صعود اليمين المتطرف في ألمانيا ليس مسألة جديدةhttps://www.majalla.com/node/321636/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B5%D8%B9%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B7%D8%B1%D9%81-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3-%D9%85%D8%B3%D8%A3%D9%84%D8%A9-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9
في صبيحة أحد أيام شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2011، دخل رجلان إلى بنك في مدينة إيزناخ في شرق ألمانيا، فاعتديا بالضرب على الصراف ثم سرقا قرابة 99000 دولار. وتمكنت الشرطة المحلية بسرعة من تعقب الرجلين إلى شاحنة صغيرة كانت تقف على جانب طريق قريب. وسمع دوي إطلاق نار واشتعلت النيران في الشاحنة. وعثرت الشرطة في الداخل على جثتي رجلين. أطلق أحدهما النار على الآخر قبل أن يطلق النار على نفسه. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، وعلى بعد نحو 160 كيلومترا من مكان الحادث الأول، أشعلت امرأة النار في شقتها باستخدام البنزين وهربت منها بعدما سمعت ما جرى في آيزناخ.
لم يكن الرجلان، أوي بونهاردت وأوي موندلوس، من لصوص البنوك العاديين، بل كانا ومعهما المرأة، بِياتي شخابي، جزءا من ثلاثي إرهابي من النازيين الجدد مصمّمين على تطهير ألمانيا من المهاجرين وأي شخص يعتقدون أنه يهدد الهوية البيضاء للبلاد. كشف تحقيق الشرطة عن أكثر من مجرد سلسلة من عمليات السطو على البنوك. كان بونهاردت وموندلوس قد سرقا الأموال لتمويل منظمتهما الإرهابية السرية، الحركة الاشتراكية الوطنية السرية (NSU)، التي ارتكبت سلسلة من جرائم القتل في جميع أنحاء ألمانيا، دون أن تقبض السلطات عليهما.
صدمة
عندما انكشف النقاب عن وجود جماعة الاشتراكيين الوطنيين، شعرت ألمانيا بالصدمة، وإن بقيت القصة محصورة إلى حدّ ما داخل البلاد ولم تنتشر في الخارج كثيرا. يهدف الكتاب الجديد للصحافي جايكوب كوشنر، "انظر بعيدا: قصة حقيقية عن جرائم القتل والتفجيرات وحملة اليمين المتطرف لتخليص ألمانيا من المهاجرين" ("غراند سنترال" للنشر)، إلى تغيير ذلك.
الأمة التي تحب الاعتقاد أنها قد كفّرت عن ماضيها العنصري سوف تضطر إلى الاعتراف بأن التعصب العنيف بات جزءا من حاضرها
ومما يقوله كوشنر في كتابه إن "الأمة التي تحب الاعتقاد أنها قد كفّرت عن ماضيها العنصري سوف تضطر إلى الاعتراف بأن التعصب العنيف بات جزءا من حاضرها. وأنه بعد مرور ستين عاما من سوق النازيين بقيادة هتلر اليهودَ والأقليات الأخرى إلى حتفهم خلال "الهولوكوست"، لا يزال التعصب يعمي الشرطة الألمانية الى درجة أنها لم تتمكن من ملاحظة العنف العنصري الذي يتكشف من حولها. والآن ستجبر هذه القضية الألمان على الاعتراف بأن الإرهاب ليس دائما إسلاميا أو أجنبيا، بل هو في غالب الأحيان محلي وأبيض. وأن هدف الإرهاب الأبيض، في عصر الهجرة الجماعية التي لا مثيل لها، هو المهاجرون بشكل متزايد".
