لبنان "المرعوب" بعد مجدل شمس... هل يمكنه تجنب حرب شاملة؟

"حزب الله" غير "الحوثيين" بالنسبة إلى إسرائيل

أ ف ب
أ ف ب
أعمدة الدخان تتصاعد بعد غارة جوية إسرائيلية على قرية شيحين الحدودية في جنوب لبنان، 28 يوليو

لبنان "المرعوب" بعد مجدل شمس... هل يمكنه تجنب حرب شاملة؟

لا شكّ أن هجوم أو "حادث" مجدل شمس في الجولان السوري المحتل يوم السبت الماضي هو أبرز وأخطر تطور في سياق الحرب الدائرة في المنطقة منذ تسعة أشهر، بعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. قد يقول البعض إن الهجوم الإيراني على إسرائيل ليل 13-14 أبريل/نيسان الماضي كان أخطر تطورات الحرب، وهذا صحيح لجهة أن هذا الهجوم مثّل تحديا إيرانيا للخطوط الحمراء الإسرائيلية والأميركية، لكنه كان هجوما قابلا للاحتواء وقد نفذ من جانب إيران وفق حسابات وتقديرات تجعله قابلا للاحتواء وغير منفلت العواقب. أي إن هجوم 13- 14 أبريل كان من ضمن قواعد الاشتباك المعمول بها في سياق الحرب ولم يمثل خروجا عنها.

بينما هجوم مجدل شمس يفتح سياقا جديدا ضمن سياق الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وذلك بالنظر إلى أمرين: أولا هو هجوم أو حادث استهدف مدنيين في جغرافيا تحت سيطرة إسرائيل بشكل مباشر وبأكبر حصيلة منذ هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لكن الأهم أن الهجوم استهدف دروزا في جغرافيا تحت سيطرة إسرائيل، أي إنه يفتح على حساسيات المنطقة الطائفية والمذهبية وليس على الحساسيات الداخلية الإسرائيلية، أو الفلسطينية الإسرائيلية. إنه يصيب مباشرة الفالق الزلزالي للعصبيات الطائفية والمذهبية المتقابلة والمتناحرة في المنطقة، خصوصا منذ اندلاع "حروب الربيع العربي" وما شهدته من اقتتال بين الجماعات الدينية ولاسيما في سوريا.

وبالتالي فإن اتهام إسرائيل "حزب الله" بقصف مجدل شمس يخلق سياقا خاصا للهجوم ويجعل تداعياته غير مقتصرة وحسب على ردّة الفعل الإسرائيلية بل على إمكان أن يثير هذا الهجوم ردة فعل درزية في سوريا أو لبنان بالنظر إلى روابط الدم القوية جدا عند طائفة مثل الموحدين الدروز.

الدعوات داخل إسرائيل لـ"تغيير الواقع الأمني" على الحدود مع لبنان أصبحت أقوى وأكثر تصميما من السابق، وكأن التوسعة التدريجية للحرب هي توسعة منهجية إسرائيلية

الأمر الثاني الذي يجب التوقف عنده في سياق هذا الهجوم هو أنه يأتي في لحظة إبداء إسرائيل وأكثر من أي وقت مضى استعدادها لتوسيع حربها مع "حزب الله" المستمرة منذ الثامن من أكتوبر الماضي. وبالتالي فإن هذا الهجوم، أيا كانت ملابساته، فهو يمكن أن يشكل ذريعة لإسرائيل للانتقال إلى مرحلة جديدة من القتال مع "حزب الله" أكثر توسعا وتصعيدا، خصوصا أن الموقف الأميركي من الحرب ضد "حزب الله" والذي لطالما تم الركون إليه لتقدير احتمالات توسعة الحرب، يبدو الآن أكثر قبولا بتكثيف الضربات ضد "حزب الله" إن لم يكن بتوسعة الحرب وجعلها شاملة. 
هذا ما يمكن استنتاجه من زيارة بنيامين نتنياهو الناجحة بالنسبة له إلى واشنطن، إذ استطاع أن يماهي بين المصلحة الأميركية والمصلحة الإسرائيلية، من دون أن يصدر أي كلام في سياق الزيارة يفيد بأن ثمة خطا أحمر أميركيا لا يمكن لنتنياهو تجاوزه في سياق الحرب الإسرائيلية متى ما كانت أي خطوة من قبله ضرورة أمنية لا مفر منها لإسرائيل، أي إن خطاب نتنياهو أمام الكونغرس يدفع إلى اليقين بأن الضرورات الإسرائيلية يمكن أن تتحول سريعا إلى ضرورات أميركية، وهذا ينطبق على الحرب بين إسرائيل و"حزب الله"، أي إنه إذا "اضطرت" إسرائيل لشن حرب ضد "حزب الله" ولبنان فإن واشنطن ستكون إلى جانبها فيها وهذا وحده كاف لتقدير خطورة الموقف على الحدود الجنوبية للبنان بعد واقعة مجدل شمس. ثمّ تكفي متابعة المواقف والتسريبات الأميركية بعد حادثة أو هجوم مجدل شمس للتأكد من أن ثمة تحول في نبرة الخطاب الأميركي إزاء "حزب الله"، فاتهامه بإطلاق الصاروخ على مجدل شمس وإن مع إبقاء احتمال أن يكون قد أطلق من طريق الخطأ، وكذلك فإنّ موقف البيت الأبيض إثر الهجوم والذي أكد على أن "الدعم لأمن إسرائيل راسخ ولا يتزعزع ضدّ كلّ الجماعات الإرهابية المدعومة من إيران، بما في ذلك (حزب الله) اللبناني"، هو أول تصريح أميركي بهذه الحدة ضدّ "حزب الله" منذ بدء الحرب.

