مع بداية القرن الحادي والعشرين بدا أن السينما العربية عموما دخلت في حالة جمود واستنزاف لناحية الأفكار والطروحات البصرية والإخراجية والنصوص الذكية والممتعة.
الأفلام التي تنتمي إلى زمنها باتت عملة نادرة وبقيت المحاولات القليلة في هذا الصدد تفتقر إلى عناصر الإبهار البصري والإنتاج السخي والتركيب التقني الذي يجعلها تنتمي إلى اللغة السينمائية الجديدة والطاغية التي لا تعترف بمن لا يستطيع الانسجام مع منطقها ومفاهيمها.
التمويل والتحديث
باتت السينما العربية تحت وطأة هذا الواقع مهددة بالتحوّل إلى سينما للأرشيف والذاكرة، فعلى الرغم من أنها لا تزال تنتج أفلاما كثيرة، لكن معيار تطابقها مع التحولات الغزيرة في عالم السينما بقي مفقودا، ويشير إلى أزمة خطيرة تطاول هذه السينما وتنذر بتفككها أو اقتصار جمهورها على قطاعات محلية داخلية في كل بلد، مما سيؤدّي حتما إلى تحويل العمل السينمائي إلى مغامرة خاسرة تجاريا وتقليص دائرة الاهتمام بالإنتاج وتضييقها.
الحالة التي فجّرها الفيلم أعادت الروح إلى مشهد الصالات العربية بما فيها من زخم ثقافي وسياحي واجتماعي
عملت هيئة الترفيه السعودية على حل هذه المشكلة والبرهنة على أن الاستثمار السخي في السينما والإنتاج بعقل مؤسساتي منضبط ومنظم يمكنه أن يخرج سينما جديدة وطازجة متصلة بزمنها وتشكل المساهمة العربية في صناعة المشهد البصري العالمي.
لم يكن إنتاج "ولاد رزق 3 القاضية" مجرد توظيف مالي يهدف إلى دعم النتاج السينمائي المصري والترويج لموسم الرياض وحسب، بل ينطوي على طموح يتجاوز ذلك بكثير ويهدف إلى إعادة إدماج كل السينما العربية في توقيت العالم مع الحفاظ على خصوصيتها وشرقيتها.
منطق الدعم يتكامل مع مشروع استنهاض شامل وعام يتجاوز في توجهه حدود تفعيل صناعة السينما في السعودية ومصر ويسعى إلى تنمية الوعي السينمائي والطموحات السينمائية عند العاملين في هذا الشأن في العالم العربي ككل.
ومع محو العائق المالي بدت الأفكار المستحيلة قابلة للتنفيذ، لكن ذلك التمويل لم يأت وحيدا بل استجلب معه بنية إدارية محكمة تستجيب لمتطلبات العمل السينمائي الميداني. ما أنجز بدقة لافتة من إقفال للشوارع في مدينة الرياض وتحويل وجهات السير والتصوير في الوقت الفعلي لإقامة المباريات الرياضية، يتطلب تضافر شبكات مؤسساتية عديدة، أمنية وإدارية وهندسية وتقنية ولوجستية والتنسيق المتواصل والفعال بينها.
نجاح هذا المسار، قدم عرضا مباشرا لمشهد كان الجميع يعتقده مستحيلا أو بعيد الأمد في أحسن الأحوال. كل عناصر صناعة السينما الحديثة اكتملت في مشهدية الرياض التي كانت مدينتها وساحتها. بدت مدينة لا تخطب ودّ عين العالم وتدعوه الى الانتباه، بل تسحره وتبهره وتفتح المجال لإحياء كل المدن العربية وتحويلها إلى ميدان يغري العالمي بصورته الخاصة، والتي إذ تستدعي نجوم العالم إليها فإنها تدخلهم في نسيجها وتذيبهم فيه.
الحدث الذي صنعه موسم الرياض أتاح ظهور إبهار مختلف ومتمايز في روحه عن خلطات الإبهار العالمي، فقد استعار منها التقنيات ووظفها في سياق سعودي مصري وعربي فامتلكها وأعاد إنتاجها.
