استراتيجية "الناتو" للأمن السيبراني

يركز الحلف بشكل متزايد على الحرب الهجينة

استراتيجية "الناتو" للأمن السيبراني

لطالما كان حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مرادفاً للتحالف العسكري والجيوسياسي التقليدي. تأسس الحلف عام 1949، وكان هدفه الأساس مواجهة التهديد السوفياتي خلال الحرب الباردة من خلال الدفاع الجماعي.

لكن مياها كثيرة جرت في النهر منذ عام التأسيس، مما اضطر الحلف إلى الإبحار بعيدا من دوره التقليدي، ليتعامل مع نطاق أوسع من التحديات الأمنية ويتبنى أبعادا استراتيجية جديدة.

في السنوات الأخيرة، أدرك الحلف أن التهديدات السيبرانية تمثل تحديا كبيرا، ويمكن أن تترتب عليها عواقب مدمرة على البنية التحتية الحيوية والمؤسسات الحكومية والمؤسسات الخاصة. لذا؛ أنشأ "الناتو" مركزا للدفاع السيبراني ووضع سياسات لتعزيز تلك القدرات بين أعضائه.

والآن؛ يركز الحلف بشكل متزايد على الحرب الهجينة، التي تجمع بين التكتيكات العسكرية التقليدية والأساليب غير النظامية، مثل التضليل، والضغط الاقتصادي، والهجمات الإلكترونية. وتجسد تصرفات روسيا في شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا هذا النهج، بحيث تحث حلف شمال الأطلسي على تعزيز استعداده ضد مثل هذه التهديدات المتعددة الأوجه.

كانت قمة هذا العام ذات أهمية استراتيجية كبيرة مع تصاعد أصوات اليمين السياسي على ضفتي الأطلسي في أوروبا، والأزمات الاقتصادية التي تواجه الدول الأعضاء، بالإضافة إلى الأزمة الأوكرانية واشتعال الشرق الأوسط نتيجة لحرب إسرائيل على قطاع غزة.

قمة "الناتو"

انطوت قمة حلف شمال الأطلسي الأسبوع الماضي في العاصمة الأميركية واشنطن للاحتفال بالذكرى الـ75 لتأسيسه، على أهمية استراتيجية كبيرة مع تصاعد أصوات اليمين السياسي على ضفتي الأطلسي في أوروبا، والأزمات الاقتصادية التي تواجه الدول الأعضاء، بالإضافة إلى الأزمة الأوكرانية واشتعال الشرق الأوسط نتيجة لحرب إسرائيل على قطاع غزة.

مع كل هذه التوترات والتغييرات الجيوسياسية، كان من الطبيعي أن يوجه "الناتو" رسائل سياسية دولية بأن الحلف موحد ويدافع عن القيم الغربية مثل حقوق الإنسان والديمقراطية.

مع ذلك، لم تركز القمة الأخيرة فقط على السياسة الدولية التقليدية، بل شددت أيضا على تطوير قدرات الحلف لتواكب السياسة الدولية الحديثة. وقد وصل الأمر إلى إعلان الدول الأعضاء أن الهجمات السيبرانية الكبيرة قد تكون سببا في تفعيل البند الخامس من ميثاق الحلف، الذي ينص على أن الهجوم على أي دولة عضو يعتبر هجوما على الحلف بأكمله ويستلزم الدفاع عنها.

رويترز
الاحتفال بقمة "الناتو" في واشنطن

 

يدرك "الناتو" هذا التغيير في توازن القوى على المستوى الدولي، لذلك جاءت القمة الأخيرة بقرارات وإجراءات مكثفة لتعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في مجال الأمن السيبراني واكتشاف الفضاء، وهما المجالان الجديدان على السياسة الدولية.

واكب مفهوم السياسة الدولية الحديثة التطور السريع في التكنولوجيا وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، مما جعل الدول تتسابق لاقتناء أحدث الأساليب لحماية بياناتها ومعلوماتها من السرقة أو التغيير. أصبحت حماية البيانات جزءا من المصالح الاستراتيجية للدول التي تسعى للهيمنة على المستوى الدولي، لأن ذلك يشمل إدارة المعلومات السرية والمعلومات العسكرية التي تُدار من الأقمار الصناعية.

يدرك "الناتو" هذا التغيير في توازن القوى على المستوى الدولي، لذلك جاءت القمة الأخيرة بقرارات وإجراءات مكثفة لتعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في مجال الأمن السيبراني واكتشاف الفضاء، وهما المجالان الجديدان على السياسة الدولية.

