جي دي فانس... ما علاقته بوادي السيليكون؟

يدخل إلى الساحة السياسية بخلفية فكرية قوية

 رويترز
رويترز
ترمب وفانس أثناء التجمع الإنتخابي في سانت كلاود في ولاية مينيسوتا في 27 يوليو

جي دي فانس... ما علاقته بوادي السيليكون؟

لندن- في أول تجمع حاشد منذ محاولة انتخابه، في غراند رابيدز بولاية ميتشيغان، خرج دونالد ترمب عن خطابه، على عادته، وجاء على ذكر وثيقة من 900 صفحة أنشأها مركز أبحاث يميني. وأكد الرئيس السابق أنه لا يعرف الكثير عن الوثيقة، ووصفها ببساطة بأنها "متطرفة"، على الرغم من أن هذا المصطلح لا يبدو، بالنسبة لترمب، أنه ذو دلالة سلبية.

يُعرف مركز الأبحاث المعني باسم "مؤسسة التراث" (هيريتاج)، ولكن ترمب لم يكن واضحا في تحديد من هم هؤلاء بالضبط، حيث سماهم وكأنه لا يعرفهم: "البعض على اليمين، اليمين المتطرف، [الذين] توصلوا إلى هذا المشروع ("مشروع 2025")، أنا لا أعرف حتى، أعرف بعضهم، لكنهم محافظون للغاية. إنهم يقفون نوعا ما على الطرف النقيض من اليسار الراديكالي".

وواصل ترمب العزف على وتر جهله بهذه الجماعة: "لا أعرف ما هو (المشروع) بحق الجحيم (...) لقد قرأوا بعض الأشياء، وكانوا متطرفين، إنهم متطرفون للغاية. لكنني لا أعرف أي شيء عنه، ولا أريد أن أعرف أي شيء عنه". ("الإندبندنت"- 22 يوليو/تموز 2024).

وجاء اعتراف ترمب بالجهل أشبه بالتواضع المتبجح، فكأنه يقول لأتباعه: "انظروا، الأمر معقد، لكن من يهتم؟ من الصعب فهمُ هؤلاء الخبراء. لكن لا داعي للقلق بشأن ذلك! اتركوا التفكير لهم، تماما كما أفعل أنا".

وفي العدد نفسه (22 يوليو 2024)، ذكرت صحيفة "الإندبندنت" أن بعض الخطط المتطرفة للمشروع تتضمن إلغاء حقوق الإجهاض، وفرض عمليات ترحيل جماعي، وطرد كثير من موظفي الخدمة المدنية على الفور لاستبدالهم بالموالين. ولا يجب أن يكون أي من هذا معقدا للغاية بالنسبة لشخص مثل ترمب، المشهور بعبارته ذائعة الصيت "أنت مطرود"، لذلك يحق لنا أن نتساءل لماذا يجد هذا المفهوم صعبا للغاية.

غير معروف على نطاق واسع

في المقابل، كان جي دي فانس، الذي اختاره ترمب لمنصب نائب الرئيس، حريصا على المسارعة إلى تأييد السياسة المحددة بنفاد صبر، وليس ذلك غريبا، نظرا لخلفية فانس كخريج في جامعة ييل، فهو أكثر قدرة على استيعاب قضايا السياسة المعقدة.

وبعد أن أعلن ترمب اختيار جي دي فانس نائبا له، كان رد فعل أحد أفراد الحشد في "غراند رابيدز" حذرا: "بصراحة، كان علي أن أتصفحه على (ويكيبيديا)، لكنه يبدو على ما يرام". ("الغارديان"- 21 يوليو 2024)، ما يشي بأن فانس غير معروف على نطاق واسع بين أنصار ترمب.

وقد يمكن أن نغفر لمؤيد ترمب ذاك جهله بمعرفة فانس، فحتى بين خبراء السياسة، كان اختيار جي دي فانس محيرا، ليس لأنه يبدو غير صحيح، ولكن لأن فانس في حد ذاته شخص شديد التعقيد.

كان اختيار ترمب لولايته الأولى أبسط بكثير، حيث إن مايك بنس كان يشكل ثقلا يوازن تهور ترمب وخطبه غير المتوقعة، وكان له أن يلعب دور الرجل المستقيم في تصرفات ترمب الكوميدية. لقد وقف خلف الرئيس، متصلبا، وهادئا، ومؤيدا بهدوء، ولم يخطر على باله أبدا أن يأتي يوم يقتحم فيه المتمردون مبنى الكابيتول، ويهددون بتعليقه على عمود إنارة.

