض عن سماع صوته باللجوء إلى الرسائل النصية التي لا تنقل إلا اللفظ من غير نبرة صوت ولا تأوهات ولا حشرجات، تنقله عاريا من كل انفعال. ومخافة أن نخوض في حوار لا ينتهي، قد أكتفي بأن أرسل إليه رسالة صوتية لا تتضمن إلا الإخبار بما أرى ضرورة تبليغه. كما في استطاعتي ألا أستعمل في "التواصل" معه إلا لغة الرموز، فألغي لبس اللغة الطبيعية وبلاغتها وحمولاتها التي قد تفيض دلالات، وأحدد المعنى الوحيد الذي يمكن أن تحمله رسائلي. أنفض عن لغة تواصلنا أي معان ثانوية Connotations، ولا أحتفظ منها إلا بما هو أحادي الدلالة Dénotations. وهكذا تحد حرية الآخر، ويتقلص حضوره، فيختفي كصوت وانفعال وقدرة على التأويل، بل يختفي حتى كلحظات سكوت وصمت.

REUTERS

هذا فضلا عن كونه يختفي كنظرة. بهذا يغدو مخاطبي غائبا غيابا يكاد يكون تاما. كأنني إزاء تواصل غير مجسد، تواصل "على الهواء". وهذا ليس لكون مخاطبي غير حاضر، وإنما لأنني لا أعير اهتماما للموقع الذي يخاطبني انطلاقا منه. مما يزعجني كثيرا عند التواصل عن طريق الهاتف النقال أن يسألني مخاطبي: من أي موقع تتكلم؟ وغالبا ما أجيبه في استغراب ساخر: "أنا في الشبكة"، اقتناعا مني أن تحديد موقعي غير ذي أهمية، ولا يمكنه أن ينفع تواصلنا في شيء، فضلا عن أنني أشعر أن "المكان" الذي أحس أننا نتواصل فيه، هو مكان افتراضي وليس جغرافيا.

أبعاد التواصل

ربما يريد مخاطبي بسؤاله هذا أن يعوض غياب كل واحد منا عن الآخر بنوع من "التموقع" الجغرافي على الأقل. فبما أنه يعجز عن استحضاري كنظرة وانفعال وصوت وصمت، يحاول أن يجد لي مكانا في العالم حتى يضبط أبعاد تواصلنا، فيمنحه شيئا من "الجسدية". إلا أنه ينسى أشكال الغياب الأخرى التي يعمل على فرضها الهاتف الذكي. ذلك أن هذا الجهاز صار اليوم هو العدو الأكبر، ليس للعلاقات المكانية وحدها، وإنما حتى للعلاقات الاجتماعية. لقد تمكن من أن يفك الأواصر الاجتماعية جميعها، ابتداء من الروابط الأسرية إلى أكثر أشكال العلاقات الاجتماعية تعقيدا، فحوّل المجتمع إلى عالم من الكائنات من غير وجوه، وصار كل واحد منا غارقا في هاتفه، متقوقعا في عالمه، منكبا على جهازه لا يعبأ بوجود من "معه". عيناه مشدودتان إلى شاشته وهو يجلس بين أعضاء أسرته أو بين زملائه، أو من يأخذون معه الحافلة نفسها، يجلس بينهم من غير أن يجالسهم، يجلس بينهم "من غير أن يَرى أو يُرى".

 كأننا لسنا نحن من نستخدم هواتفنا الذكية بقدر ما تستخدمنا هي، فتكشف عن أسرارنا و"تلهو" بملكاتنا، وتعبث بعلاقاتنا، وتحدد اهتماماتنا

من شدة ما يدفعنى الهاتف الذكي إلى "استبعاد" الآخر، والانكباب على ذاتي، أتوهم أن لي سلطة على العالم بما فيه "أناي". إلا أنني أحس، بين حين وآخر، أنني، أنا أيضا، ضحية ذلك الجهاز الذي يخون صاحبه، فيتحول إلى مخبر فعال يراقب مستخدمه باستمرار، إذ بمجرد أن ندخل في عالمه الخوارزمي، نشعر أننا، نحن أصحابه، مضطهدون من قبله. فهو يطاردنا ويوجهنا و"يبرمجنا"، فيفسح لنا الاطلاع على ما يراه هو أقرب إلى انشغالاتنا واهتمامنا. إذا حاولت البحث عن موضوع بعينه، يسبقني هو إلى اقتراح ما قد يكون له علاقة بذلك الموضوع. ناهيك عن كونه يطلع من يتواصل معي على دقائق حياتي، ويخبرهم ما إذا كنت أطلع بالفعل على رسائلهم النصية، وما إذا كنت أمتنع عمدا عن الرد عليهم، وما إذا كنت قد استيقظت ففتحت هاتفي، وإلى أي ساعة بقيت ساهرا أثناء الليل... وهكذا، فنحن مسلّمون لهذا المخبر الرقمي، الذي يقف خلف سطحه مختلف الفاعلين الذين يوجهوننا ويشتتون أذهاننا وأوقاتنا. فكأننا لسنا نحن من نستخدم هواتفنا الذكية بقدر ما تستخدمنا هي، فتكشف عن أسرارنا و"تلهو" بملكاتنا، وتعبث بعلاقاتنا، وتحدد اهتماماتنا. 

font change

مقالات ذات صلة