نوتردام باريس... ملحمة إعادة ترميم الكاتدرائية الأيقونية ذات الجذور العربية

فخر فرنسا وجزء من هويّتها الوطنية وصلتها بـ"قلب لوزة" السورية

AFP
AFP
كاتدرائية نوتردام في باريس

نوتردام باريس... ملحمة إعادة ترميم الكاتدرائية الأيقونية ذات الجذور العربية

مع انتهاء اعمال إعادة ترميم كاتدرائية "نوتردام باريس" في قلب العاصمة الفرنسية، تكتب المؤرخة البريطانية المعروفة ديانا دارك عن رحلة إعادة الترميم هذه، وتعود إلى جذور هذا المعلم التاريخي وصلته بالمشرق العربي. دارك هي مؤرخة ثقافية متخصصة بالشرق الأوسط، ولها مؤلفات عدة من بينها "السرقة من المشرقيين: كيف شكلت العمارة الإسلامية أوروبا"، ويصدر لها في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 كتاب "العمارة الإسلامية: الحرفيون المنسيون الذين بنوا معالم أوروبا في القرون الوسطى". هنا نص المقال.

قاربت الانتهاء، عملية إعادة ترميم كاتدرائية نوتردام باريس، الكاتدرائية القوطية الأشهر في فرنسا، في الوقت المحدد ومن دون أن تتجاوز الميزانية المقررة لها، على الرغم من التأخير الذي فرضه وباء كوفيد19. في حلول الصيف الحالي، ستزال السقالات الخارجية، بحيث يتمكن زوار دورة الألعاب الأولمبية في باريس من 26 يوليو/تموز إلى 11 أغسطس/آب من الاستمتاع برؤية الواجهات الخارجية المألوفة، وستنتهي أعمال الترميم الداخلية، بحيث تكون جاهزة لقداس الأحد عند إعادة الافتتاح الرسمي في 8 ديسمبر/كانون الأول.

عندما وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للمرة الأولى أمام ركام الكاتدرائية المشتعل في أبريل/نيسان 2019 وتعهد للأمة الفرنسية على الهواء مباشرة قائلا: "سنعيد بناءها خلال خمس سنوات، كلنا معا"، بدت تلك مهمة مستحيلة. فكيف تمكن الفرنسيون إذن من تحقيق هذا الإنجاز؟ يمكن تلخيص الإجابة في ثلاث كلمات: القيادة، والمال، والقوى العاملة. كانت القيادة ملهمة، وعلى الرغم من أن الجنرال الفرنسي الذي عين في الأصل لتولي المسؤولية الشاملة قد قُتل بشكل مأسوي في حادث أثناء ممارسته رياضة المشي في العام الماضي، فقد عُيّن بديل له بسرعة، وهو أيضا ذو خلفية عسكرية من وزارة الدفاع. كما تدفقت أموال كثيرة من خلال التبرعات العامة، حتى أنه سيكون هناك الكثير من الأموال الفائضة للصيانة في المستقبل. وأخيرا، بُذلت جهود حثيثة لتوظيف مهندسين ومعماريين وحرفيين ممن هم على أعلى مستوى في مجالاتهم.

الأكثر كفاءة يعملون بشكل أسرع، وهذا ليس أمرا جديدا. في صقلية، عندما استولى النورمانديون على المدينة "العربية" باليرمو، وأمروا ببناء كاتدرائيتها في موقع المسجد السابق، اكتمل بناؤها خلال عام واحد، وذلك للأسباب نفسها. كان النورمانديون يمتلكون المال، وكانوا يعرفون حجم وأبعاد ما يريدون بناءه، ووظفوا عمال البناء والمهندسين والنجارين العرب ذوي الكفاءات العالية الذين صُقلت مهاراتهم حدّ الكمال وتناقلتها أجيال عدة.

أحضر النورمانديون نموذج التصميم الرئيس معهم من سوريا وفلسطين، وأحضروا معه بلا شك خيرة البنائين السوريين الذين قاموا ببنائه

طريق الحج المسيحي

ولعل الأمر سار على المنوال نفسه عندما بدأت أعمال البناء في نوتردام باريس للمرة الأولى منذ نحو ألف عام، حين جمع الفرسان النورمانديون وأساقفتهم، الذين أثروا من الغنائم التي غنموها خلال الحروب الصليبية والضرائب من الأراضي التي استولوا عليها للتو في الأندلس، خيرة الحرفيين المتاحين، مما مكن الكاتدرائية من الارتقاء بسرعة وفقا لمعايير ذلك العصر. تأثر الصليبيون خلال حملاتهم في سوريا وفلسطين بشكل كبير بأنماط مختلفة من العمارة المسيحية المبكرة. كان البرجان التوأم اللذان يحيطان بالواجهة الضخمة، هما نموذج التصميم الرئيس الذي أحضروه معهم من سوريا وفلسطين، وأحضروا معه بلا شك خيرة البنائين السوريين الذين قاموا ببنائه. وكان موقع الحج الأشهر الذي جذب اهتمامهم هو كنيسة القديس سمعان، على قمة تل شمال غرب حلب، بالإضافة إلى سلسلة من الكنائس المبنية من كتل منحوتة بشكل جميل من الحجر الجيري المحلي، على طول طريق الحج من ميناء أنطاكية القديمة (أنطاكية الحديثة تقع جنوب شرق تركيا اليوم).