أما إذا فاز ترمب بولاية ثانية، فسيكون لنائب الرئيس الجديد شأن آخر تماما، فعمره أولا لا يزيد على نصف عمر الرئيس السابق، وله لحية من النوع الذي يحبذه ترمب كثيرا، ومن غير المرجح في النهاية أن يحاكي الشاب الجديد أسلوب بنس الصارم.

في محاولة تقييم أهمية فانس، كان المعلقون يميلون إلى الأمور المعروفة. لقد أكدوا على جذوره العمالية في ولاية أوهايو وشعبويته، وكلاهما من المستجدات في البيئة الجمهورية الحالية. لقد ذكروا أنه كتب كتابا- جرى تحويله لاحقًا إلى فيلم بعنوان "Hillbilly Elegy"، وأنه خدم لفترة في مشاة البحرية.

أما الجانب من شخصية فانس الذي تم تجاهله فهو الأكثر إثارة للاهتمام: كان فانس ذات يوم أحد سكان "وادي السيليكون"، وقد أسس شركة ناشئة بتمويل من يتر ثيل، عالم الرياضيات الموهوب الذي لم يكن بحاجة إلى عقل رياضي لكي يتابع تنامي حسابه المصرفي، وقد حقق ثيل ثروته الأولية من خلال تأسيس "PayPal" مع إيلون ماسك.

إذا فاز ترمب بولاية ثانية، فسيكون لنائب الرئيس الجديد شأن آخر تماما، فعمره أولا لا يزيد على نصف عمر الرئيس السابق، ومن غير المرجح أن يحاكي الشاب الجديد أسلوب بنس الصارم

بفضل الدعم المقدم من شخصيات تكنولوجية مؤثرة مثل بيتر ثيل، يدخل جي دي فانس إلى الساحة السياسية بخلفية فكرية قوية. قد يكون هذا المزيج مفاجئا ومربكا للغاية، حتى بالنسبة للمراقبين الأكثر دراية، فالعادة أن لا ترتبط حركة "اجعل أميركا عظيمة من جديد" (MAGA) بخلفيات فكرية أو أكاديمية، ولذلك سيبدو وجود شخص مثل فانس، يحمل هذا النوع من العمق الفكري، أمرا غير عادي وغير متوقع.
وقد تكون قطاعات من الصحافة الأميركية أكثر وعيا بهذه الروابط من نظيراتها الأوروبية. على سبيل المثال، كان موقع "فوكس" يناقش زميلا آخر لـثيل (الذي مول فانس)، وهو كيرتس يارفين، الذي سيكون لدي المزيد لأقوله عنه قريبا.
أما في بريطانيا، فانفردت كارول كادوالادر تقريبا في التعمق بعلاقات فانس بمن تسميهم "البروليغارش"، وهو مصطلح لا يحبه الكثير، بيد أن ذلك آخرُ همّ  كادوالادر، فهي أساسا لا تحب الأشخاص الذين ينطبق عليهم هذا الوصف. وتقول: "لقد قام رجال الأعمال بنقلتهم، ويحتاج الباقون منا إلى فهم ما يعنيه ذلك بالضبط". ("الغارديان"- 20 يوليو 2024). إنها تجعل الأمر يبدو سهلا للغاية، وقد تابعت وصفها لفانس، بطريقة تنقصها اللياقة إلى حد ما، بأنه ليس سوى "أحد مخلوقات ثيل"، إذ تقول: "هو رجل صاغه ثيل على صورته من خلال الاستثمارات السخية في أعماله ومسيراته السياسية". كان ثيل قد أعطى فانس وظيفة في شركة رأس المال الاستثماري الخاصة به (ميثريل كابيتال)، ودعمه لبدء صندوقه الاستثماري الخاص، "ناريا كابيتال" ثم استثمر لاحقا 15 مليون دولار في ترشحه الناجح لمجلس الشيوخ. وأحسن ماكس شافكين، كاتب سيرة ثيل، حين وصف فانس بأنه مجرد "امتداد له".