تعهد الأعضاء بتسريع اندماج التكنولوجيات الحديثة في ما بين دولهم لتحقيق الاكتفاء والهيمنة في مجالات الأمن السيبراني، والفضاء، والكابلات البحرية المتخصصة في نقل البيانات والمعلومات في قاع البحار والمحيطات.

جبهة موحدة للأمن السيبراني

تحولت فكرة "الناتو" من كونه حلفا لتحقيق الردع وحماية الدول الأعضاء من الهجوم العسكري إلى المجال التكنولوجي. حيث أعلنت الدول الأعضاء في القمة الأخيرة إنشاء مركز دفاع سيبرانيا متكاملا للحلف في بلجيكا. يقوم هذا المركز بدور نقطة اتصال مهمة للإبلاغ عن نقاط الضعف المهمة في الحواسيب والشبكات التابعة للحلف، التي قد يستغلها أعداؤه للهجوم على الدول الأعضاء.

كما يقوم المركز بإبلاغ القائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا، بصورة حية عن التهديدات السيبرانية التي قد تؤثر على قوات الحلف العسكرية. وأرادت الدول الأعضاء بتشكيل هذا المركز نشر وربط المعلومات الخاصة بالدفاع السيبراني بين الدول الأعضاء، لتكون على علم بما يحدث من هجمات تكنولوجية معقدة وطرق تخفيف حدتها وأيضا طرق مواجهتها والتعافي منها.

اعترف "الناتو" بالأمن السيبراني كمجال جديد على الساحة الدولية في عام 2016، بعد إقرار الأعضاء التزام التعاون في هذا المجال، نتيجة لعدة اختراقات وهجمات ساهمت في التجسس على دول الحلف.

جاء إعلان انشاء مركز دفاع سيبراني متكامل لحلف "الناتو" بعد اعتراف الدول الأعضاء بضرورة التعاون في هذا المجال، نظرا لأن القدرات التكنولوجية للحلف في الوقت الراهن لا ترتقي الى الهدف المنشود لتحقيق الردع، سواء في مجال الأمن السيبراني أو الفضاء.

اعترف "الناتو" بالأمن السيبراني كمجال جديد على الساحة الدولية في عام 2016، بعد إقرار الأعضاء التزام التعاون في هذا المجال، نتيجة لعدة اختراقات وهجمات ساهمت في التجسس على دول الحلف.

التهديدات السيبرانية من روسيا والصين

تعد روسيا والصين أكبر الدول التي تقوم بحملات تجسس إلكترونية على حلف "الناتو" بهدف جمع معلومات سرية، عسكرية وسياسية واقتصادية، عن خطط الحلف المستقبلية. رعت روسيا مجموعة من القراصنة على أعلى مستويات التدريب تُدعى APT29، هدفها جمع المعلومات السياسية والديبلوماسية الخاصة بالدول الأعضاء.

عندما يتم ذكر "Advanced Persistent Threat" المعروفة اختصارا بـ APT، يُشار إلى فاعلين في مجال سرقة البيانات بمهارة شديدة وقدرات عالية في التخفي من جهات الأمن وصعوبة طردهم من الشبكات المخترقة. وغالبا ما تكون مجموعات APT مدعومة من دول معينة، كما هي الحال في APT29 المدعومة من روسيا.

واخترقت مجموعة APT29 شركات مزودي التكنولوجيا في أوروبا، لتسهيل الوصول إلى معلومات حكومية تستفيد منها روسيا في حربها ضد أوكرانيا؛ كما اتهمت كثيرا من العاملين في أوساط مجال أمن المعلومات والسياسة الدولية منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية، باستخدامها من قبل روسيا للتجسس على أوكرانيا ودول الحلف من طريق هجمات اصطياد إلكتروني تستهدف ديبلوماسيين ومسؤولين بارزين.

أ.ف.ب
جندي أوكراني على جبهة القتال

ودعمت روسيا هذه المجموعة بتقنيات مكنتها من إصابة الحواسيب والشبكات ببرمجيات خبيثة للتحكم فيها.

في صيف العام الماضي؛ هاجمت تلك المجموعة الولايات المتحدة ودول حلف "الناتو"، ووفقا لتصريحات مديرة وكالة الأمن السيبراني والبنية التحتية الأميركية، جين إيسترلي، فإن لتلك المجموعة علاقة مباشرة بالاستخبارات الروسية مكنتها من مهاجمة أكثر من 2500 منظمة لدول أعضاء في حلف "الناتو"، وسرقت بيانات ومعلومات مهمة من الشبكات والحواسيب المخترقة.