الفيلم المرحلة
لم يبالغ رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه في السعودية المستشار تركي آل الشيخ في وصفه لفيلم "ولاد رزق 3 القاضية" بالعمل غير المسبوق. كل تفاصيل العمل تثبت أسبقيته واستثنائيته، من الموازنة الضخمة التي نازهزت 12 مليون دولار إلى حشد عدد كبير من نجوم الشاشة المصرية للمشاركة فيه، إلى استجلاب شخصيات عالمية مثل الملاكم تايسون فيوري وتصوير مشهد أسطوري لمعركة يقوم بها في خلفية شاحنة إثر مطاردة في شوارع الرياض، إضافة إلى الأرباح الكبيرة والإقبال الجماهيري الكثيف في كل مكان عرض فيه وتحقيقه أعلى رقم إيرادات في يوم واحد وصل إلى 18 مليون جنيه، وأعلى إيرادات في تاريخ السينما المصرية بمبلغ يفوق 235 مليون جنيه.
في اسبوعين عرض فيلم اولاد رزق ٣ يحقق اكثر من ١٥ مليون دولار مايعادل اكثر من ٧٢٠ مليون جنيه مصري ... صوره مع التحيه لمن قال لا يمكن تحقيق ماتم صرفه على الفيلم ... الحقيقه انه بتوفيق من الله ومن ثم بالتخطيط الجيد وتوفر عناصر النجاح وبدعم GEA وتقديم محتوى منافس بجوده أعلى من السوق… pic.twitter.com/fA53DtpaFw
ولكن في ما يتجاوز الأرقام والحسابات، فإن الحالة التي فجّرها الفيلم أعادت الروح إلى مشهد الصالات العربية بما فيها من زخم ثقافي وسياحي واجتماعي، وجعلته عنوانا لمرحلة فاصلة وحاسمة ومولّدة لمعايير جديدة، يختلف ما قبلها عما بعدها اختلافا حاسما.
يقل إلى درجة الندرة عربيا وعالميا، ظهور الأفلام التي تنجح في وسم مرحلة أو صناعة حدّ في السينما العربية، ولكن الفكر الذي يقف وراء ظهور مثل تلك الأفلام ارتبط على الدوام بفهم واستيعاب آليات صناعة السينما العالمية وصبّ تلك المعرفة في قوالب عربية. هكذا نفهم مكانة ونفوذ المخرج يوسف شاهين الذي قدّم مشروعا سينمائيا حديثا منذ خمسينات القرن الماضي واستمر في تطوير هذا التوجّه ومراكمته، ونفهم من ناحية أخرى عناوين نجاح أفلام المخرج مروان حامد الذي درس السينما في مصر ولكن أفلامه كانت منفتحة على سينما العالم وتقنياتها وخصوصا في مجال الأكشن الذي يعدّ النوع الأكثر شعبية على مستوى العالم.
تتضافر مجموعة عوامل تجعل فيلم "ولاد رزق 3 القاضية" فيلما مؤسّسا في السينما المصرية والعربية، لأنه بنى على كل عناصر النجاح التي سبق تحقيقها وعمل على تجاوزها. رؤية المخرج طارق العريان الذي كان قد درس السينما في لوس أنجليس، ذهبت في اتجاه المناطق الأكثر تحدّيا وتشويقا والأكثر تطلبا للدقة التقنية والتنفيذية.
بدت لافتة تلك القدرة على الحفاظ على خصوصية الحركة المحلية العربية وطبيعتها ونقل توتراتها وتعبيراتها
كلّ معالم الأكشن الممتاز نجدها في الفيلم بجرعات مكثفة ومستدامة ومتواصلة، بدءا من الأزمة التي تفتتح الفيلم وتشكل عنوانا عريضا للقصة في الظهور الشبحي لطيف من الماضي يفرض على شخصيات الفيلم، الذين كانوا قد تركوا حياة المغامرة والسطو العودة إليها ومواجهة تحدّيات تفوق صعوبتها كل ما عرفوه سابقا، وصولا إلى المطاردات والتوظيف الفعّال لجماليات مدينة الرياض.
التويستات في الفيلم أو الالتواءات المشوقة غزيرة وتمنحه طابع التواصل التشويقي. أداء الممثلين الجسدي والحركي يختلف عن الجزءين السابقين ويظهر أكثر سلاسة ومرونة وتطورا. التناغم بينهم بدا أنه وصل إلى درجة عالية من الكمال.