تحرير العملات المشفرة

وتعتقد كادوالادر أن هذه التغييرات ستؤثر على الجميع، فقد أعرب فانس، مثلا، عن نيته تحرير العملات المشفرة وإزالة القيود المفروضة على الذكاء الاصطناعي. ولعل شرح هذا الأمر لأنصار حركة "MAGA" في ميتشيغان ليس بالأمر السهل تماما، ولكن المرجح أن تمر أغلب أفكار بيتر ثيل دون أن يفهمها أحد. وقد يتبع أنصار ترمب تأكيد ثيل على أن الديمقراطية والحرية ليستا متلازمتين دوما، ولكن فكرة استعداد ثيل للهروب من كارثة مناخية بالاختباء في ملجأ في نيوزيلندا فكرة متطرفة للغاية ومنفصلة عن همومهم اليومية، مما يجعل من الصعب عليهم التعاطف معها أو فهمها. ومن ثم هناك موقفه المتطرف من الموت نفسه. وقد كتب في ذلك: "أنا ضد الضرائب المصادرة، والجماعات الشمولية، وأيديولوجيا حتمية موت كل فرد. ولكل هذه الأسباب، ما زلت أصف نفسي بالليبرالي". ولكنه لا يمكن أن يقول مثل ذلك في مؤتمر عام. 
ومن يدري. فقد لا يحتاج ثيل إلى مخبئه في نيوزيلندا أو غيرها إذا نجح في تحقيق شكل من أشكال الخلود الرقمي أو حالة أعلى من الوجود من خلال التكنولوجيا، فثيل يجسد قمة التطور البشري والتقدم التكنولوجي، وكأنه وحده قد وصل إلى مستوى التقدم الذي تطمح البشرية ككل إلى تحقيقه.
لن يحتاج ثيل إلى مخبئه بعد الآن بمجرد أن يحقق الخلود الرقمي من خلال "الصعود إلى السحابة". يبدو وكأنه يرمز إلى تقدم الجنس البشري بأكمله، شخص واحد يدرك الهدف النهائي للإنسانية: "إن النمو الكبير في عدد المستفيدين من الرعاية الاجتماعية ومنح حق التصويت للنساء منذ عام 1920 قد خلق بيئة مليئة بالتحديات بالنسبة للليبريتاريين (Libertarians)، مما جعل مفهوم "الديمقراطية الرأسمالية" يبدو متناقضا لفظا في نهاية المطاف".

 رويترز
مشاركون في مؤتمر العملات الرقمة "بيتكوين 24" في مدينة ناشفيل في ولاية تينيسي في 27 يوليو

 وكما قال أوسكار وايلد ذات مرة مازحا عن ورق الحائط في غرفة موته، قائلاً إنه إما أن يرحل هو أو ورق الحائط، فإن ثيل ينظر إلى الأشخاص الذين يحصلون على الإعانات الاجتماعية والنساء باعتبارهم غير جذابين وغير مرغوب فيهم. ومن الصعب أن نصدق أنه كان ليقبل أن يصور تمثال الحرية على هيئة امرأة.

دعم ترمب

وبالمقارنة بهذه النظريات الكبرى، يبدو دعم ثيل لفوز ترمب- إلى جانب شخصيات تقنية أخرى مثل مارك أندريسن وبين هورويتز- بسيطا نسبيا. فوفقا لكادوالادر، في حين يعارض ثيل الشركات الكبرى مثل "غوغل" و "فيسبوك" والتي يراها حلفاؤه في "اليمين الجديد" جزءا من "المجمع الصناعي للرقابة" الذي يخنق خطاب اليمين، يأمل وادي السيليكون في عصر خال من القيود التنظيمية ومؤيد للأعمال التجارية.
قد يبدو هذا عاديا، لكن الهدف أكبر كثيرا من مجرد جني الأموال. إنه يتعلق بتغيير الطريقة التي تدار بها البلاد، باستخدام نموذج قائم على كيفية عمل شركات وادي السيليكون. وهذا ما يسميه كيرتس غاي يارفين، وهو مفكر آخر من اليمين الجديد وصديق لكل من ثيل وفانس: "إعادة التشغيل".

