"حرب استخباراتية" جديدة بين إسرائيل و"حزب الله"

تختلف كثيرا عن سابقاتها

 رويترز
رويترز
عنصر من "حزب الله" يحمل سلاحا يعتقد أنه مضاد للمسيرات أثناء إحياء ذكرى عاشوراء في ضاحية بيروت الجنوبية في 17 يوليو

"حرب استخباراتية" جديدة بين إسرائيل و"حزب الله"

بعد سقوط عدد من القتلى المدنيين في بلدة مجدل شمس في الجولان السوري المحتل، عادت الاضواء لتسلط على إمكان اندلاع حرب واسعة النطاق بين إسرائيل و"حزب الله" اللبناني الذي اتهم بالوقوف وراء الهجوم وهو ما نفاه. لكن ماذا عن الحرب الإستخباراتية بين تل أبيب والحزب؟

واشنطن - ليس جديدا أن تقوم إسرائيل بتنفيذ عمليات اغتيال مستهدفة وعالية المستوى ضد "حزب الله"، ولكن عمليات العنف ضد "الحزب" تزايدت في الأشهر القليلة الماضية بشكل ملحوظ. فبعد الفشل الاستخباراتي الذي تعرضت له إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ردت بقوة وسرعة في لبنان. والسؤال هو: لماذا نجحت إسرائيل بشكل خاص في التخلص من الكثير من القادة البارزين في "حزب الله" مؤخرا، وهل ستحدث هذه النجاحات التكتيكية أي فرق؟

الأعمال الاستخباراتية الإسرائيلية في لبنان ليست جديدة، ولا ينبغي أن يتأثر حكم أي شخص على القدرات الاستخباراتية العامة لإسرائيل بكارثة السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ففشل إسرائيل في التنبؤ بالهجوم الذي شنته "حماس" في السابع من أكتوبر لم يكن نتيجة لنقص المعلومات أو التحليل السيئ، بل نتيجة لقصر النظر والاستخفاف بالخصم. فرغم أن جهاز الاستخبارات الإسرائيلي، أو بعض أجزائه على الأقل، قد حذروا من نية "حماس" القيام بعمل ما وقدرتها على الهجوم، فإن القيادة السياسية اختارت تجاهل هذه التحذيرات جزئيا لأنها لم تعتقد أن الحركة ستنفذ عملية بهذا الحجم الكارثي.

غير أن الأنشطة الأخيرة التي تقوم بها إسرائيل في لبنان تختلف كثيرا عن سابقاتها. فعملياتها الاستخباراتية تتبع نمطا تقليديا لجمع المعلومات وتحليلها ونشرها وتنفيذها، وكل هذه الأنشطة مدعومة بالسياسات العليا. بينما كانت إسرائيل تتبع موقفا دفاعيا بشكل أساسي تجاه "حماس" قبل السابع من أكتوبر، فإنها تتخذ موقفا هجوميا تجاه "حزب الله" فيما يتعلق بالأنشطة الاستخباراتية، ونراها تتحكم في المبادرة، وعملياتها مدعومة سياسيا وماديا من قبل الحكومة.

لا شيء غير عادي أو جديدا بشكل جذري في الأدوات الاستخباراتية التي استخدمتها إسرائيل في لبنان. ولكن الجديد هو الأسلوب الذي استخدمته إسرائيل في استغلال قدراتها لملاحقة وقتل عناصر "حزب الله". استخدمت إسرائيل وسائل المراقبة الإلكترونية (مثل الطائرات دون طيار، وكاميرات المراقبة الأمنية، وأنظمة الاستشعار عن بُعد)، واخترقت الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر، وجندت مواطنين لبنانيين لتحقيق أهدافها. كانت هذه الأنشطة فعالة لدرجة أن الأمين العام لـ"حزب الله"، حسن نصر الله، حذر أنصاره من ضرورة تأمين أو قفل هواتفهم.

 أ ف ب
عمال إنقاذ حول حطام سيارة تعرضت لقصف إسرائيلي في بلدة الخيارة في البقاع الغربي في 22 يونيو

لم تكن عملية التجنيد صعبة بالنسبة لإسرائيل، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعاني منها لبنان، والتي دفعت البعض إلى الاستعداد للتجسس لصالح إسرائيل، ولكن لبنان كان على الدوام مصدرا غنيا للمعلومات لإسرائيل، حتى قبل الانهيار الاقتصادي للبلاد. فالدولة ليست قادرة على الدفاع بشكل فعال ضد الاختراق الإسرائيلي، والجماعات الطائفية الداخلية التي تشكل المجتمع اللبناني متفرقة سياسيا وتختلف فيما بينها على معظم القضايا السياسية، بما في ذلك هوية البلاد، وتحديد حلفائها وأعدائها. وقد سمح هذا لإسرائيل ببناء شبكة من المخبرين الذين شكلوا فائدة كبيرة في عملياتها الاستخباراتية. وقد ألقت شعبة المعلومات التابعة لقوى الأمن الداخلي اللبنانية، التي تم تجهيزها بواسطة الولايات المتحدة وتعتبر أكثر الوحدات قدرة من بين باقي أجهزة الاستخبارات في البلاد، القبض على أكثر من 20 عميلا يعملون لصالح إسرائيل، بما في ذلك عناصر من "حزب الله".