رويترز
رجال دين دروز يشاركون في جنازة الأطفال الذين قتلوا في ملعب كرة القدم في مجدل شمس، 28 يوليو

كذلك كان لافتا تحميل وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الأحد من طوكيو، وإلى جانبه وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، "حزب الله" مسؤولية هجوم مجدل شمس، إذ قال: "إن كل الأدلة تشير إلى أن الصاروخ الذي سقط في مجدل شمس في الجولان، وأدى إلى مقتل 12 طفلاً وجرح أكثر من 40 آخرين، يعود لحزب الله"، وإن كان قد أضاف: "نحن في محادثات مع إسرائيل، ولا نريد أن نرى تصاعد الصراع"، لكن الشق الأول من التصريح يبقى الأهم في اللحظة الراهنة.

إسرائيل غير مردوعة

هنا لا يمكن إغفال عودة مبعوث الرئيس الأميركي آموس هوكشتاين إلى المشهد اللبناني بعد غياب لأسابيع، إذ عاود الربط في تصريح له منذ يومين بين جبهتي غزة ولبنان داعيا إلى وقف الحرب فيهما، ويوم السبت اتصل بالزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط، معربا "عن قلقه من تطورات على جبهة جنوب لبنان في ضوء حادثة مجدل شمس". 
عودة هوكشتاين تعني أن الحل الدبلوماسي لا يزال على الطاولة وأنه لم يفقد حظوظه نهائيا ولكن الدعوات داخل إسرائيل لـ"تغيير الواقع الأمني" على الحدود مع لبنان أصبحت أقوى وأكثر تصميما من السابق، وكأن التوسعة التدريجية للحرب سواء بالقصف الجوي أو البري أو الاغتيالات كما القصف في مناطق أعمق داخل لبنان، كأن هذه التوسعة هي توسعة منهجية إسرائيلية وصولا ربما إلى الحرب الشاملة في حال اقتضت الضرورات الأمنية الإسرائيلية ذلك. أي في حال لم تنجح الجهود الدبلوماسية والمستوى الحالي للمواجهات بخلق واقع أمني مغاير و"آمن" يتيح عودة المستوطنين الإسرائيليين إلى الشمال.

من الواضح أن الحكومة- التي لا حول لها ولا قوة أمام "حزب الله" الذي هو جزء منها ولكنه يتصرف باستقلالية عن أي مؤسسة أو سياق لبناني- تحاول ما أمكنها أن تبعد عنها شبح الحرب

في الواقع، إن قراءة المعطيات الميدانية والمواقف السياسية والعسكرية توجب التقليل من حظوظ الحل الدبلوماسي راهنا أمام ارتفاع حافزية وجاهزية إسرائيل لمواصلة الحرب في غزة، ولو بوتيرة منخفضة، وتوسيعها في لبنان. وهنا يجب الأخذ في الاعتبار أن التصميم الإسرائيلي على "القضاء على حماس" ومنعها من الحضور في "اليوم التالي" للحرب في غزة، يزيد من احتمالات توسعة الحرب مع "حزب الله"، ليس لأن استمرار إسرائيل في حربها على غزة يجعل خطورة توسع الجبهة مع "حزب الله" أكبر وحسب، بل لأن إسرائيل مستعدة لحرب أوسع مع "حزب الله" إذا كان لا مفر من تلك الحرب على وقع استمرار الحرب في غزة. 
بالتالي فإن إسرائيل وبعكس ما يروج له "حزب الله" غير مردوعة ومحفزة للحرب، لا بل إن دينامية الحرب هي الدينامية الرئيسة فيها، وهذا يحيل إلى سؤال ما إذا كانت إسرائيل تضع على الطاولة أيضا معالجة جذرية لمشكلتها مع "حزب الله"، حتى وإن كان الأخير قادرا على إيذائها في أي مواجهة مفتوحة معه، فهي تتصرف على قاعدة أنها قادرة على تحمّل حدود أذيته لها مقابل تحقيقها أهدافها من الحرب، وإن كان الخطاب الإسرائيلي لا يتطرق الآن إلى مسألة "القضاء على حزب الله" مثلما يفعل بالنسبة لـ"حماس"، لكن هذا الاحتمال يبقى احتمالا واردا في ظلّ الدينامية المفتوحة للحرب التي تحرك العقل الإسرائيلي راهنا، وفي ظل ما يبدو أنه قدرة إسرائيلية على تحديد أولوياتها ودفع الولايات المتحدة إلى التأقلم معها كأمر واقع. 

