بداية، ربما يتاح لنا القول إن مفهوم "الذات" لا يمكنه التحرر والانفكاك عن علائقه الفلسفية التي تناولته منذ فجر انطلاقتها الأولى، وصولا إلى إعادة تموضعها في كوجيتو ديكارت، ثم الإضافة على مفهومها من خلال اشتغالات ميشال فوكو على "جينيولوجيا الذات" أو "التذييت"، تحت مبدأ "الانهمام بالذات"، سعيا للوصول بها إلى ضفاف الحقيقة.
ذلك "الانهمام" الذي وضعه فوكو مقابل "معرفة الذات"، والذي يتجاوز في معناه "الانعزال وإقصاء كل شكل من أشكال المصلحة التي لا تكون موجهة إلى الذات، ولا تعني مجرد حالة وعي أو شكلا من الاهتمام بالذات يبديها المرء اتجاه نفسه، فهي ترتقي لأن تصبح اهتماما منظما وعملا له طرائقه وأهدافه، ووضعية ايجابية إزاء الذات والآخر والعالم". لهذا، يحمل فوكو على "اللحظة الديكارتية" لأنها وراء التراجع الذي حصل لمبدأ الانهمام بالذات لصالح معرفة الذات (اعرف نفسك بنفسك)، معتبرا ديكارت مسؤولا مباشرا عن هذا التحول في كتابه "التأملات"، حيث وضع البداهة في مقدمة التفكير، من دون أي شك ممكن. غير أن ما هو خطير حسب فوكو، هو أن المسار الديكارتي قد عمل على إقصاء مبدأ الانهمام بالذات من حقل التفكير الفلسفي المعاصر. فهذا الانهمام بالذات بدوره، سينطبع بشكل تلقائي، بممارسات مثل الروحانية والتصوف وجمالية الوجود، وهذه العناصر يمكن حيازتها ونسبتها بكاملها إلى الذات في صفتها الأدبية.
فأحد الأهداف الجوهرية للعمل الجيد الذي أنجزه ميشال فوكو - كما يرى الفرنسي كاميل ديموليي Camille Dumoulié في كتابه "الأدب والفلسفة: بهجة المعرفة في الأدب" (صادر عن "معهد تونس للترجمة بترجمة الصادق قسومة)- هو إعادة إدراج الذات التي تمارس الأدب في صلب التفكير الفلسفي، وممارسته هو ذاته للفلسفة تدل على مدى قربها عنده من الإبداع الأدبي. وحتى ديكارت، فعلى الرغم من ملاحظات فوكو السابقة على فلسفته، يجد ديموليي في نصه "تأملات ميتافيزيقية" أنه يقص قصتين في وقت واحد، هما قصة الذات الأدبية والذات الفلسفية، وقد التقتا في النقطة المجنونة التي يمثلها الكوجيتو الديكارتي.
تقارب وتقاطع
تجربة الذات الأدبية، إذن، ليست غريبة عن تحديدها الفلسفي، كما يقول ديموليي. إنها تجربة تزدوج مع تاريخ الذات الفلسفية بطريقة ساخرة أو فكاهية، أو ذات نغم من التناقض. ثم يضيف، ولئن كان الأدب هو المنبع الرومانسي لذات تخلت عنها الفلسفة، فإن مصير هاتين الذاتين متقارب أكثر من أي وقت مضى. والعلاقة ما بين الذاتين هي أقرب إلى التقاطع منه إلى التلاقي. إذ وصلت الفلسفة النقدية إلى النقطة التي كان الأدب دائما يضع فيها الذات. فلمّا بلغت هذه الفلسفة تلك النقطة بفضل جدية كانط أو بسبب حزنِ هدم ما بعد الحداثة، كان الأدب قد غادرها إلى مكان اخر، لأنه يواصل مسار التجربة الخاصة به.