تدعي إسرائيل أنها قتلت نصف قادة "حزب الله" في جنوب لبنان خلال الأسابيع والأشهر الأخيرة، ولكن "الحزب" ينفي هذا الادعاء

ومع ذلك لا يجب أن نستنتج أن "حزب الله" كان عاجزا أمام التدخلات الإسرائيلية المتكررة. بل إن "الحزب" تكيف لحماية نفسه بشكل أفضل، مستخدما تدابير مضادة منخفضة التقنية للتقليل من تأثير القدرات الإسرائيلية عالية التقنية أو لإبطالها. وكما فعلت إسرائيل، لجأ "الحزب" أيضا إلى الهجوم من خلال إطلاق وسائل مراقبة جوية خاصة به في الأجواء الإسرائيلية ومهاجمة مواقع حساسة في إسرائيل، في محاولة لاستعادة قدرته على الردع.
تدعي إسرائيل أنها قتلت نصف قادة "حزب الله" في جنوب لبنان خلال الأسابيع والأشهر الأخيرة، ولكن "الحزب" ينفي هذا الادعاء. وسواء صحّ ذلك أم لا، فليس من المنتظر أن تحقق سياسة الاغتيالات المستهدفة هذه الكثير فيما يتعلق بإضعاف "حزب الله" استراتيجيا أو تفكيكه. فـ"الحزب" قادر على ترميم نفسه والتعافي من أي خسارة في صفوف قياداته العليا، باستثناء حالة واحدة، هي إصابة حسن نصر الله نفسه. والتاريخ يؤكد هذا الأمر. فقلة من الناس كانوا يعتقدون أن "الحزب" سيستمر في البقاء أو العمل بالكفاءة نفسها بعد أن قتلت إسرائيل عباس الموسوي عام 1992، وعماد مغنية عام 2008، وهو ما ثبت خطؤه. 
في النهاية، لم يكن هؤلاء الرجال مجرد أعضاء عاديين في التنظيم. فالأول كان سلف نصر الله، وكان يحظى بحب وثقة كبيرة من أعضاء "الحزب" والقيادة الإيرانية. أما الثاني، فكان العنصر العسكري الأعلى في "حزب الله"- وكان أحد أقرب أصدقاء حسن نصر الله. كان مغنية شخصية غامضة، وظل على قائمة المطلوبين من قبل وكالات الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية لعقود بسبب تورطه في الكثير من الهجمات المميتة ضد الأهداف الأميركية والإسرائيلية واليهودية في لبنان وخارجه.

رويترز
عنصران من "حزب الله" على سطح مبنى في بيروت في 17 يوليو

في ظهيرة يوم 16 فبراير/شباط 1992، استهدفت طائرتان مروحيتان من نوع أباتشي تابعتان لإسرائيل الموسوي وزوجته وابنه الصغير بينما كانوا في طريق العودة إلى بيروت من تجمع في جبشيت، وهي قرية لبنانية في الجنوب. كانت إسرائيل تأمل أن يؤدي القضاء على الموسوي إلى تعطيل التنظيم الشاب والسيطرة على التهديد الذي يشكله على المصالح الإسرائيلية. ومع ذلك، حدث العكس، حيث جاء نصر الله خلفا للموسوي في رئاسة "حزب الله" بعد فترة وجيزة، محولا "الحزب" إلى أقوى فاعل غير حكومي في العالم وأصبح نصر الله نفسه أحد أقوى السياسيين في الشرق الأوسط. وبعد شهر من اغتيال الموسوي، فجر "حزب الله" بمساعدة إيران السفارة الإسرائيلية في بوينس آيرس، مما أسفر عن مقتل 29 شخصا وتبديد أي شكوك حول قدراته.

