صيف لبنان: حركة طائرات... بلا بركة في الفنادق

المغتربون لم يخذلوا عائلاتهم في الوطن النازف فيما "المشاغلة" الدموية والدمار المتعاظم مستمران في الجنوب

أ.ف.ب.
أ.ف.ب.
شباب لبنان خلال الحفل الأول للفرقة كايروكي المصرية في لبنان، مهرجان بيبلوس الدولي، في جبيل، 19 يوليو 2024

صيف لبنان: حركة طائرات... بلا بركة في الفنادق

الحرب النفسية التي يشنها الإعلام الإسرائيلي وبعض الإعلام الغربي، منذ دخول لبنان معركة "المشاغلة" على حدوده الجنوبية، لم تحقق غايتها في ثني المغتربين اللبنانيين ومعهم قلة من السياح العرب والآسيويين من القدوم إلى بلاد الأرز، ولم تجد التهديدات المتكررة على ألسنة سياسيين وقادة عسكريين إسرائيليين، طريقها إلى تخويفهم من الاستمرار في ممارسة ما يجيدونه باحتراف وهو صناعة السياحة.

الواقع الذي فرضه اللبنانيون هذا الصيف، رسم مشهدية متناقضة، بين بلد تشير كل الدلائل الى أنه يقيم على برميل بارود، وبات قاب قوسين من اندلاع حرب لا تُبقِي ولا تَذر، فيما مئات الألوف من مغتربيه يدلفون إليه، حاملين آمالهم وتصميمهم على القيام بما يقدرون عليه من سياحة داخلية وأنشطة فنية، ورحلات لا تحسب حسابا للنار الجنوبية ووجودها أو تمددها.

ليست مشهدية الحرب المتوقعة في مواجهة "الهجوم" السياحي هي التناقض الوحيد المثير، بل هو إصرار هذا الكم الكبير من المغتربين على زيارة قراهم وبيوتهم وأهليهم، فيما البلاد تغرق كل يوم أكثر في الفوضى والأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

يشكل المغتربون اللبنانيون القادمون من الدول العربية والخليجية وأفريقيا النسبة الكبرى من الوافدين بين 60 الى 70%، فيما تشكل نسبة السياح العرب نحو 25% غالبيتهم من السوريين والعراقيين

النقص في الخدمات العامة أو ترديها، يتمدد من الكهرباء وعطلها المزمن، إلى الهاتف والإنترنت، والشح في مياه الشفة، والطرق المحفرة، والجسور التي تحتاج الى الكثير من الصيانة، وغيرها من البديهيات التي يمكن للمغترب التمتع بها في وجهات سياحية عدة حول العالم من دون عناء يذكر. ربما التناقض الثابت هو هذا اللبنان، الذي ينقذه دوما كما يهلكه، بنوه.

السياح اللبنانيون في بلدهم

المغتربون اللبنانيون هم حتى الآن المحرك الاساس لعجلات الطائرات الآتية الى بيروت، مع قلة من السياح العرب والأجانب، الذين خبِروا الاجواء غير المستقرة أمنيا واقتصاديا، فيواظبون سنويا على "ارتكاب" فعل المجيء إلى البلاد على الرغم من المحاذير والمعوقات الأمنية والاقتصادية.

Shutterstock
طائرة تابعة لشركة "الميدل ايست" تهبط تمر فوق الواجهة البحرية لمدينة بيروت عند الغروب

ووفقا لإحصاءات مطار رفيق الحريري الدولي، بلغ مجموع الوافدين منذ مطلع السنة (2024) حتى نهاية يونيو/حزيران الماضي مليونا و545 ألفا و666 زائرا، في مقابل مليون و452 ألفا و996 مغادرا. وككل عام، يشكل المغتربون اللبنانيون القادمون من الدول العربية والخليجية وأفريقيا النسبة الكبرى من الوافدين بين 60و70 في المئة، فيما تشكل نسبة السياح العرب نحو 25 في المئة غالبيتهم من السوريين والعراقيين، إضافة إلى الأردنيين والمصريين، وإن بنسبة أقل. أما السياح الأجانب فغالبيتهم من أوروبا، ولا تتجاوز نسبتهم الـ5 في المئة.