وتطال الهجمات السيبرانية غالبية دول العالم تقريبا، وتزداد حدتها وتعقيدها كلما زادت أهمية الدولة المستهدفة وأهمية المعلومات المراد الوصول إليها.

لم تختلف القدرات الصينية كثيرا عن نظيرتها الروسية، حيث استغل فاعلون صينيون ثغرا غير مكتشفة في أجهزة وشبكات تابعة للحلف. وبحسب شركات الأمن؛ استغل الفاعلون المحسوبون على الصين ثغرا لم تكن معروفة في شبكات تابعة لـ"الناتو"، 12 مرة في عام 2023 فقط.

وتطال الهجمات السيبرانية غالبية دول العالم تقريبا، وتزداد حدتها وتعقيدها كلما زادت أهمية الدولة المستهدفة وأهمية المعلومات المراد الوصول إليها.

ومن الطبيعي استهداف دول الحلف بجميع أنواع الهجمات السيبرانية أملًا في اختراق شبكات أو حواسيب لدول مهمة فيه، لاستخدامها في حسابات الردع وموازين القوى في السياسة الدولية.

وشهد "الناتو" هجمات مضللة للتأثير على شعوب دول الحلف في محاولة لتقليل أهميته في العالم المعاصر، كما تم استهداف دول "الناتو" أيضا بهجمات تدميرية للبنية التحتية الإلكترونية بهدف تعطيل المؤسسات عن القيام بعملها للنيل من سمعة دول الحلف وتأكيد عدم قدرتها على حماية نفسها من الهجمات. آخر تلك الهجمات كان إعلان تأجيل أكثر من 200 عملية جراحية خاصة بمرض السرطان في لندن بعد تسريب بيانات المرضى نتيجة لاختراق من هجمة فدية.

استراتيجية واحدة للذكاء الاصطناعي

لذا؛ ساد قمة "الناتو" الأخيرة الحديث عن التكنولوجيا، وأعلن الحلف تحديث استراتيجيته الموحدة للذكاء الاصطناعي التي تهدف إلى تعزيز فهم الدول الأعضاء للمشهد الجديد للتكنولوجيا وأثرها على السياسة الدولية، خاصة بعد التطور الكبير في تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتعددة لإنشاء نصوص ومقاطع صوتية ومصورة تشبه الأصل تماما.

قبل ثلاثة أعوام؛ ظهرت الرؤية الموحدة لحلف "الناتو" الخاصة بالذكاء الاصطناعي لتكون حجر الأساس لدوله في التعامل مع الذكاء الاصطناعي بطريقة تزيد مكاسبه وتقلل أضراره. هدفت الرؤية إلى حماية ومراقبة تقنيات الذكاء الاصطناعي الخاصة بدول الحلف وتشجيع الابتكار، بالإضافة إلى الوصول إلى خطوات قابلة للتنفيذ لدمج أدوات الذكاء الاصطناعي من مختلف الدول في قواعد بيانات الحلف لمساعدة الدول الأخرى على الاطلاع على آخر المستجدات.

وجاءت القمة الأخيرة فرصة كبيرة للدول الأعضاء لتحديث استراتيجيتها وإضافة عدد من العناصر لجعلها أكثر ملاءمة لتطورات الذكاء الاصطناعي.

جاء هذا التوجه للاستخدامات الحكيمة للذكاء الاصطناعي متماشيًا مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة التاريخي الذي تمت الموافقة عليه في مارس/آذار الماضي بإنشاء إطار عالمي لتقنين استخدامات الذكاء الاصطناعي.

وتريد الدول الأعضاء من هذه الخطوة تقديم الحلف كمنصة موحدة لتسهيل تبادل المعلومات ومشاركة ونشر الممارسات الجيدة التي تتبنى قيم الحلف كحقوق الإنسان والديمقراطية وعدم التجسس على المواطنين إلا بإذن قضائي.

جاء هذا التوجه للاستخدامات الحكيمة للذكاء الاصطناعي متماشيا مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة التاريخي الذي تمت الموافقة عليه في مارس/آذار الماضي بإنشاء إطار عالمي لتقنين استخدامات الذكاء الاصطناعي.

لكن هذا القرار الأممي غير ملزم للدول الأعضاء، إذ وضع فقط خطوطا عريضة مقبولة لدى جميع الدول في شأن الذكاء الاصطناعي. أما استراتيجيا حلف "الناتو" فهي أكثر إلزاما للدول الأعضاء، حيث إن أي خرق في بنودها يؤدي إلى خروقات أمنية للحلف بشكل عام.