"الرجعيون الجدد"

لا يُعرف كيرتس يارفين، الذي كان يستخدم في السابق اسم منسيوس مولدبوغ ويلقب بـ"سيد السيث الأعلى للرجعيين الجدد" (تعبير مستوحى من عالم "حرب النجوم" لوصف الشخص الذي يمتلك نفوذا كبيرا ضمن الجانب المظلم للقوة) لا يعرف بحبه للإيجاز. وعلى الرغم من إشارته بإيجاز إلى "الحبوب الحمراء"، التي ترمز إلى الصحوة على الحقائق القاسية، فإنه يفضل المناقشات الطويلة والمعقدة. وأسلوبه في ذلك أشبه بأسلوب ترمب، ولكن بدلا من الحديث عن طرق غريبة للموت أو "هانيبال ليكتر"، يناقش يارفين موضوعات مثل الملكية البريطانية أو الجمهوريات الفرنسية العديدة منذ عام 1789، وهو يعتقد أن أميركا كانت لديها أيضا سلسلة من الجمهوريات، ولكن دون ترقيمها.

يوصف فانس بأنه ليس سوى "أحد مخلوقات ثيل"، فهو "رجل صاغه ثيل على صورته من خلال الاستثمارات السخية في أعماله ومسيرته السياسية"

يقترح يارفين أن تتعلم أميركا من البريطانيين وتعين ملكا يتصرف مثل رئيس تنفيذي لشركة كبرى، وتحديدا لشركة تكنولوجيا. 
هناك اقتباس شائع، يُنسب عن طريق الخطأ إلى آينشتاين: "يسافر الضوء أسرع من الصوت، ولهذا السبب يبدو بعض الناس أذكياء حتى يشرعوا في التحدث". ومع ذلك كثيرا ما يناسب هذا القول بعض النخبة الفكرية المزعومة الذين يبدو أنهم أذكياء حتى يتحدثوا.
بالنسبة لكيرتس يارفين، كان العكس صحيحا. عندما حاول لأول مرة إثارة إعجاب الأثرياء، رفضوه باعتباره شخصا غريب الأطوار. ولكن بمجرد سماعهم له وهو يتحدث، أصبحوا مفتونين بفصاحته.
كان أحد الأشخاص الذين نجح يارفين في إبهارهم هو الملياردير مؤسس "باي بال" (PayPal) المذكور أعلاه. وبحلول عام 2016، ادعى يارفين أنه "يدرب ثيل". وكما قالت كادوالادر بشكل غير متملق، إذا كان فانس من ابتكار ثيل، فإن ثيل من ابتكار يارفين. حتى إنهما شاهدا الانتخابات الأميركية لعام 2016 معًا في منزل ثيل.
في الماضي، عندما كان يكتب باسم مولدبوغ، لم يكن يارفين يعبر عن آرائه بصراحة كما يفعل الآن. وغالبا ما كان يستخدم أسلوب السخرية، مما يجعل من الصعب معرفة ما إذا كان جادا في انتقاداته لـ"الكاتدرائية" (مصطلحه لوسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية والخدمة المدنية) أو في اقتراحه الغريب بأن تُدار أميركا من قبل رجل أعمال أبيض كفء مسؤول فقط أمام مجلس إدارة.
أما وقد تخلى في الوقت الحاضر عن اسمه المستعار، فقد أصبح يارفين أكثر مباشرة في انتقاده للديمقراطية. وبرأيه أن مجتمع القرن الحادي والعشرين يتعافى من الديمقراطية، كما تعافت في القرن الماضي أوروبا الشرقية من الشيوعية، وهي وجهة نظر يطرحها مع لمسة من السخرية.
"هل تستطيع أن تتخيل مجتمع ما بعد الديمقراطية في القرن الحادي والعشرين؟ هو مجتمع يرى نفسه يتعافى من الديمقراطية، تماما كما تعافت أوروبا الشرقية من الشيوعية؟ حسنا، لعلي الوحيد الذي يفكر في ذلك".
ومن عجيب المفارقات أن الأشخاص الذين عانوا في ظل الأنظمة الشيوعية أصبحوا الآن قدوة لشخص يعتقد أن مدح الديمقراطية أمر مبالغ فيه. مثل ونستون تشرشل، يعتقد الكثير منا أحيانا أن الديمقراطية هي أسوأ أشكال الحكم، ولكن بعد ذلك نتذكر أنها أفضل من كل البدائل الأخرى الممكنة.
ولكن الكثير من أعضاء النخبة الفكرية ليس لديهم الوقت الكافي للتفكير في الأمور والنظر في العواقب في العالم الحقيقي. ولهذا السبب يقدم يارفين- باعتباره المنظر المفضل لديهم- حلولا سريعة وجذرية. ويقترح إجراء تغييرات مفاجئة وكاملة بسرعة كبيرة بحيث لا يتوفر لدى أحد الوقت للرد، مما يترك الجميع في حالة ذهول.