كان الغرض من هذه الكنائس هو الترحيب بالحجاج وجعلهم يشعرون بأنهم وصلوا إلى مكان مميز، ولهذا السبب أيضا بدأ تزيين واجهات المعالم البارزة باستخدام فنون النحت الجميلة. من بين كنائس الحج هذه، واحدة تقع في سوريا وهي من أفضل الكنائس المصونة التي تعرف اليوم باسم "قلب لوزة"، وهي لا تزال قائمة في قرية درزية تحمل الاسم نفسه في شمال غرب سوريا. تعلو أبراجها بارتفاع ثلاثة طوابق، ويقود مدخلها الضخم المواجه للغرب إلى صحن الكنيسة المستطيل المحاط بممرات جانبية، كنسخة اصغر مشابهة تماما لكاتدرائية نوتردام باريس. ليس هذا فقط، بل إن الجودة الفائقة لأعمال البناء الحجرية السورية، التي جاءت نتيجة قرون من التجريب حيث كان الحجر الجيري المحلي يعتبر مادة البناء الأكثر وفرة وديمومة، لا تزال ظاهرة للعيان في البوابة الجنوبية الغنية بالزخارف في قلب لوزة، وكذلك نجد تلك الجودة في تاج حجري في كاتدرائية القديس سمعان القريبة، حيث نحت البنّاء أوراق نبات الأقنثة بدقة ومهارة كي تبدو كأنها تتمايل مع الرياح.

 Getty Images
كنيسة قلب لوزة في إدلب، سوريا في 4 نوفمبر 2022

إن البوابة الجنوبية لنوتردام متقنة بطريقة مماثلة، في حين يحتوي صحنها على مثل هذا التاج بالضبط، مما يشير إلى أن بنّاء سوريا ربما كان يعمل في نوتردام الأصلية. ربما كان واحدا من أمهر البنائين في الموقع، وقد سعى القائمون على البناء إلى توظيفه، مثل جميع الحرفيين المهرة، للعمل في أفضل مشروع مرموق في ذلك الوقت. صُنعت قوالب من الجص للعديد من تيجان نوتردام الأصلية التي تعود إلى القرن الثاني عشر في القرن التاسع عشر خلال فترة النهضة القوطية وعرضت في متحف فيكتوريا وألبرت في لندن.

تقنيات ثورية

يقع مبنى كاتدرائية نوتردام الضخم والمعقد، على جزيرته الخاصة في نهر السين في قلب العاصمة الفرنسية، ويمثل أحدث التقنيات في عصره، حيث استخدمت تقنية التغطية بالقباب الحجرية لتغطية صحن الكنيسة وهي تقنية ثورية، كانت قد ظهرت في العالم الإسلامي. في قرطبة الإسبانية، وفي باليرمو الصقلية، وهما العاصمتان العربيتان على الأراضي الأوروبية اللتان ازدهرتا حتى القرنين الحادي عشر والثاني عشر على التوالي، واللتان كانت ثقافتهما أكثر تعقيدا وأكثر تقدما علميا من أي منافس مسيحي لاتيني، تزخر تلك العاصمتان بالفعل بأمثلة على تقنية التغطية بالقباب المضلعة في المباني الإسلامية. ولا يزال مسجد قرطبة يحتوي على أضلاع لثلاث قباب مغطاة يعود تاريخها إلى القرن العاشر، نفذت باستخدام هندسة متقدمة جدا الى درجة أن الأكاديميين الإسبان الذين فحصوها في عام 2015 اعتبروها تحفة فنية. لم تكن بحاجة إلى إصلاح هيكلي طيلة فترة وجودها التي امتدت ألف عام.

 استلهمت في بناء "نوتردام باريس" كنيسة تقع في سوريا وهي من أفضل الكنائس المصونة التي تعرف اليوم باسم "قلب لوزة"

كان الأمويون في قرطبة قد جلبوا مهاراتهم في البناء في البداية من سوريا وعاصمتها دمشق، بعد تهجيرهم ونفيهم على يد العباسيين في بغداد عام 750. لم يكن لدى أي من البنائين الأوروبيين مثل تلك المعرفة في ذلك الوقت، ولم يكتسبوها إلا تدريجيا من البنائين العرب بدءا من القرن الثالث عشر فصاعدا، وفي الوقت نفسه تقريبا بدأت أسماء المهندسين المعماريين والبنائين الرئيسيين، الذين كانوا في السابق مجرد أشخاص مجهولين، في الظهور في الأرشيفات المسيحية كي ينالوا الفضل والتقدير. وحتى اليوم، فإن عدد الكلمات الإسبانية المشتقة من اللغة العربية في هذا المجال (مثل ""alarif"العريف" بمعنى مهندس معماري، و""albaňil"الباني" بمعنى البنّاء، و"ataba" "الطبة" بمعنى القرميد، و "adoquín""الدكة" بمعنى حجر الرصف، و "andamio" بمعنى السقالات)  يشير إلى الهيمنة العربية على عالم البناء في العصور الوسطى.