خلال هذه القمة، ظهر جليا أن الحلف لا يريد تفويت الفرصة لاستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري والاستخباراتي مع الحلفاء، لما لها من قدرات تكنولوجية على التعقب الدقيق للأهداف من خلال تحليل بصمة الصوت والعين في أجزاء من الثانية من خلال قواعد بيانات ضخمة. لكن هناك عواقب للقيام بذلك، وهي عوامل تدريب كفاءات جديدة متخصصة في مجال استخدامات الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري، وإنفاق مزيد من الأموال على الأبحاث بين الدول الأعضاء للوصول إلى نتائج أكثر فاعلية.

مركز "الناتو" للفضاء

يدرك حلف "الناتو" جيدا أنه بدون امتلاك وسائل للسيطرة على الفضاء، لن يقدر على تحقيق الحماية المطلوبة لأعضائه، لأن الفضاء ببساطة هو المجال الذي يضمن تدفق وحرية البيانات اللازمة للملاحة والاستخبارات، والاتصالات المدنية، والاقتصادية، والعسكرية. أيضا، يمثل الفضاء الخارجي للأرض فرصة جديدة لاكتشاف معادن مهمة. فإذا أراد "الناتو" بسط سيطرته في مجال الأمن السيبراني والاستفادة القصوى من تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتحقيق الردع الكافي، فيجب أن يمتلك اليد العليا في اكتشاف الفضاء للحفاظ على مصالح الحلفاء.

أعلن الحلف في عام 2019 أن الفضاء أصبح مجالا خامسا مهما بعد مجالات البر والبحر والجو والأمن السيبراني. ثم بعدها بعام، في 2020، أعلن إنشاء مركز فضاء خاص بالحلف في ألمانيا، يساعد في جهود حماية أنظمة الفضاء التابعة للدول الأعضاء ويقوم بالتشاور وتبادل المعلومات مع وكالات الفضاء المحلية. أيضا، في عام 2023، أعلن الحلف خططا لإنشاء مبادرة التحالف للمراقبة المستمرة من الفضاء والمعروفة بـ APSS لتعزيز قدرات الحلف في هذا المجال من خلال شبكة من الأقمار الاصطناعية الخاصة بالدول الأعضاء تكون متصلة بعضها مع بعض لتسهيل معالجة البيانات الاستخباراتية ونشرها مع مراكز القيادة في أسرع وقت.

بالإضافة إلى هذه الاستخدامات، يريد "الناتو" تحويل الفضاء ليكون مسارا بديلا في حال قطع الكابلات البحرية المسؤولة عن الاتصالات في أعالي البحار والمحيطات.

تأتي هذه القرارات بسبب خوف حلف "الناتو" من أن تقوم روسيا أو الصين بإلحاق الضرر بالكابلات البحرية التي يعتمد عليها الحلف، مما يضع مصالح الحلف الاستراتيجية في خطر، حال فقدان الاتصال.

في ظل التطورات الجيوسياسية والتكنولوجية المتسارعة، لم يعد حلف "الناتو" مجرد تحالف عسكري تقليدي، بل تحول إلى كيان يواكب التغيرات العالمية في الأمن السيبراني والفضاء والذكاء الاصطناعي.

وتأتي جهود "الناتو" في تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء وتطوير قدراته التكنولوجية كاستجابة ضرورية للتحديات الجديدة التي تفرضها التطورات في هذه المجالات. من خلال إنشاء مراكز دفاع سيبرانية وفضائية متقدمة وتبني استراتيجيات موحدة للذكاء الاصطناعي، يسعى الحلف لضمان حماية أعضائه وتحقيق الردع الفعّال في عصر التكنولوجيا المتقدمة. إن هذه التحركات تمثل رؤية مستقبلية لـ"الناتو"، تؤكد التزامه حماية القيم الغربية والاستعداد لمواجهة التهديدات الحديثة بكل حزم وفاعلية.

ويعكس تطور منظمة حلف شمال الأطلسي من تحالف جيوسياسي تقليدي إلى منظمة أمنية متعددة الأوجه، الطبيعة المتغيرة للتهديدات العالمية. فمن خلال معالجة التهديدات السيبرانية، والحرب الهجينة، والإرهاب، وأمن الفضاء، يتكيف حلف شمال الأطلسي مع تعقيدات المشهد الأمني ​​في القرن الحادي والعشرين. ومن خلال الشراكات العالمية، وبناء القدرات، والابتكار التكنولوجي، يعيد الحلف تحديد دوره، مما يضمن بقاءه ملائما وفعالا في حماية السلام والأمن الدوليين.

font change

مقالات ذات صلة