أمر تنفيذي

في أواخر عام 2020، أصدر ترمب أمرا تنفيذيا يسمى "الجدول-أف" لإعادة تصنيف ما يصل إلى 50 ألف موظف مدني متوسطي الإدارة كموظفين معينين سياسيا يمكن طردهم واستبدالهم من قبل الرئيس. ومثل ترمب وحليفه الجديد، يكره يارفين البيروقراطيين. حتى إنه صاغ اختصار "RAGE"، التي تتألف من الأحرف الأولى لعبارة "تقاعد جميع موظفي الحكومة" (Retire All Government Employees).
وعبر الأطلسي، قد يتساءل المرء عما إذا كان دومينيك كامينغز يشترك في أفكار مماثلة. يارفين هو أيضا مدون، ولكن على عكس كامينغز الجاد على طول الخط، يحتفظ يارفين بميزة ساخرة. يرى كلاهما التغيير كقضية بيروقراطية في المقام الأول. يعتقد يارفين أن الدولة الأميركية بأكملها ونظامها الدستوري بحاجة إلى الاستبدال، ويجب إضعاف المحاكم، وإغلاق وسائل الإعلام النخبوية والجامعات، ويجب أن تكون الشرطة مركزية.

من عجيب المفارقات أن الأشخاص الذين عانوا في ظل الأنظمة الشيوعية أصبحوا الآن قدوة لشخص يعتقد أن مدح الديمقراطية أمر مبالغ فيه

وبمجرد أن يتم ذلك، يستطيع الناس الممتنون النزول إلى الشوارع. ويؤكد لنا يارفين أن التحول سوف يكون سلميا إذا حدثت هذه التغييرات بسرعة. وربما يكون هناك بعض "الدماء" المجازية في الإدارات الفيدرالية، ولكن ليس العنف الفعلي. وينبغي أن يشعر المتظاهرون المؤيدون بالبهجة، على عكس الأحداث المهددة التي وقعت في السادس من يناير/كانون الثاني، وكأنها انتصار دائم لهم.
لا يقترح يارفين إزالة "الكاتدرائية"، بل إنه يتصور تحولا مماثلا لحل الأديرة في القرن السادس عشر، بقيادة ملك. وهو يتخيل ملكا على غرار ملوك آل تيودور، ولكن ليس هنري الثامن الطاغية، بل إليزابيث الأولى الأكثر لطفا، التي يراها شخصية رائدة أعمال مثل مؤسس شركة ناشئة، ترعى مواهب مثل شكسبير. ورغم أن إليزابيث الأولى كانت تتمتع بسلطة إصدار أوامر الإعدام، فإنها- على عكس والدها- لم تستخدمها كثيرا.
بعد سماع كل هذا، يبدو أن الرسالة الرئيسة ليارفين هي أن أميركا يجب أن تُدار مثل وادي السيليكون، الذي يتمتع بالنجاح والربح. وبالمناسبة، لا تطلق على هذا اسم الفاشية. فالجميع يعلمون أن الفاشيين يحرضون على الحروب الطبقية أو الصراعات العرقية. وسوف يتجنب ملك يارفين التسبب في الفرقة.
ليس من المستغرب أن يستثمر بيتر ثيل في اهتمامه بمثل هذه الأفكار، في شركة يارفين الناشئة (تيلون)، يأتي الاسم من أرض خيالية أنشأها لويس بورخيس، حيث يقبل الجميع فكرة الفيلسوف المثالي، الأسقف بيركلي، بأن الواقع يتشكل من خلال الإدراك.

رويترز
ترمب أثناء إلقائه كلمته في مؤتمر "بيتكوين 24" للعملات الرقمية في ناشفيل في ولاية تينيسي في 27 يوليو

قد يتساءل القارئ الموضوعي عن مدى ذكاء هذه الفلسفة الرجعية الجديدة. إن خطة يارفين لا تتعلق بالتغيير التدريجي، بل إنها أشبه بالقول: "هل حاولت إغلاقه وإعادة الإقلاع من جديد؟". لا أحد غير المهووسين قد يعتقد أن مثل هذه الأفكار المعقدة يمكن أن لا تكون مؤذية عندما تواجه الواقع. في نهاية المطاف، يجب اختبار كل نظرية في الممارسة العملية. وعندما يحدث ذلك، تحل الشعارات محل الحجج المعقدة، وتتحول الأمور إلى فوضى بسرعة.

