على عكس الرنين المفزع للهاتف الثابت، فإن رنين الهاتف الذكي لا يخيفني، وقلما أفترض عند سماعه خبر شؤم. على أي حال، فنحن الذين نختار طبيعة الرنين وشدته من بين اختيارات متعددة يتيحها لنا هو نفسه. أفترض دائما أن الهاتف الذكي لا يمكن أن يكون نذير شؤم. فمشاعري نحوه ليست مطلقا كتلك التي كانت لدي إزاء تلك الآلة الوقورة السوداء التي كانت تنزوي في ركن بيتنا، والتي كانت تفرض علينا وقارها، وتبعثنا على احترامها، فلم نكن نقربها إلا بمشيئتها وعندما تنادينا هي، فنهرول نحوها متوقعين الأسوأ. وقد كانت نداءاتها نادرة قياسا إلى نداءات الهاتف الذكي. كما أن مدة تواصلها كانت وجيزة، فلم تكن تسمح لنا إلا بما "قل ودل" من الكلام. وقد كانت "ثابتة" طبيعة وأخلاقا، فكانت تفرض علينا ثباتها فتشدنا إليها من طريق سلك لم يكن يسمح لنا بالقيام بأي فعل آخر عدا مخاطبة من يهاتفنا.
عالم مصغر
علاقتي بهاتفي الذكي تكاد تكون نقيض هذا كله. فأنا لا أفارقه، أنقله أينما انتقلت، هو لعبتي المفضلة، بل هو عالمي المصغر. تربطني به حواسي جميعها، إلا أن أشدها رباطا به هي حاسة اللمس، فأنا لا أكف عن ملامسته. حاسة اللمس لا تحترم المسافات، إنها حاسة القرب، حاسة التعرية ونزع الغطاءات، لذا يقول عنها رولان بارت إنها "من بين الحواس جميعها، هي الأكثر كشفا للحقائق، على عكس البصر، الذي هو الأكثر سحرا". فما هو جميل لا يمكن لمسه. إنه يفرض مسافة. "أمام السمو، نتراجع باحترام. وعندما نصلي، نضم أيدينا". اللمس مدمر، إن لم نقل إنه مدنس. لا يمكنه أن يتعجب أو يندهش. اللمس يعري، ويكشف الحقيقة، ويزيل عنها هالتها، ويفقد الأشياء هيبتها. وهو يحرق المسافات، ويجعلك "ملتحما" مع/ وبما تلمسه.
عندما ألمس شاشة الهاتف أتحكم في جهازي، ومن خلاله أتحكم في العالم. بمفرده، يمنحني الهاتف الذكي شعورا بالحرية، فلا شيء فيه يجبر على السلبية والعجز. وهو يبعث فيَّ إحساسا بأن لديَّ سيطرة كاملة على العالم وعلى الآخرين. المعلومات التي لا تهمني تحذف بسرعة. في المقابل، أصابعي تكبّر المحتويات التي تعجبني. عبر هذا الجهاز العجيب، لا شيء يخرج عن تحكمي، كل "أشياء" العالم. يبين صاحب كتاب "نهاية الأشياء" أن كلمة "شيء" تأتي من الفعل اللاتيني "obicere"، الذي يعني "مواجهة" أو "معارضة" objecter أو "تقديم اعتراض". إنها تحمل سلبية المقاومة. في الأصل، الشيء هو شيء يتجه ضدي، يعارضني، ويقاومني، إنه يخضعني. لذا كتب دريدا: "الشيء هو الآخر، الآخر المختلف تماما الذي يملي القانون ويسنه [...] إنه يفرض عليّ نفسه بشكل لانهائي لا يتوقف، وينبغي أن أخضع له".