مارتن إنديك كما عرفته

إرث إنساني ودبلوماسي غني ومُشرف

أ.ف.ب
أ.ف.ب
ياسر عرفات يتحدث إلى الصحفيين مع مارتن إنديك بعد اجتماعهما في مدينة غزة

مارتن إنديك كما عرفته

على مدى الأيام والأسابيع القليلة القادمة، ستكتب كثير من وسائل الإعلام الدولية ودوائر السياسة العامة الأميركية مقالات وكلمات رثاء عن "مارتن إنديك"، المسؤول الأميركي المخضرم في شؤون الشرق الأوسط الذي توفي للتو بسبب مرض السرطان. وهو يستحق كل كلمات المدح والثناء التي ستكتب عنه.

لن أنضم إلى قائمة من سيكتب، لأنني لا أعتقد أنني سأوفي هذا الرجل الاستثنائي حقه في مسيرته المهنية المرموقة. ورغم أنني أقدر بشكل كبير مساهمات مارتن في الدبلوماسية الأميركية في الشرق الأوسط، وأحترم وأحسد تفاؤله الدؤوب، وأعجب بتفانيه في قضية السلام الإسرائيلي الفلسطيني، إلا أن هذا ليس هو ما دفعني إلى كتابة هذه الرسالة. فأنا هنا أرغب في أن أشارككم كيف تعرفت على مارتن الإنسان، وليس فقط الدبلوماسي والزميل، وكيف تمكنت من تقديره لأكثر من 18 عاما، أملا في أن يلقي هذا بعض الضوء على إرثه الغني وشخصيته المشرفة.

وعلى الرغم من أننا ننتمي إلى جيلين مختلفين- أنا في الرابعة والأربعين من عمري حاليا وهو توفي عن عمر يناهز 73 عاما- فإن علاقتنا توطدت منذ اللحظة التي التقينا فيها صيف 2006. هل تعرف أولئك الأشخاص الذين تشعر بالراحة في التحدث إليهم ومشاركة الأسرار معهم حتى لو التقيت بهم للتو؟ هكذا كان مارتن.

في ذلك الوقت، كنت على وشك التخرج من جامعة سانت أندروز وأبحث عن فرصة عمل في واشنطن. ورغم رغبتي الكبيرة في العودة إلى لبنان، وطني الأصلي، بعد الانتهاء من دراستي، كنت أعلم أنني لا أستطيع ذلك لأنني لم أكن أرى مستقبلا هناك. إذ كنت قد درست العلوم السياسية، والعودة إلى لبنان والعمل في أي مجال قريب من القطاع العام كان يعني الالتزام بالقواعد السياسية واتباع زعيم مجموعتي الطائفية دون قيد أو شرط. من الواضح أن هذه لم تكن خيارات مناسبة بالنسبة لي.

وفي الخامس عشر من يونيو/حزيران 2006، حصلت على مقابلة عمل مع مركز سابين لسياسة الشرق الأوسط في معهد بروكينغز، مركز الأبحاث الدولي المرموق. كنت قد تقدمت بطلب لشغل وظيفة مساعد باحث، ولأنني كنت لا أزال في فايف باسكتلندا، كان لا بد من إجراء المقابلة عبر الهاتف. افترضت أن المقابلة ستُجرى من قبل موظفين من المستوى الأدنى أو من قسم الموارد البشرية، وأنهم سيطرحون علي الأسئلة المعتادة حول السيرة الذاتية وأهداف المهنة، كما تفعل أي مؤسسة أخرى مع مرشح مبتدئ. ولكن لدهشتي، كان الشخص على الخط هو مارتن، الذي كان في ذلك الوقت مدير المركز. شغل مارتن منصب سفير الولايات المتحدة في إسرائيل مرتين وكان مسؤولا أميركيا رفيع المستوى في شؤون الشرق الأوسط خلال إدارة كلينتون.