هجمات إسرائيل تحمل مخاطرة كبيرة، لأن "حزب الله"، رغم إعلانه عدم رغبته في حرب شاملة مع إسرائيل، قد يغير موقفه إذا تعرض لهجوم يستهدف شخصيات رئيسة

وعلى الرغم من أن خسارة عماد مغنية– الذي اغتيل في عملية مشتركة بين الاستخبارات الإسرائيلية ووكالة المخابرات المركزية الأميركية في فبراير/شباط 2008 في دمشق– لم يكن من السهل تعويضها، يمكن القول إن الحزب لم يتراجع عن نشاطه العسكري، كما يظهر من هجماته على إسرائيل منذ أكتوبر/تشرين الأول. مرت أكثر من 16 سنة منذ مقتل مغنية، ومع ذلك، يواصل "حزب الله"، الذي كان مغنية المسؤول الأول عن قوته العسكرية وتطويرها، التوسع من حيث الحجم والقدرات.
بالنسبة لـ"حزب الله"، فقد تمكن من النجاة رغم فقدان الموسوي ومغنية (بالإضافة إلى الكثير من الأعضاء الهامين الآخرين، رغم أنهم كانوا أقل رتبة)، وذلك لأن "الحزب"، على العكس من "حماس" مثلا، يتميز بالتماسك التنظيمي بالمعنى الأكثر هنتنغتونية للكلمة. يتمتع "الحزب" بمزيج مثالي من الهيكلية البيروقراطية والمرونة العسكرية، حيث يتخذ نصر الله القرارات، ولكن المقاتلين على الأرض لديهم ما يكفي من الاستقلالية لتنفيذ مهامهم العملياتية.
"حزب الله" هو تنظيم لا يربطه السعي للسلطة السياسية (كما هو الحال في الأحزاب والحركات السياسية التقليدية)، بل تربطه الأيديولوجيا، والدين، والأخوة، والإحساس بالرسالة، والتقارب العميق مع "المرشد الأعلى" الإيراني، آية الله علي خامنئي حاليا. ويتمتع "الحزب" بقاعدة وسيطرة على الجغرافيا والسكان في جنوب لبنان، ويحظى بدعم مستمر وسخي من طهران.

رويترز
نائب الأمين العام لـ"حزب الله" نعيم قاسم والمسؤول البارز في الحزب هاشم صفي الدين أثناء مسيرة في ذكرى عاشوراء

بالطبع، هذه الخصائص لا تجعل "حزب الله" محصنا ضد الأخطار أو التقلبات، ولكنها تجعله أكثر مرونة من معظم المنظمات غير الحكومية الأخرى. في الأيام والأسابيع الأخيرة، قتلت إسرائيل عددا من أعضاء "حزب الله"، بما في ذلك ميسم العطار، عباس قاسم، عباس رعد، وسام الطويل، طالب عبد الله، محمد ناصر. ويُشتبه أيضا في أن الموساد الإسرائيلي قتل صراف العملات محمد سرور في أوائل أبريل/نيسان، والذي فرضت عليه واشنطن عقوبات في عام 2019 بسبب ارتباطه المزعوم بـ"حزب الله" وتقديمه مساعدات مالية لـ"حماس". كان العطار مهندسا متمرسا في وحدة الدفاع الجوي لـ"حزب الله". وأصيب بواسطة طائرة إسرائيلية دون طيار في بعلبك أثناء قيادته لسيارته. كان رعد ابن نائب كبير في "حزب الله" وعضوا في قوات النخبة المسماة "الرضوان"، والتي سميت على اسم الراحل مغنية الذي حمل الاسم الحركي "الحاج رضوان". كان قاسم مسؤولا كبيرا عن منطقة في الجنوب. وكان الطويل وعبد الله وناصر يقودون العمليات في الجنوب منذ 8 أكتوبر.
هذه العمليات ليست بالأمر الهين. فهي تقلص من قدرات "حزب الله"، حتى لو كان ذلك مؤقتا، وتعزز معنويات جهاز الاستخبارات الإسرائيلي، بالإضافة إلى أنها تحمل أهمية سياسية. ومع ذلك، ورغم الفوائد التي تجنيها، تدرك إسرائيل أن هذه الهجمات لا تحمل قيمة استراتيجية كبيرة إن وجدت. بل إنها تحمل مخاطرة كبيرة، لأن "حزب الله"، رغم إعلانه عدم رغبته في حرب شاملة مع إسرائيل، قد يغير موقفه إذا تعرض لهجوم يستهدف شخصيات رئيسة مثل نصر الله أو نائبه نعيم قاسم، أو مدير مجلسه التنفيذي هاشم صفي الدين، وهذا قد يؤدي إلى تغيير كل المعادلات.  

بلال صعب: رئيس قسم الولايات المتحدة والشرق الأوسط في مؤسسة "تريندز للأبحاث والاستشارات"

font change

مقالات ذات صلة