سيلين ديون العائدة إلى الأضواء من بوابة أولمبياد باريس

وثائقي جديد يروي معاناتها مع "متلازمة الجسد المتيبّس"

AFP
AFP
سيلين ديون خلال حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس

سيلين ديون العائدة إلى الأضواء من بوابة أولمبياد باريس

فاجأت سيلين ديون العالم في افتتاح أولمبياد باريس 2024، لا سيما أولئك الذين شاهدوها في الوثائقي الأخير الذي يتناول معاناتها مع المرض، والذين استنتجوا مدى استحالة أن تقف "الديفا" العالمية مجددا أمام العالم أجمع، لتصدح بالصوت القوي الذي عهدوه فيها. لكنّ ديون فاجأت الجميع، بمن في ذلك نفسها ربما، وقدمت أداء رفيعا اعتبر كثر أنه أنقذ حفل الافتتاح ومنحه اللمعان الذي افتقر إليه طوال ست ساعات.

ليس ضروريا أن يكون المرء من عشاق المغنية الكندية سيلين ديون (56 عاما) أو نمطها الغنائي، حتى يقف احتراما لها، بعد مشاهدة وثائقي "أنا: سيلين ديون" (برايم فيديو، إخراج الأميركية آيرين تايلور)، الذي تروي من خلاله، في ما يقارب الساعتين، مأساتها مع "متلازمة الجسد المتيبّس"، تلك اللعنة التي حلّت بها، قبل سنوات من إعلانها الأمر على الملء، وصارت تشكّل عبئا على قدراتها الغنائية، حتى اضطرت إلى إلغاء جولة أوروبية كانت مزمعة، والاعتراف بالحقيقة والظهور أمام معجبيها الكثر حول العالم بصورتها الأخيرة: امرأة يائسة عاجزة عن القيام بما تعتبره هويتها الوحيدة، أي الغناء.

بلا ماكياج

اختارت ديون الظهور في الوثائقي الذي صوّر معظمه داخل منزلها، دون ماكياج، سواء ذلك الفعليّ الذي من شأنه إخفاء ملامح العمر عن وجهها وشعرها، أو ذلك القائم على عبارات جاهزة منمّقة ومصمّمة لإظهارها قوية منتصرة كما يحبّ جمهورها ووكلاء أعمالها أن يروها. "لكن من هي سيلين ديون؟"، تتساءل المطربة في إحدى لحظات الهشاشة المطلقة الغالبة على سردية الوثائقي ومزاجه العام، "لقد جعلت صوتي قائدي وتبعته أينما أراد"، تقول متحسّرة، وكأنها تصف المتاهة التي تجد نفسها فيها حاليا حيث لا صوت يقودها أو يحدّد خطواتها المقبلة، ولم تعد قادرة حتى على التحكّم بجسدها الذي تضعه معظم الوقت في عهدة فريق من الأطباء والاختصاصيين.

ليس ضروريا أن يكون المرء من عشاق سيلين ديون حتى يقف احتراما لها، بعد مشاهدة الوثائقي 

وإذ يحرص الوثائقي على عرض مسيرة ديون، في لقطات أرشيفية، عائلية وفنية، منذ الطفولة وحتى الوقت الراهن، فإن ذلك يأتي خلفيّة لما تسرده حاليا عن نفسها. لحظات اعترافها بواقعها المأسوي الحالي، التي لا تخلو من دموع لا تستطيع حبسها، تتوازى مع لقطات من أمجادها السابقة، نشاطها وحيويتها على المسرح، لحظات اتحادها مع جمهورها خلال الغناء الحيّ، صوتها وهو يصدح بأعلى طبقاته، أي أننا نرى باستمرار الصورة ونقيضها، النفس وهي تنحدر من ذراها الأشبه بالحلم، إلى انهيار الجسد وخذلانه لصاحبه.

REUTERS
سيلين ديون خلال حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس

في أحد فصول الوثائقي المؤثرة، نراها وهي تتجوّل في مستودع أزيائها وأحذيتها وإكسسواراتها التي استخدمتها في حفلاتها على امتداد حياتها الفنية، ولعلّ هذا أحد أكثر الفصول حزنا ودراميّة. كلّ الأضواء واللمعان والذكريات السعيدة، تصبح أطلالا تقف المطربة عندها مستذكرة متى ارتدت هذا الزيّ أو ذاك، متحدثة بشغف عن علاقتها بها لأن "كلّ فستان هو حدث لا يتكرّر"، كما تقول، في اختصار بليغ لحياة كبار النجوم أو السوبرستارز، فهذا كله هو جزء من العرض، والنجم دائما هو العرض "الذي يجب أن يستمر" على ما تقول العبارة الشهيرة، إلا أن انحطاط الجسد، ليس بسبب الشيخوخة أو بسبب حادث ما، بل بسبب مرض شديد الندرة (حالة لكل مليون) يصيب الأعصاب والعضلات، كأنه حبكة في فيلم سينمائي وليس قدرا في الحياة الحقيقية، يلقي ظلا غير متوقع على تلك المقولة النمطية. فقد يستطيع الفنان مواجهة أوقات الإحباط والحزن والتردّد وانعدام الثقة بالنفس والمشكلات العاطفية والعائلية إلخ، لكن كيف له أن يواجه تمرّد جسده عليه؟