هل تعرف أولئك الأشخاص الذين تشعر بالراحة في التحدث إليهم ومشاركة الأسرار معهم حتى لو التقيت بهم للتو؟ هكذا كان مارتن


لم ينبهني معهد بروكينغز على وجود مارتن على الخط، ببساطة لأنهم لم يعرفوا بالأمر حتى اللحظة الأخيرة. إذ طَلب منهم أن يتحدث معي، وأن يجري المقابلة بنفسه. لو كنت قد تقدمت بطلب لشغل منصب كبير لفهمت الأمر، فهذا جزء من عملية الاختبار والتدقيق، ولكن أن يجري هذا الأمر مع شخص يبحث عن وظيفة مبتدئة! شعرت بالذهول حقا لأنه علم أساسا بأنني تقدمت لهذه الوظيفة.

قبل أن أسأله لماذا يكلف نفسه عناء التحدث معي، قال مارتن: "ربما تتساءل لماذا أنا على الخط؟"، تجمدت في مكاني والتزمت الصمت، وتمتمت بشيء غير مفهوم. ثم قال: "أعرف كيف تشعر. فأنا تركت بلدي أيضا في أستراليا وكنت أشعر بالتوتر بأنني لن أجد القبول في وطني الجديد. ولكن اعلم هذا الأمر"... وتابع قائلا: "سيكون لديك صديق دائم عندما تأتي إلى هنا".

لم أكن ناضجا بما يكفي لفهم كلمات مارتن تماما في تلك اللحظة. بصراحة، كل ما انتبهت إليه هو جملته الأخيرة: "عندما تأتي إلى هنا". فهمت من هذه العبارة أن موظفيه قرروا بالفعل عرض الوظيفة علي، ولكنه كان ما زال يرغب في الاتصال بي شخصيا ليمد يد المساعدة ويطمئنني- كما يفعل الأب الصالح مع ابنه- أن كل شيء سيكون على ما يرام.

استمرت يد المساعدة تلك حتى آخر نفس. فمنذ اللحظة التي وصلت فيها إلى واشنطن، لم يكن مارتن مجرد رئيس لي، بل أصبح مرشدي. اهتم بشكل خاص بمسيرتي المهنية، والأهم من ذلك، برفاهيتي. وآمن بي عندما لم أكن أؤمن بنفسي، ووثق بحكمي (على الأقل فيما يتعلق بلبنان) عندما كانت لدي شكوك. وعاملني بحرارة واحترام شديدين، حتى إن بعض زملائي أطلقوا علي لقب "فتى مارتن الذهبي في بروكنغز".

غيتي
مارتن إنديك يتحدث خلال مقابلة مع تلفزيون بلومبرغ في نيويورك في 2019

بعد وقت قصير من انضمامي إلى بروكنغز، استدعاني مارتن إلى مكتبه ليخبرني بأنه سيرسلني إلى لبنان برفقة مدير برنامج السياسة الخارجية في بروكنغز والسفير الأميركي السابق في أوكرانيا، كارلوس باسكوال، والمتخصص في التنمية الدولية أشرف غني، الذي أصبح فيما بعد رئيسا لأفغانستان. لن أنسى كلماته أبدا: "أريدك أن تذهب مع كارلوس وأشرف لتقييم جهود إعادة الإعمار بعد الحرب. أنت المسؤول. وإن احتجت أي شيء اتصل بي. بإمكانك القيام بذلك". كان ذلك بعد الحرب المدمرة بين إسرائيل و"حزب الله" في صيف عام 2006، الحرب التي دمرت جزءا كبيرا من لبنان، وخاصة المنطقة الجنوبية منه.