يروي كتاب "انظر بعيدا" في المقام الأول سرديته من خلال وجهات نظر أفراد عائلات الضحايا وغيرهم ممن سعوا بنشاط لمكافحة الإرهاب اليميني المتطرف، وينقسم ثلاثة أقسام. في القسم الأول يشرح كوشنر كيف أصبح بونهاردت وموندلوس وتشيبي متطرفين في مدينة يينا بشرق ألمانيا في أواخر التسعينات، ويبين أن الرجلين لم يتوصلا إلى وجهات نظرهما تلك وحيدين بمعزل عن الآخرين. بعد سقوط جدار برلين، شهدت ألمانيا زيادة كبيرة في عدد طالبي اللجوء الذين وصلوا إلى البلاد. وكثيرا ما قوبل هؤلاء الوافدون الجدد بالاحتجاجات وأعمال العنف، وشملت تلك الأعمال حالات شغب وهجمات كبيرة على اللاجئين في بيوتهم. في ذلك الوقت، شهدت يينا نموا في المشهد اليميني المتطرف بقيادة تينو براندت، الذي كان عميلا مزدوجا عمل مخبرا حكوميا يقدم تقارير عن أنشطة النازيين الجدد، بينما يقوم في الوقت نفسه بتمويل مجموعاته اليمينية المتطرفة.
صورة نمطية
يروي القسم الثاني من الكتاب كيف أمضى المتطرفون الثلاثة 13 عاما في التخطيط لجرائم قتل أودت بحياة عشرة مهاجرين في جميع أنحاء ألمانيا، دون أن تتمكن السلطات الألمانية من معرفتهم وإلقاء القبض عليهم. ولم تربط أجزاء جرائم القتل بعضها ببعض ويُحل اللغز إلا بعد السطو على البنك عام 2011. ويلقي كوشنر قدرا كبيرا من اللوم في موجة القتل التي ارتكبتها جماعة الاشتراكيين الوطنيين (النازيون الجدد) على مدى عقد من الزمان على السلطات، التي وقعت في تحقيقاتها تحت تأثير الصور النمطية الضارة التي تتحدث عن تورط المهاجرين في المخدرات أو الجريمة المنظمة، وقد ساهم الإعلام في تعزيز هذه الصورة النمطية.
وتوضح الروايات المباشرة لعائلات الضحايا بقوة كيف ضللتهم افتراضات ضباط الشرطة في شأن الضحايا. على سبيل المثل، أوضحت غامزي كوباشيك، التي قُتل والدها محمد كوباشيك في كشك كانت تمتلكه عائلتها في دورتموند في عام 2006، أنها ووالدتها خضعتا لاستجواب لساعات حول أنشطة محمد غير المشروعة المفترضة. وتقول في ذلك: "لم أعد أستطيع سماع المزيد. شعرنا أننا مجرمون".
بعض جوانب التحقيقات تلامس حدّ السخف والعبثية. مثل ذلك أن الشرطة التي كانت تحقق في جريمة قتل إسماعيل يسار بعدما أطلق بونهاردت وموندلوس النار عليه في كشك الكباب الخاص به في نورنبيرغ عام 2005، تابعت بثبات نظرية تقوم على أن يسار كان يتاجر بالمخدرات. وقد أمضت الشرطة عاما كملا وأنفقت قرابة 36 ألف دولار من أموال دافعي الضرائب في تشغيل مطعم سري للوجبات الخفيفة، وبيع الكباب والمشروبات الغازية، على أمل أن يأتي أحدهم ويطلب شراء المخدرات، في محاولة لإثبات نظريتها. وفي ذلك يكتب كوشنر أن أحدا لم يفعل ذلك، ببساطة "لأن يسار لم يكن تاجر مخدرات". ويعلم كرم، ابن يسار، أنه لم يستطع إلا أن يشعر أنه لو كان والده ألماني المولد، لكانت جريمة قتله حلت بسرعة أكبر.