مهرج تقني

ولكن في الوقت الحالي، يكتفي يارفين بلعب دور مهرج الإخوة التقنيين، فيسخر من رعاته بينما يتجنب المسؤولية الجادة عن أفكاره من خلال الادعاء بأنه ساخر. ونظرا لحبه للقراءة وولعه بالثقافة البريطانية، فمن المرجح أن يارفين على دراية بأعظم ساخر بريطاني، جوناثان سويفت. وإذا لم يكن كذلك، فعليه أن يتعرف عليه. لقد أمتع كتاب سويفت الأكثر شهرة (رحلات غليفر) أمتع الأطفال لأجيال بقصته عن "ليليبوت، أرض الأقزام".
يميل البالغون فقط إلى القراءة حتى يصلوا إلى الجزء الثالث، حيث يزور غليفر جزيرة لابوتا العائمة. يمكن لهذه الجزيرة أن تحوم فوق الأرض وتتحرك كما يحلو لها. يحكمها علماء رياضيات منغمسون في حساباتهم لدرجة أنهم يجب أن يوقظهم الخدم الذين يحملون عصيا بها مثانات في نهايتها بشكل دوري لتذكيرهم بتناول الطعام أو أداء وظائف الجسم الأساسية. يتعين على الخدم أحيانا ضرب النخبة الحاكمة، بما في ذلك الملك، لإعادتهم إلى الواقع.
حتى الآن، يبدو الأمر غريبا بعض الشيء، ولكن من المدهش أن سويفت تحدث في كتاب نُشر عام 1726 عن جهاز يمتلكه سكان لابوتان يُدعى "المحرك". حتى إنه أدرج رسما توضيحيا. وفقا لـ"ويكيبيديا"، قد يكون هذا "أقدم إشارة معروفة إلى جهاز يشبه الكمبيوتر الحديث". ويشرح سويفت جهازه كما يلي:
"كان الجميع يعرفون مدى صعوبة الطريقة المعتادة للوصول إلى الفنون والعلوم. بينما، من خلال اختراعه، قد يكتب الشخص الأكثر جهلا، مقابل تكلفة معقولة، وبقليل من الجهد البدني، كتبا في الفلسفة والشعر والسياسة والقوانين والرياضيات واللاهوت، دون أدنى مساعدة من العبقرية أو الدراسة".

أواخر عام 2020، أصدر ترمب أمرا تنفيذيا لإعادة تصنيف ما يصل إلى 50 ألف موظف مدني متوسطي الإدارة كموظفين معينين سياسيا يمكن طردهم واستبدالهم من قبل الرئيس

هذه ليست مجرد آلة حاسبة؛ إنها فكرة مبكرة للذكاء الاصطناعي. يساعد هذا الذكاء الاصطناعي الطبقة الحاكمة على تجاهل الأشخاص الذين تهيمن عليهم. إذا تمرد الناس، يحرك سكان لابوتان جزيرتهم العائمة لحجب الشمس، مما يتسبب في فشل المحاصيل وإجبار الناس على التوسل طلبا للرحمة. وبعد ذلك، يستطيع الحكام العودة إلى دراساتهم، دون إزعاج باستثناء التذكيرات العرضية.
قد لا يفكر ترمب بعمق في مثل هذه الأمور في كثير من الأحيان. وعلى الرغم من كل ما يعرفه أتباعه أو يهتمون به، فقد يفكر في شيء عشوائي مثل تعرض هانيبال ليكتر لصعقة كهربائية من سمكة قرش. وقد تحدث مثل هذه الحوادث حتى لعبقري عظيم".
ومع ذلك، فإن افتقار ترمب إلى التفكير العميق والفكري لا يمثل مشكلة لأنه لا يحتاج إلى أن يكون عبقريا،  فإن خبراء التكنولوجيا في وادي السيليكون، بتكنولوجيتهم وأجهزة الكمبيوتر المتقدمة لديهم، سوف يتولون التفكير المعقد نيابة عنه. مما يسمح لترمب بالتركيز على جوانب أخرى من القيادة دون الحاجة إلى الانخراط بعمق في قضايا معقدة. وقد يكون من الأفضل لنا نحن البشر العاديين، أن نترك التفكير المعقد وحل المشكلات للخبراء والتكنولوجيا المتقدمة، بدلا من القائد نفسه.

font change

مقالات ذات صلة