تحتوي رواية "البحث عن الزمن المفقود" للفرنسي مارسيل بروست، على مليون ونصف مليون كلمة، يعبر فيها عن ذاكرته وحياته الواقعية بالتفصيل، لتحمل الرواية الطويلة جدا صفة تاريخية ذاتية واقعية، وليست تاريخية خيالية. علق عليها بعض النقاد أنها ليست أدبا، لأن ثمة تعاقبا تاريخيا بدل النص الطويل، مع إصرارهم على أن سرده لا ينتمي إلى الأدب بصورة واضحة. ومع ذلك، وبعد مرور زهاء قرن على كتابه الضخم، بقيت سيرة بروست الروائية في المقدمة.
أكتبُ دائما عن غنى الواقع والمتخيل في الروايات مع اللغة، لكن هذه المرة تقودني افتتاحية "البحث عن الزمن المفقود"، إلى سفر شيق وشاسع، منذ جملة بروست الأولى. كانت بالنسبة إليّ دليلا على شروع فعلي لعمل روائي أدبي. فالجملة الأولى فيها من الإشارات ما يورّط القارئ في هوى التكملة، من دون علامات أو دفاع أو سلاح، اعتبارا أنها الفاتحة، أو جملة العتبة، عتبة الباب، باب الرواية... المهم أنها جملة توجّه السرد إلى غياب يمتدّ كالجسر المستمر في التواصل،يبوح فوقه بروست بشهقات مستمرة في زمن مختلف.
تقول افتتاحية بروست، أو جملته الأولى: "منذ وقت طويل، مضيتُ إلى السرير مبكرا".
جملة تتفجّر خيالا واسئلة، من الماضي إلى المضارع، ومن دون توضيح الزمن، وبشكل غير مباشر
جملة تتفجّر خيالا واسئلة، من الماضي إلى المضارع، ومن دون توضيح الزمن، وبشكل غير مباشر، مما يمنح الدليل على شروع فعلي، لتصبح هذه العبارة القصيرة كالشعار المنقوش بفن، وبشكل واضح وغامض في آن، ليقف القارئ عندها في لحظات، قبل الانتقال إلى السرد الطويل. فبعض القراء يحدّدون مصير الكِتاب من الجملة الأولى. ذكاء القارئ وملله وصبره، وكل صفاته، تحدّد فكرة الرواية من العتبة، فيرصد الفكرة العامة للرواية، وخطتها وأسلوب الكاتب... ويقرر حينها إكمال سفر السرد أو لا.
هكذا تصبح الافتتاحية في الرواية، بهذا الأسلوب الجديد، منتمية إلى الحداثة، وأرى أنها حداثة ولدت في زمن المؤلف بروست، فهو أوّل من غيّر الأسلوب الكلاسيكي في السرد، وهذا دليل على أن حداثة الرواية ولدت بولادته. جملته الأولى أثرت على العصر الجديد، لتُدرس حتى اليوم بوصفها من الروايات العصرية في مجال الفكر والثقافة والتاريخ والأدب. رواية طويلة جدا تشبه الرسالة الطويلة التي تحث على استمرارية الذاكرة، لأن الذاكرة هي المهيمنة على عمله الطويل، والصراع فيها هو صراع الذاكرة، ذاكرة الأوائل ونحن. كما أن اتصال الذاكرة بين الأجيال يرافق القارئ باستمرار، في جدول زمني واحد.
سطرٌ زمني بعيد يحمله الكتاب على ظهره، ويحمل فيه الإنسان والأسئلة والتطور والحداثة والحياة والفن الموت... حتى يصبح ظهره مثقلا بالأفكار والأحداث الضائعة، منتبها فجأة إلى أنه يكتب منذ صباه وهو الآن في منتصف عمره، ويجد نفسه كاتبا بعد هذا العمر وبعد مئات الآلاف من الكلمات التي شكلت له اسما في معجم السرد المسرود عن عمره من الشباب إلى النضج... امتطى بروست السرد بشكل جمالي لا يتمتع به إلا القليل من الروائيين، كما أنه يُظهر مؤهلاته الثقافية من دون تخطيط أو رغبة، فكلما يسهب، تبرز أكثر ثقافته العالية وعمقه الفكري، ويظهر هذا جليا كلما تقدم في الرواية.
الجملة الأولى في المدخل هي دراما معاصرة، كتبها في غرفة نومه التي كان يعمل فيها بهوس على أعظم أعماله
إذن، الجملة الأولى في المدخل هي دراما معاصرة، كتبها في غرفة نومه التي كان يعمل فيها بهوس على أعظم أعماله. والمثير للاهتمام أنه حين بلغ ذروته أثناء سنوات العمل، اكتشف أن الكتابة مهنته، وهذا لم يكن بباله منذ البداية، لتبقى نتيجة الافتتاحية أن خلقت الأحداث سَيرها من نفسها فتطورت الرواية، وبالتالي تطورت الأسئلة فيها، فأخذ يعالج معالجة شاقة وصعبة الحالة الإنسانية العالمية وسعي الفرد منذ ولادته عن معنى الحياة، منتجا بروست من جملته الفريدة الأولى أطول رواية في العالم.