المشهد اللبناني

في الواقع، إن واقعة مجدل شمس في الجولان السوري هي واقعة لبنانية أيضا، ليس لأن إسرائيل اتهمت "حزب الله" بقصف ملعب كرة القدم بصاروخ إيراني ما أدى إلى سقوط 12 ضحية، بل أيضا لأنّ هذا الهجوم أو "الحادثة" شكلت اختبارا حقيقيا وغير مسبوق منذ السابع من أكتوبر الماضي للدفاعات السياسية والأهلية أمام مخاطر الانزلاق إلى توترات طائفية على الساحة اللبنانية المفككة والهشة. 
ولذلك فإن واقعة مجدل شمس شكلت ولا تزال خطرين على لبنان، الأول خارجي ويتمثل باحتمال توجيه إسرائيل ضربات قوية ضد "حزب الله" الذي أجرى إعادة تموضع عسكرية في الجنوب والبقاع تحسبا لها، والثاني يتمثل في احتمال أن تثير هذه الواقعة حساسيات شيعية– درزية بالنظر إلى أن الضحايا دروز وإلى أن المتهم بالقصف هو "حزب الله. من هنا يمكن فهم موقف وليد جنبلاط الحذر والموجه في التعامل مع هجوم مجدل شمس لأنه يدرك حتما الخطرين المزدوجين، فإذا كان لا يستطيع أن يؤثر في الخطر الخارجي فهو حكما قادر على التقليل من الخطر الداخلي والذي هو في الواقع أقل من الأول. لكن ورغم أن مخاطر اندلاع أي توترات أمنية وأهلية في الداخل اللبناني منخفضة جدا بالنظر إلى المناخ السياسي السائد وإلى موقف الدروز وبالأخص وليد جنبلاط منذ السابع من أكتوبر، فإن هذا لا يعني أن الوضع الداخلي اللبناني متماسك و"آمن" بالنظر إلى الانقسام اللبناني بشأن الحرب التي بادر إليها "حزب الله" "إسنادا لغزة" انطلاقا من جنوب لبنان.

رويترز
لبنانيون على في الشاطئ في صور، جنوب لبنان، 28 يوليو، ويلاحظ انخفاض عدد رواد الشاطئ عن العادة

لذلك فإن واقعة مجدل شمس تعيد فتح العيون على حقيقة المشهد اللبناني المنقسم على نفسه والذي زادته هذه الحرب انقساما لا بل أظهرت إلى أي حد أصبح من الصعب إعادة تركيب البلد وجمعه اللهم بالقوة من خلال استخدام "حزب الله" قوته العسكرية فعلا أو تهديدا في فرض أجندته السياسية. غير ذلك فإن الانقسام اللبناني بلغ حدا يصعب معه توقع أن لبنان ما بعد الحرب سيكون هو نفسه قبلها ولو كان وضعه قبلها شبه ميئوس منه إذا ما نظر إلى وضع الدولة ومؤسساتها وإلى الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي المأزوم. 
لكن قبل ذلك وبعده فإن خطر الحرب الإسرائيلية على لبنان والذي يزداد باضطراد هو الآن الأولوية اللبنانية القصوى سواء على مستوى الحكومة أو الشارع. ومن الواضح أن الحكومة- التي لا حول لها ولا قوة أمام "حزب الله" الذي هو جزء منها ولكنه يتصرف باستقلالية عن أي مؤسسة أو سياق لبناني- تحاول ما أمكنها أن تبعد شبح الحرب عن لبنان، لكن إمكاناتها في ذلك تكاد تكون معدومة وأصلا ليس هناك أي شخصية لبنانية الآن يمكنها أن تقيم اتصالات دولية وإقليمية يمكنها أن توفر مظلة حماية للبنان أو تخفيف الضرر عليه. 
ما تفعله الحكومة اللبنانية يقتصر على المواقف وهي في واقعة مجدل شمس سارعت إلى إدانتها استهداف المدنيين أيا كانوا من دون أن تأتي من قريب أو بعيد على ذكر "حزب الله" وموقعه من الحادثة. بالتالي فإن حكومة نجيب ميقاتي تحاول أن تنأى بنفسها عن الحرب وعن "حزب الله" بتصدير سردية دولتية حيادية نوعا ما، ترمي من خلالها إلى تجنب الكأس المرة، وهي دمج إسرائيل بين "حزب الله" والدولة اللبنانية، وبالتالي توجيه ضربات للبنى التحتية اللبنانية المتهالكة والتي إن ضربتها إسرائيل هذه المرة فإن لبنان سيقع في كارثة كبرى لن يتعافى منها بسهولة.

