الوجه ليس محض عنوان أو غلافا لكتاب صاحبه وحسب، بل هو الكتاب الغامض ذاته. نص جامع، أكثر من ذلك، الوجه أم النصوص قاطبة.
الوجه ليس عتبة لبيت أو عالم وحسب، بل هو العتبة التي يسكنها البيت والعالم معا.
الوجه خريطة تشتبك فيها العلامات الدالة على الكائن. كيمياء تدخر زخما غفيرا من الإشارات، فإما هي علامات وإشارات تتماهى والذات الحاملة له، وإما هي ماكرة، مخادعة، غير مخلصة في نقل حقيقة التناغم بينهما، وبالتالي لن يكون الوجه إلا مستقلا، منفصلا عمن ينتمي إليه وينشطر عنه في آن.
حينما نتنزه في وجوه أقلية من الكتاب بالذات، وجوه الرسامين والسينمائيين والشعراء. طائفة من هذه الوجوه تحديدا، تشكل شاهدة الحافة والهاوية في آن، يؤشران لكينونة أو وجود أصحابها المستفز، المغوي والمثير. استفزاز الرؤية أولا، إغواء المعرفة ثانيا، وإثارة التفرد ثالثا.
من وجوه هؤلاء الكتاب والفنانين والموسيقيين ما ينجح في استرعاء الانتباه قبل اكتشاف منجزهم الإبداعي، رواية أو قصة أو شعرا أو رسما أو موسيقى، وجوه تضفي غرابة أو تسبغ معنى مضاعفا على نتاجهم الأدبي والفني. تصير القيمة الجمالية لنصوصهم الخلاقة رهينة بالقيمة الجمالية لفرادة وجوههم، بل يصعب الفصل بين القيمتين أحيانا.
من وجوه هؤلاء الكتاب والفنانين والموسيقيين ما ينجح في استرعاء الانتباه قبل اكتشاف منجزهم الإبداعي
قياسا إلى ذلك، هناك وجوه مبدعين تحيل مبدئيا وعلنيا على العمل الفني الذي يزاوله أصحابها، وفي المقابل هناك وجوه منهم ممتنعة، مموهة، مستعصية، لا تفصح عن طبيعة عملهم الفني الذي يظلّ مبهما، تبدو بعيدة عن حقول اشتغال هؤلاء إبداعيا، غير متناسقة والمهنة التي يمارسها أصحابها بجدارة، كأن يكون لشاعر وجه مجرم قرين بظلال السكاكين أو قاتل نساء متسلسل بالأحرى... ويكون لسينمائي وجه قناص مأجور أو وجه حطاب غابة سوداء أو سائق شاحنة كلاب أو محض شبح... ويكون لروائي وجه معتوه أو مختل هارب للتو من مارستان أو وجه ملاكم... ويكون لرسام وجه حفار قبور أو سائق ناقلة موتى أو صائد وعول ... ويكون لموسيقي وجه لص أبناك محترف، أو قرصان أو زعيم عصابة في الشارع الخلفي...
وبين التناسق والتنافر، يشكل وجه كل من هذه الأقلية على حدة، المرآة السحرية العاكسة للأشياء الأشد غموضا. المعجم الحافل بالعناوين الفاتنة. الصخرة المترفة بخدوش التجارب العاتية. الخزانة المأهولة بغرابة الملامح المتماوجة ذات الأحلام وذات الكوابيس. الصفحة المتقلبة لبحيرة تخفي أغوارها ما تغول من الأسرار وما تعتق من المصائر.
هكذا تمتلك الوجوه ذات الأثر المفزع، سحر الإيحاء بما يعتمل في الهاوية السحيقة للجسد وأدغال النفس البشرية، وتمتلك النظرة التي تسددها أعينهم الشحنة الأنطولوجية التي تنقل للخارج أحوال القيعان الإنسانية الملتبسة الكامنة في أقبية الداخل.