المقارنة بين الأداءات التي غالبا ما تسيطر على عملية التلقي الجماهيري لمثل هذا النوع من الأفلام اختفت، وتوجّه الاهتمام الجماهيري إلى استقبال العمل بكل عناصره، مما يفتح الباب أمام البطولة الجماعية التي يندر أن نراها في السينما العربية التي تسود فيها صراعات المكانة والنجومية والأسبقية وتعطل وتعيق ظهور الكثير من الأعمال.
تعريب الأكشن
استعان صنّاع الفيلم بمصمّمي معارك عالميين ساهموا في أفلام كبرى مثل سلسلة المهمة المستحيلة واستعملوا الكاميرات التي تصوّر بها أفلام الأكشن الحديثة والأكثر نجاحا، لكن المخرج عرف كيف يوظف كل ما لديه من إمكان في خلق مجال أكشن عربي قد يكون فاتحة كبرى لنمو هذا النوع الشعبي من الأفلام وتطوره.
اللعب على إتقان الحركة، لم يأخذ الفيلم إلى مناطق غريبة تجعله ظلا باهتا لما تنتجه السينما العالمية، بل بدت لافتة تلك القدرة على الحفاظ على خصوصية الحركة المحلية العربية وطبيعتها ونقل توتراتها وتعبيراتها في عملية انتقالية سلسة من عالم الخناقات غير المقنعة وغير المتقنة وذات الطابع المتكرّر إلى عالم تصبح فيه الحركة بكل أبعادها بمثابة عرض يندمج مع عناصر الإبهار التي يستعرضها الفيلم بشكل متواصل ويتكامل معها.
على سبيل المثل، فإن حركة الضرب بالرأس المنتمية الى مجال العراك المصري والعربي والتي تختلف عن روح القتال الغربي، بقيت حاضرة في الفيلم وضبطت لتتواءم مع إطاره العام.
ولم تسقط الرغبة في الإبهار وتقديم أكشن متماسك الإخراج في فخ المبالغات، فالمواجهات التي يربحها أبطال الفيلم لا تبدو خرافية، فلم نعثر على مشاهد يتغلب فيها أبطاله الأربعة على حشود ويضربون الجميع، بل كنا أمام معارك لا تظهرهم أبطالا لا يقهرون بل أبناء شارع شرسين ومستميتين ومعرضين في كل لحظة لخسارة كل شيء، وتنبع قوتهم بالتحديد من الخوف من الخسارة والرغبة في الخروج من مآزق خطيرة.
في مشهد القتال مع الملاكم العالمي المخطوف والمخدر بمادة قوية، كان من الممكن أن يسقط الفيلم لو ذهب المخرج إلى خيار انتصار أولاد رزق عليه وضربه، فقد كاد يقتلهم مع أنه كان معرضا للتخدير، وكان المشهد بلعبه على التناقض بين الشاحنة المغلقة التي تجري فيها معركة بدائية وتكاد تكون أشبه بكهف متحرك، يتناقض مع عالم مدينة الرياض المعاصر الذي يحتضن الحدث.
على الرغم من انتماء الفيلم إلى عالم الترفيه والحركة، فإنه لا يخلو من رسائل ثقافية وسياسية
الانتقالات بين الداخل والخارج نقلت جو التعارض، وبدا المشهد حافلا بإثارة غير مسبوقة ترسم ملامح مشروع النهوض بالأكشن العربي والاستفادة القصوى من طاقات المكان وإمكاناته لخلق بنية بصرية خاصة يمكنها مخاطبة العالم ومشاعره وإبهارها. "ولاد رزق 3 القاضية" يلعب في هذا المقام دور التمهيد للأعظم والأهم، فحين سئل المستشار تركي آل الشيخ عما إذا كان إنجاز الفيلم يستجيب لطموحاته قال بوضوح لا، معلنا أن سقف طموحه يرقى إلى إنجاز أفلام تضاهي السلاسل الأهم في هذا النوع، مثل "مهمة مستحيلة" و"جون ويك".
وقد يكون نجاح هذا الفيلم في رسم معالم طريق عالمية الأكشن العربي برهانا على أن تلك المهمة التي كانت مستحيلة باتت ممكنة ويجري تنفيذها على أرض الواقع.