تنامي الشعور القومي
يؤكد كوشنر أيضا أن المجتمع الألماني ككل كان متهاونا في الاعتراف بمدى تنامي الشعور القومي الأبيض المعادي للمهاجرين بعد الحرب العالمية الثانية، وكتب أن القومية البيضاء "لم تختفِ أبدا"، ثم بيّن كيف أن "الأحداث التي أدت إلى الهولوكوست—مثل أعمال القتل، والهجمات على الأعمال التجارية المملوكة لليهود، وطردهم من منازلهم—باتت تحدث حاليا للمهاجرين"، وخصوصا في شرق ألمانيا، التي شهدت في التسعينات انتشارا واسعا للنازيين الجدد والمتطرفين اليمينيين، إلى درجة أن تلك الفترة تُعرف أحيانا بـ"سنوات المضرب" في إشارة إلى العنف الذي ارتكبه أصحاب الرؤوس الحليقة في جميع أنحاء المنطقة.
يغطي القسم الثالث من الكتاب محاكمة الحركة الاشتراكية الوطنية السرية (NSU)، التي بلغت ذروتها في عام 2018 بإدانة المرأة التي بقيت على قيد الحياة، بياتي شخابي، بعشر تهم قتل، إلى جانب اتهامات للعديد من المتواطئين مع الثلاثي. لكن الحكم لم يقدم عزاء حقيقيا لأسر الضحايا. وقال غامزي كوباشيك: "قتلت جماعة الاشتراكيين الوطنيين والدي... لكن المحققين دمروا شرفه، بل قتلوه للمرة الثانية".
ثمّة صعوبات تقف في وجه القضاء على الإرهاب الأبيض في ألمانيا، لعل أهمها استمرار الشعور المعادي للمهاجرين في السياسة الوطنية
ويأسف كوشنر لأن ألمانيا لم تتعلم بشكل كامل الدروس من قضية الحركة الاشتراكية الوطنية السرية، ويثبت ذلك من خلال ربطها بحوادث الكراهية والعنف الأخيرة ضد مجتمع المهاجرين. وعلى الرغم من أن حركة الاشتراكيين الوطنيين لم تختف تماما من الخطاب العام الألماني، فإنها اختفت من عناوين الأخبار بمجرد انتهاء المحاكمة، ولم تعد تذكر إلا في أعقاب أعمال العنف اليمينية المتطرفة الأخرى. ففي فبراير/شباط 2020، قَتل متطرف يميني تسعة أشخاص من أصول مهاجرة في هاناو، مستهدفا اثنين من مقاهي الشيشة في حملة عنصرية مسعورة. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2022، حُكم على رجل يبلغ من العمر 54 عاما بالسجن لمدة ست سنوات تقريبا لإرسال تهديدات إلى سياسيين وصحافيين وشخصيات عامة أخرى، بما في ذلك سيدا باساي يلدز، المحامية من خلفية تركية في فرانكفورت، التي مثلت عائلات العديد من ضحايا النازية الجديدة ، وكان يوقع الرسائل بـ "NSU 2.0" (الحركة الاشتراكية الوطنية السرية – نسخة 2).
ثمّة صعوبات تقف في وجه القضاء على الإرهاب الأبيض في ألمانيا، لعل أهمها استمرار الشعور المعادي للمهاجرين في السياسة الوطنية. في يناير/كانون الثاني، نشرت وسيلة الإعلام الاستقصائية الألمانية، "كوريكتيف" Correctiv، تقريرا شكل مفاجأة صاعقة حين كشف أن المتطرفين اليمينيين اجتمعوا سرا في أواخر العام الماضي لمناقشة خطط ترحيل ملايين الأشخاص من المهاجرين، بمن في ذلك بعض المواطنين الألمان. وكان من بين الحاضرين في الاجتماع في بوتسدام، الواقعة خارج برلين، سياسيون رفيعو المستوى من حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) اليميني المتطرف، الذي يشغل 77 مقعدا في البرلمان الألماني، وبلغت نسبة دعمه على المستوى الوطني 22 في المئة في ذلك الوقت. ولكن بعد تقرير "كوريكتيف" وسلسلة من الفضائح الأخرى التي تلت صدور التقرير، انخفض دعم الحزب إلى 16 في المئة، سوى أن ذلك لم يمنع الحزب من إحراز نتيجة أفضل بنحو خمس نقاط في الانتخابات الأخيرة للبرلمان الأوروبي، مقارنة بعام 2019.