لبنان تنتظره أيام وأسابيع صعبة جدا، وسط تخبط سياسي وانقسام أهلي وتفكك مؤسساتي وأزمة اقتصادية مستترة وفوق ذلك كله خطر الحرب الواسعة

إذاك فإن ما لا يقال علنا في لبنان مقابل مكابرة "حزب الله" واستعراض قوته هو أن الحكومة اللبنانية مرعوبة فعلا من أي سيناريو لـ"حرب واسعة" ضد لبنان، وإن كان اللبنانيون الذين لا يشعرون عن قرب بثقل الحرب بالنظر إلى الانقسام المناطقي التاريخي في لبنان وبالنظر أيضا إلى تراجع علاقتهم بالسياسة أو خضوعهم لسردية "حزب الله"- إذ بينما يقصف الجنوب يوميا تستمر الحياة في المناطق الأخرى وكأن شيئا لم يكن– لا يقدرون مدى خطورة الحرب هذه المرة في ظل دولة شبه منهارة وفي ظل عدم استعداد دولي وإقليمي لإعادة الإعمار إلا ضمن شروط سياسية محددة تمنع "حزب الله" من إعادة فرض هيمنته على الواقع اللبناني، وهذه مسألة طويلة تتعلق باليوم التالي للحرب في لبنان والذي سيكون على الأرجح من "اليوم التالي" في غزة.
حتى إن "حزب الله" ورغم كل الدعاية السياسية التي يقوم بها من خلال خطب أمينه العام أو من خلال إعلامه فهو يخشى الحرب ويدفعها عنه ما وسعه ذلك لأن ظروف حرب عام 2006 ليست نفسها اليوم، وببساطة يمكن طرح السؤال الآتي: من سيعيد إعمار المناطق المتضررة؟ لمعرفة حقيقة حسابات "حزب الله" ومخاوفه من الحرب الواسعة، أيا تكن قدراته العسكرية والتي مهما بلغت لن تستطيع كسر التفوق الإسرائيلي خصوصا في ظل الدعم الأميركي المفتوح لإسرائيل. حتى إن إيران في تعليقها على واقعة مجدل شمس، اختارت مفرداتها بدقة لأنها تريد الحفاظ على قواعد الاشتباك المعمول بها، ولأنها لا تريد أن تلزم نفسها بأي موقف يفهم منه استعدادها المطلق للتدخل في الحرب.

رويترز
منظر لمطار بيروت الدولي كما شوهد من بعبدا، لبنان، 28 يوليو

لذلك كله فإنه لبنان تنتظره أيام وأسابيع صعبة جدا، وسط تخبط سياسي وانقسام أهلي وتفكك مؤسساتي وأزمة اقتصادية مستترة وفوق ذلك كله خطر الحرب الواسعة، لدرجة أن وزير الخارجية اللبنانية خرج ليقول إن "حزب الله" ربما يكون قد قصف مجدل شمس عن طريق الخطأ، وهو موقف يحمل من عدم اليقين مقدار ما يحمله من الخوف من الحرب وفقدان الحيلة إزاءها. فحتى لو كانت التسريبات المتداولة تفيد بأن الرد الإسرائيلي سيكون على شكل ضربة قوية ومحددة ضد "حزب الله" كما حصل ضد "الحوثيين" في الحديدة الأسبوع الماضي، فإنه لا يمكن الركون إلى محدودية الضربة هذه المرة - والتي يؤشر إليها إفساح المجال لـ"حزب الله" لإعادة التموضع -  للقول إن الحرب الواسعة مستبعدة حكما لأن موقع لبنان وحدود انخراط "حزب الله" في الصراع وتاريخية هذا الانخراط وتهديداته كلها تمثل بالنسبة لإسرائيل تحديات أكبر من تلك التي يمثلها "الحوثيون" لها.

font change

مقالات ذات صلة