على الرغم من التراجع اللافت في الحركة السياحية، تغرد حركة المطار خارج سرب القطاعات السياحية التي تئن من تراجع نسب الاشغالات فيها. فأعداد الوافدين لا تزال تحافظ على النسبة عينها التي حققتها العام الماضي، بدليل أنه يهبط أكثر من 12 ألف راكب، أي بين 85 و90 طائرة تحط في المطار وتغادره يوميا من مختلف أنحاء العالم، نسبة ملاءتهم بين 90 و100في المئة".

هذه الارقام والنسب يجاهر بها رئيس نقابة أصحاب مكاتب السياحة والسفر جان عبود الذي يبدو متفائلا بالنسب التي سيحققها عدد الوافدين في شهر أغسطس/آب والتي يمكن أن تصل الى نحو 15 ألف وافد، إلا إذا حصل حدث أمني، قد يطيح كل الآمال. لكن، على الرغم من الاجواء السلبية المحيطة، يبقى الامل في نجاح المبادرات الإيجابية التي قد تترجم بوقف الحرب جنوبا، بما يبشر أن هذا الصيف سيكون أفضل من صيف 2023.

التراجع الملحوظ في نسبة الإشغال الفندقي يبدو واضحا في بيروت التي كانت في الاعوام القليلة الماضية تراوح بين 50 و90% فيما اليوم تراوح بين 20 و40% كحد أقصى

وقد كثر الحديث أخيرا، أن التهديد شبه اليومي باندلاع الحرب، كان له الاثر الكبير في ثني الكثير من المغتربين والعائلات والسياح عن القدوم الى لبنان صيفاً، فيما قضى توسع العمليات الحربية في جنوب لبنان على ما تبقى من حماسة لدى هؤلاء، بيد أن عبود أكد أنه لم تسجل الغاءات لأي من الرحلات الجوية المقبلة الى لبنان التي بقيت في مواعيدها، حتى أن ثمة زيادة في عددها لبعض الوجهات الأساسية التي يستخدمها اللبنانيون وخصوصا دبي وإسطنبول لكونهما محطتي ترانزيت لعدد من الركاب.

إقرأ أيضا: "لعبة الحرب" في اقتصاد لبنان: هل يأبه "حزب الله"؟

هذا الامر أكده ايضا رئيس الدائرة التجارية في شركة طيران الشرق الأوسط مروان الهبر الذي أشار الى أنه لم يطرأ اي تغيير على رحلات شركة طيران الشرق الأوسط - "الميدل ايست"، لا بل أضيفت إلى جدول شهري تموز/يوليو وآب/أغسطس ست رحلات يوميا غالبيتها من المانيا والدانمارك وإيطاليا وإسبانيا واليونان وقبرص، وإليها. تضاف الى هذه الوجهات، رحلات أسبوعية إلى مصر والأردن والكويت وقطر والامارات العربية المتحدة.

الفنادق: "مش ماشي الحال"!

صحيح أن القطاع السياحي ليس بأفضل أحواله منذ أعوام، على خلفية الأزمة الاقتصادية والمالية التي قصمت ظهر القطاع الخاص، بيد ان الحرب التي اندلعت في الجنوب جاءت لتهدد ما تبقى من مؤسسات سياحية عاملة، حيث بدأ يشهد بعضها اقفالات قسرية، فيما غالبيتها يشتغل بنصف طاقته، وخصوصا الفنادق التي تعمل على اغلاق أجنحة بأكملها توفيرا لفاتورتي الكهرباء والمياه، بما يستدعي حكماً خفض عدد الموظفين. 