لم يسبق لي قط أن قمت برحلة عمل، ناهيك عن رحلة كان من المفترض أن أقوم فيها بترتيب كافة الترتيبات اللوجستية، وترتيب اجتماعات مع كبار المسؤولين اللبنانيين، والتعامل مع تفاصيل الأمن الشخصي من خلال مقاولين محليين، والاتصال بالسفارة الأميركية، والعمل كمترجم (لم يكن كارلوس وأشرف يعرفان اللغة العربية)، وتقديم تقييماتي الخاصة للوضع في البلاد. والواقع أن تشككي في قدراتي لا يرقى إلى مستوى الحقيقة. إذ كنت قلقا للغاية. ولكن ثقة مارتن زودتني بتشجيع هائل. وتبين أن الرحلة كانت ناجحة، حيث قدم كارلوس شهادة لا تشوبها شائبة في مجلس الشيوخ الأميركي، وهو ما أثر على المساعدات الأميركية للبنان بعد الحرب. ومنذ ذلك الحين، ألقى مارتن عليّ تحديا تلو الآخر (أو فرصة)، وهي تحديات غالبا ما تكون محجوزة للزملاء الأكثر خبرة في المؤسسة، فرفعني ودربني في كل منعطف.

استمرت يد المساعدة تلك حتى آخر نفس. اهتم مارتن بشكل خاص بمسيرتي المهنية، والأهم من ذلك، برفاهيتي. وآمن بي عندما لم أكن أؤمن بنفسي

كثيرا ما أُخبر طلابي ومساعديّ أن أهم شيء يمكنهم فعله لتعزيز حياتهم المهنية هو العثور على مرشد جيد. كان مارتن مرشدا مثاليا، وكان دائما موجودا من أجلي ليقدم لي النصائح الصادقة، ويوبخني عندما أخطئ (وهو ما كان يحدث كثيرا)، ويثني علي عندما أحقق نتائج جيدة، ويرفع من معنوياتي عندما أفشل (وهو ما كان يحدث كثيرا أيضا).

تحول الإرشاد إلى صداقة مع مرور الوقت، وهنا تعرفت على مارتن كشخص، وليس كدبلوماسي مشهور مدمن على العمل. كان رجلا محبا للعائلة قبل كل شيء، يسألني دائما عن عائلتي وأسأله عن عائلته. كان قارئا نهما ومؤرخا وقائدا فكريا. كان يبدو متغطرسا أمام العامة ولكنه كان متواضعا مع من عرفوه. كان يشبه كلينت إيستوود في فيلم "غران تورينو"، الرجل العجوز الغاضب الذي يبدو لئيما من الخارج ولكنه طيب القلب من الداخل. اعتدت أن أخبره بذلك، وكان هذا يجعله يضحك. كان يحب لبنان بشكل خاص (وأحذية تكساس لسبب ما)، وخاصة الطعام. كنا نطلب المقبلات من مطعمنا اللبناني المفضل ونتحدث طوال الليل عن تجاربه ومغامراته في صنع السلام في الشرق الأوسط. أحببت تلك اللحظات، وتعلمت منها الكثير- أشياء لن تراها أبدا في الكتب أو في وسائل الإعلام.

عندما أخبرته أنني سأتزوج في عام 2011، سألني عما إذا كان بإمكانه إحضار زوجته معه. قلت: "لكنني لم أدعك، لأنني لم أكن أعتقد أنك ستأتي". قال: "لن أفوت فرصة مقابلة والديك والرقص في حفل زفافك". وهذا ما فعله. احتضن هو ووالدي بعضهما البعض كما لو كانا صديقين منذ الأزل. كان مشهدا مضحكا ولكنه لا يُنسى. أنظر الآن إلى صور زفافي وأنا أكتب هذه السطور، حيث يعانق مارتن والدي ويرقص معه.

حظيت أنا ومارتن بفرصة المشاركة في الكثير من الندوات على مر السنين، حيث ناقشنا سياسة الشرق الأوسط والسياسة الأميركية. اختلفنا حول الكثير، بما في ذلك أحدث جهود إدارة بايدن لوضع خطة تحويلية للشرق الأوسط، لكننا كنا دائما نشجع بعضنا البعض. أنا فخور بأن أقول إنني تلميذه. فلتكن ذكراه مباركة. سوف نفتقد صداقته ودبلوماسيته وصوت العقل في هذا العصر من الجنون السياسي.

font change

مقالات ذات صلة