حملات واتهامات
اتهم الفيلم بأنه يعزز مفاهيم الذكورية ويعادي المرأة ويقدمها في صورة تبخيسية، وبأنه يخلو من القيم والأفكار ويعرض صورة إيجابية لسلوك التشبيح والعصابات والسرقة.
في الحقيقة فإن هذا النوع من الأفلام ينبني على عالم القسوة والصراعات لكنه لا يتخذ أي موقف بل يعود إلى مبدأ سينمائي أساس يتعلق برواية القصص والسرد. ولكن ما بدا لافتا أن فيلم "ولاد رزق 3 القاضية" لا يقوم على عرض القوة والعضلات، بل إن الثيمة الأساس المحرّكة للأحداث هي الدهاء وهي قيمة أو صفة لطالما كانت منتسبة الى العالم الأنثوي وتشكل السلاح الأمضى للمرأة في مواجهة الرجال والعالم. المأثور السردي الشرقي يدرج الدهاء في عداد التكوين الخاص للمرأة كما في قصص "ألف ليلة وليلة" وغيرها، وكذلك في المأثور الشعبي والسياقات الاجتماعية. لجوء ولاد رزق إلى الدهاء يعني أنهم لا يعكسون الطاقة الذكورية بتهورها وإصرارها على الحسم المباشر والاستعراضي، بل يعكسون طاقة تحايل وتخابث يمكن أن تحيل على موقع لا يشي بالسيطرة بقدر ما يدل على فهم الحدود ومحاولة اختراقها بالحيلة.
صورة المرأة في الفيلم تعرض من خلال سياقاته الداخلية وليس من خلال موقف واضح ومنظم يشكل خلاصة العمل الذي لا يتبنى في العموم أي موقف بل يعرض حالة في سياقاتها. الجدير بالذكر أن سلوكات الخيانة والعلاقات النسائية المتعدّدة لأبطال الفيلم، لم ترفع إلى مرتبة شكل حياة يستحق الدفاع عنه وتعزيزه بل بقيت محصورة في سياق تنفيس أبناء البيئة الفقيرة عن أنفسهم بعد حصولهم على المال والثروة، أي أنها تعكس أزمة وإحساسا عميقا بالدونية بينما بقي الثابت والمرجعي موصولا بالعلاقات الزوجية والعاطفية الشرعية حيث تحتل الزوجات والعائلة موقعا أساسيا وتمثل المتن بينما تبقى العلاقات العابرة في محل الهامش.
وقد أخذ البعض على الفيلم تصويره لسلوكات عنيفة ضد النساء في بعض مشاهده وإظهار قبول المرأة بها كنوع من تظهير دوني لها، ولكن الفيلم لم يدافع عن هذا السلوك بل عرضه في سياق خوف الرجل من فقدان العلاقة، وبذلك لم يكن الذكر المهيمن بل الخائف الذي يعبّر عن خوفه بعنف سطحي انفعالي لا يبرّره الفيلم بل يعرضه وحسب.
كما أن أبطال الفيلم أنفسهم يرون أن الشخصيات التي يصورونها أقرب إلى أن تكون افتراضية، فقد عبر النجم أحمد عز عن ذلك في لقاء معه، مما يعني أن شخصيات "ولاد رزق" تنتمي إلى عالم الواقع المصعّد الذي يقارب الفانتازيا إلى حد ما. تلك الصفات وتلك الشخصيات ممكنة الوجود ولكن ليس بكل تلك الكتلة من المواصفات التي قدّمها الفيلم، وتاليا لا يمكن الحكم على الفيلم أنه يتبنى واقعا محددا ويدافع عنه. لا يبدو مهتما بذلك بقدر اهتمامه بالاحتمالات السينمائية التي يمكن تركيبها انطلاقا منه.
في الحديث عن الأفكار، فإن الفيلم، على الرغم من انتمائه إلى عالم الترفيه والحركة، لا يخلو من رسائل ثقافية وسياسية. النسق الدلالي المهيمن، إذا صح التعبير، يعلي قيمة الأخوة والتعاون. فالثابت الوحيد في كل الأجزاء الذي يبنى عليه، هو قوة الأخوة التي لا يجب أن يخترقها شيء، والقيمة العالية للتعاون التي تصنع المعجزات، وهو الخطاب نفسه الذي يشكل روح عمل هيئة الترفيه السعودية في علاقتها مع الطاقات الإبداعية العربية.