فالتراجع الملحوظ في نسبة الإشغال الفندقي يبدو واضحا في بيروت التي كانت في الاعوام القليلة الماضية تراوح بين 50 و90 في المئة فيما اليوم تراوح بين 20 و40 في المئة كحد أقصى، أما نسبة الإشغال خارج المدينة فيقتصر على عطلة الأسبوع، ولكنها لا تتجاوز الـ 10في المئة، ونسبة صفر في أيام الأسبوع.

ثمة عوامل كثيرة تضافرت لتسدد ضربة قاصمة للشقق المفروشة، وفي مقدمها قطاع الـ "Airbnb" المنافس الجديد الذي بدأ يشكل "خطرا وجوديا" على الشقق المفروشة السياحية

وهذا التراجع أدى الى تراجع مداخيل الفنادق أكثر من 50 في المئة مقارنة مع العام الماضي، حسب ما يقول نقيب أصحاب الفنادق بيار الاشقر لـ"المجلة". ولعل من أبرز اسباب التراجع الذي يشهده القطاع الفندقي للعام الثاني، المنافسة الشرسة وغير المتكافئة مع مؤسسات الـ "Airbnb" التي سبق للأشقر أن رفع الصوت عاليا للحد من منافستها غير الشرعية، مطالباً بتنظيمها وإجبارها على دفع الرسوم والضرائب للدولة إسوة بالمؤسسات السياحية كافة.

الشقق المفروشة: "Airbnb" يقضي عليها

 لم يكن وضع قطاع الشقق المفروشة يوما بالسوء الذي يشهده حاليا. إذ لطالما كان القطاع حتى في أحلك الظروف ملاذاً للعائلات اللبنانية المغتربة والعربية وحتى الاجنبية، حيث كانت تصل فيه الحجوزات الى 80 و100في المئة، فيما حاليا لا تصل الى 20%.

رويترز
سياح يستجمون على الشاطئ في منطقة البترون، لبنان 21 يوليو 2024

بيد أن ثمة عوامل كثيرة تضافرت لتسدد ضربة قاصمة للشقق المفروشة، وفي مقدمها قطاع الـ "Airbnb" المنافس الجديد الذي بدأ يشكل "خطرا وجوديا" على الشقق المفروشة، وهو ما ينبه من تداعياته نقيب اصحاب هذه الشقق زياد اللبان الذي يشير الى أن الفوضى وعدم تنظيم قطاع الـ"Airbnb" اصابا الشقق المفروشة بمقتل، من دون ان يكون في مقدور الاخيرة منافستها نظرا الى التفاوت المريع في الضغوط المالية والضريبية بين القطاعين، فقطاع الشقق المفروشة يسدد ما عليه من الضرائب والرسوم، التي ارتفعت 30 ضعفاً، اضافة الى رسوم المياه والكهرباء، بينما مستثمرو الـairbnb  لا يسددون إلا اليسير منها.

أمام هذا الواقع، وفي ظل تدني نسبة الاشغالات وارتفاع التكلفة، بدأت بعض المؤسسات تعمل بنصف طاقاتها، فيما تدرس مؤسسات أخرى جديا مقاطعة تسديد الرسوم البلدية وفواتير الكهرباء والمياه. ففواتير الكهرباء تتجاوز مئات الملايين من الليرات بسبب الرسوم التشغيلية، أما المياه فلا تتوافر الا ساعتين كل 3 ايام، بفواتير تناهز الـ 300 مليون ليرة سنوياً.

ما حدث في 7 أكتوبر وما تلاه من عمليات عسكرية، أثَّرَ كثيراً على السياحة في لبنان، واقتصرت أعمالنا على 8 أيام فقط خلال عيدَي الميلاد وراس السنة، وكلما اقتربنا من الجنوب اصبح الوضع مزريا أكثر

طوني الرامي، نقيب اصحاب المطاعم والملاهي والمقاهي والباتيسري في لبنان

وكما حال الفنادق والشقق المفروشة، تراجعت الحركة في المنتجعات البحرية والمسابح من 40 إلى 50 في المئة مقارنة بالعام الماضي، أما حركة المطاعم فتراجعت ايضا بدليل ان مداخيلها انخفضت 30 في المئة.