نيمم بنظرتنا شطر هذه الوجوه الراسخة الأثر، لكتاب وشعراء وموسيقيين بالإمعان في ذهول، وجوه تنتزع منا محاولات واحتمالات استقرائها واستغوارها من خلال مصادفاتنا لها واقعا، أو من خلال سديم صور التقطت لها في أزمنة متباينة. صور وجوه، ووجوه صور، لافتة استرعت انتباهنا وسافرت بنا في الأفق المفترض الذي سطرته بعمقها المدهش. نستضيفها ضمن غرفة تحميض مخيلتنا الخاصة، ونعيد إضاءتها عبر تشريح وتأمل وتخمين متأرجح بين لعبة التحري وفق فن التحقيقات في غموض الجريمة المحتملة وبين فن تخطيطات الرسم أو المرسم، كيف لا وهي تغدو لصيقة بمدار تخييلنا اليومي، موشومة في الذاكرة بشكل غائر! كيف لا وهي بنزوعها الاقتحامي واللاذع، تتسرب إلى أحلامنا وكوابيسنا، تتسلل إلى مراتع الرؤية والرؤيا معا وقد حجزت لها مكانا في تجارب إدراكنا للذات والعالم والأشياء باستمرار، فيتواطأ وعينا الفني أو نزق مغامراتنا الوجودية مع سطوة مجازيتها، ولا نكاد ننسلخ عن سحرية غرابتها وأشكال هندستها المبهرة إلا لماما.
المفارقة أن تنعدم في وجوه أخرى لكتاب ومبدعين أدنى العلامات الجمالية المثيرة التي تحيل على منجزهم الفني، إذ وجوههم متصحرة، مستهلكة وطاعنة في مشاع العادي وابتذال الشائع، تعاني قحطا أو تجافيها لعنة الغرابة وفضيلة الإدهاش، في حين وجوه أخرى لأناس عاديين لا يزاولون فنا ولا أثر أدبيا لهم، ينفردون بإثارة جارفة لوجوههم التي ما أن نصادفها نظنها فعلا لكتاب أو موسيقيين أو رسامين أو مخرجين سينمائيين، أو ممثلين على الأقل.
كم عايشنا وصادقنا وعرفنا وصادفنا ورأينا واقعا وتخييلا من قيامة وجوه عبر أطوار حياتنا
في هذه الحالة وجه لافت فنيا لإنسان غير مبدع، ما عساه يكون؟ حَسب وجهه أنه محض خريطة جمالية. وأما الوجه غير اللافت فنيا لإنسان مبدع، فما عساه يكون؟ حَسبه أن عمل صاحبه الفني هو وجهه المجازي البديل، عمله الفني كخريطة غير مألوفة لوجهه الواقعي المألوف.
تأبى هذه الوجوه الخالبة، الناهبة، الملتبسة بشكل حاد وخصب، أن تنفصل عن سقف تخييلنا كلما عددنا الخالد منها في ذاكرتنا، المؤبد منها، الفالت من ممحاة النسيان، إذ هي تقيم في حجرة شيطانية بداخلنا، أو حَشَدَهَا الزمن في متحف رعب داخل كل واحد منا بإخضاع ترتيب مجرات أصحابها احتكاما إلى سديم غموضها وخرائط مجهولها.
في المقام الأول وجوه أقلية من الكتاب والشعراء والرسامين والموسيقيين والسينمائيين، عرفناهم واقعا أو تخييلا، عبر تجربة صداقة أو لقاء عيني أو عبر صور فوتوغرافية أو بورتريهات فنية.
وفي المقام الثاني الذي يزاحم الأول ولا يقل قيمة ومعنى عنه، وجوه نادرة لأقلية أشخاص عاديين (لا ينتمون إلى عالم الفن بالضرورة) صادفناهم في مجريات حياتنا اليومية، في هذا البلد وذاك، في شتى الجغرافيات، عبر مصادفات السفر، وتجارب العيش المتشعبة.
وفي كلتا الحالتين، نتساءل كم عايشنا وصادقنا وعرفنا وصادفنا ورأينا واقعا وتخييلا من قيامة وجوه عبر أطوار حياتنا، بالطول والعرض، ولا نزال، ومع ذلك لا يرسخ منها جماليا إلا أقلية تتفرد بالغرابة والإثارة، وهي على ندرتها لا تفتأ تدهشنا مفاجئة إيانا في اكتشافات واستيهامات غرفة تحميض الصور الخاصة بمخيلتنا أو استرجاعات ذاكرتنا المشتبكة.