في بداية الوثائقي تقول ديون ردا على سؤال ابنها المراهق الذي يتخذ دور المصوّر السينمائي، عن البلد الذي ترغب في زيارته: "هل تصدق أنني زرت العالم كله مرّات عدة، لكنني لم أرَ شيئا"، اعتراف يلقي أيضا ضوءا غير مألوف على حياة النجوم التي ربما تكون موضع حسد لكثيرين، تلك الحياة الحرّة، المليئة بالإثارة والتشويق والمغامرات، الحافلة بالسفر والاكتشاف، يتضح بحسب ديون أنها مجرد وهم كبير أو في الحدّ الأدنى تمويه عن جوهر الحياة ومعناها. إذ أن حياة النجم، مثلما تشير ديون عن صواب، تصبح في خدمة نجوميته (الصوت في حالتها)، لا العكس. وحتى حين نرى ديون في أوقاتها الخاصة بعيدا عن هالة النجومية، مع عائلتها الموسعة، ثم زوجها وولديها،  فإن الأضواء تفرض نفسها، فنراها وهي تواجه صعوبة في تجهيز نفسها للذهاب إلى المستشفى من أجل عملية الولادة، حيث يجب أن تظهر بأفضل صورة "لأن مصوّري الباباراتزي سيكونون هناك"، كما تقول، وبالتالي فإنها حتى في أكثر لحظاتها خصوصية وحميمية، لا تستطيع الانفصال تماما عن اسمها وشهرتها.

كلّ الأضواء واللمعان والذكريات السعيدة، تصبح أطلالا تقف المطربة عندها

هنا يتبدّى لنا عنوان الوثائقي، "أنا: سيلين ديون"، ذكيا ومعبّرا، فهو يكاد يكون النقيض للعبارة الصريحة "أنا سيلين ديون"، وكأن العنوان المجلوب من كلمات تقولها ديون نفسها خلال الفيلم، يضع "الأنا" مقابل الاسم، فكلّ منهما يكمل واحده الآخر، من دون أن يعني أنهما الشيء ذاته. "أنا" هي تلك المرأة التي نراها معذّبة، تمتلك كلّ شيء، العائلة والثروة والشهرة والتاريخ، لكنها لا تمتلك حاضرها ولا مستقبلها، المرتبطين بالنسبة إليها بصوتها، وبتمكّنها ثانية من الغناء. لعلّ مثل هذه اللحظات هي الأكثر تأثيرا في الوثائقي، لأنها تطرح أسئلة جادة حول الفن والشهرة والهوية الذاتية، لا سيما حين نرى الحياة، بكلّ أبّهتها وبهائها، تختصر إلى قدرة المرء على الوقوف أو الانتقال من غرفة إلى أخرى، بحرية ودون أن تملي عليه عيوب جسده كلّ خطوة يخطوها.

أكثر المشاهد إيلاما هو ذلك المشهد الطويل في نهاية الوثائقي. نرى سيلين ديون تتحدّى مشكلاتها مع صوتها، لتسجّل أغنية جديدة، مرة بعد مرة ومحاولة بعد محاولة، حتى تنجح أخيرا في الوصول إلى الصوت الذي تريده، لكن شدّة الحماسة تتسبّب لجسدها بنوبة تخشّب قاسية، نرى خلالها فريقها الطبي وهو يتحكّم بجسدها، وينقله من وضعية إلى أخرى، ويحقنه بالعقاقير الطبية، بينما هي عاجزة عن النطق حتى تعود أخيرا إلى حالتها الطبيعية منهكة نفسيا وجسديا. كلمة "بطلة" التي يكرّرها المعالج طوال الوقت، محاولا رفع معنوياتها خلال تلك النوبة، مدركا أنها تسمعه لكنها عاجزة عن التواصل معه، تتناقض مع انهيارها التام، إلا أنها كما يقول المعالج لاحقا، تؤكد أنها نخوض قتالا شرسا مع جسدها في تلك الرحلة الشاقة لاستعادة الصوت والقدرة على الوقوف أمام الجمهور على المسرح.

 اختيار ديون لأغنية إديث بياف يروي الرحلة الشاقة التي خاضتها وتخوضها منذ أكثر من أربع سنوات

في حفل أولمبياد باريس 2024، الذي امتد لساعات وساعات كثير منها مملّ، ظهرت سيلين ديون أخيرا، وغنّت أغنية إديث بياف الخالدة "ترنيمة الحب"، وهو خيار لا ينطوي على تحيّة للأسطورة الفرنسية فحسب، بل أيضا على تلك الرحلة التي خاضتها وتخوضها ديون منذ أكثر من أربع سنوات، فمن خلال هذه الأغنية المؤثرة استطاعت ديون أن تظهر مجددا قدراتها الصوتية المذهلة، وفي الوقت نفسه أن تروي حكايتها، وأن تلقي ضوءا من الأمل على مستقبل لا يزال غامضا، فالمرض الذي تعاني منه هو من النوع الذي يندر التخلص منه، بل يفرض على المصاب به التعايش معه، وفي حالة ديون، يبدو أن المرض عليه أن يتعايش مع شغفها الكبير وجوعها الهائل للمسرح والغناء.

font change

مقالات ذات صلة