وفي السياق، يأسف نقيب اصحاب المطاعم والملاهي والمقاهي والباتيسري في لبنان طوني الرامي إلى الحال الذي وصل اليه القطاع السياحي منذ عامين على التوالي، فالقطاع في رأيه هو "الذي اعاد لبنان الى الخريطة العالمية وذلك بفتح 300 مؤسسة دون اي قروض او موارد. حتى بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب من العام 2020، استطاعت المؤسسات السياحية ان تعيد بناء نفسها دون تعويض شركات التأمين، وبات الجميع يتساءل كيف لقطاع سياحي ان يتألق بهذا الشكل في بلد يعاني من كل هذه الازمات".

يضيف الرامي، "أن ما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الاول الماضي في غزة وما تلاه من عمليات عسكرية، أثَّرَ كثيراً على السياحة في لبنان، واقتصرت اعمالنا على 8 ايام فقط خلال عيدَي الميلاد وراس السنة"، و"كلما اقتربنا من الجنوب أصبح الوضع مزريا أكثر، متنزهات ومطاعم جزين وصيدا وصور تضررت كثيرا جراء الحرب".

رغم كل التحديات في هذا الصيف، ثمة اصرار لدى اصحاب الملاهي والمطاعم لإنجاح الموسم كما حصل في صيف 2023. لكن التهويل بالحرب لا يزال يفعل فعله في المغتربين، خصوصا مغتربي قارتي اميركا والبرازيل البعيدتين وغيرهما، "هذه الفئة لم تأت الى لبنان بسبب بعد المسافة، بينما أتى لبنانيو المغتربات العربية كالمعتاد، الذين لديهم منازلهم".

شبه غياب للسائح الاوروبي والمصري والأردني والخليجي، بما أضعف الموسم الصيفي، إذ تراجعت الحركة في المطاعم نحو 30%

ولا يخفي الرامي أن "ثمة شبه غياب للسائح الاوروبي والمصري والأردني والخليجي، بما أضعف الموسم الصيفي، إذ تراجعت الحركة في المطاعم نحو 30% عن السنة الماضية وخصوصا في النصف الاول من شهر يوليو/تموز، بما أدى بالتالي الى تراجع مداخيل المؤسسات بنحو 30%". 

ويصف الرامي حال الدورة السياحة بشكل عام بعبارة "يرثى لها"، فنشاط مكاتب السيارات والفنادق وبيوت الضيافة وحتى الادلاء السياحيين، يمكن ربطهم بنشاط المطاعم".

تعثر أكبر المهرجانات الصيفية

ربطاً بالسخونة العسكرية في الجنوب والإقليم، ولعدم قدرة منظمي المهرجانات الفنية الصيفية الكبرى، على استقدام مطربين وفرق فنية عالمية، ناهيك عن الحذر الأمني من تحمل مسؤولية حشد عشرات الألوف من المواطنين في مكان واحد، سارعت عدة مهرجانات إلى إلغاء برامجها المقررة مثل: مهرجانات بيت الدين، وصور وجزين وزحلة وغيرها، فيما توقفت جميع الأنشطة الفنية في محافظتي الجنوب والبقاع وبعض بيروت.

أ.ف.ب.
شباب يغنون خلال الحفل الأول للفرقة كايروكي المصرية في لبنان، مهرجان بيبلوس الدولي، في جبيل، 19 يوليو 2024

وفيما أعلنت لجنة مهرجانات بعلبك الدولية إلغاء مشاريعها الفنية وحفلاتها في قلعة بعلبك التاريخية، اقتصر نشاطها على حفلين فقط، أقيما في وسط العاصمة بيروت، حمل الحضور الحاشد فيهما دلالات على ميل اللبنانيين الى تحدي الحرب وارتداداتها، والجهر بالتوق إلى السلام والأمان ولحظات الفرح المسروقة منذ عقود.

font change

مقالات ذات صلة