Getty images
قلعة سمعان في سوريا

تعرضت السقوف المقببة الحجرية لكنيسة نوتردام، التي أعيد بناؤها الآن، لأضرار جسيمة عندما تحطم السقف الخشبي المقبب المغطى بالرصاص الثقيل أثناء الحريق والذي يعد أيقونة فنية، لكن الزخارف على الواجهة الغربية لم تصب بأذى لحسن الحظ. وهي الأخرى تعدّ شاهدا على التصاميم الزخرفية الدقيقة المستمدة من سوريا وفلسطين التاريخيتين. وقد شوهدت أقواسها المدببة والثلاثية للمرة الأولى في قبة الصخرة في القدس، وهو الضريح الإسلامي الذي بني عام 690 واعتمده فرسان الهيكل الصليبيون رمزا لهم. وقد صكوه على عملاتهم المعدنية، عندما أخطأوا الظن واعتبروه هيكل سليمان، بينما عثر على أقدم مثال للنافذة الوردية المزخرفة في قصر هشام الأموي في القرن الثامن بالقرب من أريحا، في الضفة الغربية المحتلة الآن.

روح تنافسية

كل هذه الأساليب والتقنيات، المنسوخة من نماذج الشرق الأوسط التي تعتبر مقدسة، المسيحية والإسلامية على حد سواء، انتشرت في جميع أنحاء أوروبا عبر الكنائس على طول طريق الحج في سانتياغو دي كومبوستيلا في شمال غرب إسبانيا. ثم شهدت تلك الأساليب تطويرا إضافيا في الكاتدرائيات القوطية في أوروبا، بدافع المنافسة الشديدة بين الأساقفة ورؤساء الأديرة والملوك، الذين حرصوا جميعا على أن يُخلدوا في هذا العالم وفي العالم الآخر من خلال إرثهم المعماري المميز، وغالبا ما أقحموا أنفسهم في سرديات الأجيال القادمة، أحيانا من خلال النوافذ الزجاجية الملونة مثل رئيس الدير "سوغر" الذي أشرف على إعادة بناء كنيسة سان دوني، والذي عمل على التبشير بها باعتبارها "مسقط رأس" العمارة القوطية، أو في أحيان أخرى من خلال التماثيل على واجهات الكاتدرائيات، غالبا بصحبة القديسين والأنبياء.

 كم سيكون رائعا لو اتضح أن فريقا صغيرا من كبار الحرفيين السوريين لعبوا بالمثل دورا في إعادة بناء هذه الكاتدرائية العظيمة

واليوم، في عملية ترميم كاتدرائية نوتردام في القرن الحادي والعشرين، تظهر الروح التنافسية عينها. تقدم الحرفيون من جميع أنحاء العالم حرصا منهم على أن يكونوا جزءا من فرصة العمر للمساعدة في ترميم هذا المعلم الأثري المشهور عالميا. يشارك زهاء ألف شخص، بعضهم في الموقع، وبعضهم في ورش عمل منتشرة في جميع أنحاء نورماندي، مع ما لا يقل عن مئة بنّاء، ومئة وخمسين نجارا، ومئتي عامل بناء سقوف.

AFP
نوتردام في باريس بعد الحريق الذي دمر الكاتدرائية في أبريل 2019

في الأفلام الوثائقية التي تعرض بانتظام، في مواكبة لأعمال الترميم، ينصب التركيز على المهندسين المعماريين والخبراء الفرنسيين الفخورين الذين يتصدرون المشروع. وتحرص فرنسا، المشهورة بالعلمانية، على تصوير ترميم أثمن مبانيها الدينية باعتباره انتصارا للهوية الوطنية الفرنسية، ومع ذلك، فالحقيقة هي أنه ليس كل كبار الحرفيين فرنسيين، أو حتى مسيحيين. على سبيل المثل، ظهرت قصص في وسائل الإعلام الأميركية عن فريق صغير من النجارين الأميركيين، بعضهم من أصل يهودي، الذين استخدمت خبرتهم في تصنيع عوارض سقف صحن الكنيسة المأخوذة من خشب البلوط. ينتمي هؤلاء إلى منظمة "نجارون بلا حدود" غير الحكومية، ومقرها فرنسا، التي ينتمي أعضاؤها إلى 25 جنسية مختلفة. كم سيكون رائعا لو اتضح أن فريقا صغيرا من كبار الحرفيين السوريين لعبوا بالمثل دورا في إعادة بناء هذه الكاتدرائية العظيمة، كي تكتمل الحلقة ويعيد التاريخ نفسه.

font change

مقالات ذات صلة