نتنياهو أمام الكونغرس: هل تفلح براعة الكلام في الالتفاف على الحقائق؟

كال المديح لترمب وبايدن واكتفى بالتعاطي الأمني مع "المشكلة" الفلسطينية

أ ف ب
أ ف ب
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتحدث في اجتماع مشترك للكونغرس في مبنى الكابيتول بواشنطن، 24 يوليو

نتنياهو أمام الكونغرس: هل تفلح براعة الكلام في الالتفاف على الحقائق؟

على مدى 45 دقيقة شابها الكثير من التصفيق من أعضاء "الحزب الجمهوري" غالباً، القى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خطاباً مبهراً دعائياً لكنه فقيرا سياسياً، أمام جلسة مشتركة للكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ. في خطابه الرابع هذا أمام الكونغرس (ما من زعيم اجنبي حظي بهذا العدد من الخطابات) الذي قاطعه أكثر من 60 نائباً ديموقراطياً، وغابت عنه نائبة الرئيس، كاملا هاريس، بسبب الانشغال بحملتها الانتخابية، منح نتنياهو، المعروف بمهاراته الخطابية العالية ومعرفته الممتازة بالسياسة في أميركا، جمهوره من البرلمانيين، الجمهوريون على الأخص، الكثير من لحظات الحماسة ومقاطعة الخطاب تأييداً. استنفر الرجل قيماً أميركية أساسية وربطها بقصة اسرائيل كدولة: الإيمان بالديموقراطية وضرورة الدفاع عنها، النجاح الاقتصادي القائم على مبادرات الأفراد وإبداعهم، الروح الوطنية التي تبرز في أوقات الأزمات إلخ... على مدى دقائق طويلة تحدث نتنياهو عن أهوال السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مستعرضاً اسماء بعض الاسرائيليين من مختطفين أطلق سراحهم وجنود قاتلوا في ذلك اليوم، وهم يقفون واحداً تلو الأخر في قاعة الكونغرس ليتلقوا تصفيق الحاضرين وإطراء رئيس حكومتهم عليهم. كان الغرض من أسلوب الاستعراض هذا، المُستعار من تقاليد خطابات حالة الاتحاد الأميركية، إحياء التعاطف الرسمي والشعبي الأميركي مع إسرائيل، المتراجع كثيراً على مدى أشهر بعد ذلك اليوم، وإعادة ربط السابع من أكتوبر الإسرائيلي، في ذهن الجمهور في القاعة وخارجها، بالحادي عشر من سبتمبر الأميركي..

أ ف ب
لحظة اعتلاء نتنياهو المنبر للتحدث أمام اجتماع مشترك للكونغرس في مبنى الكابيتول الأميركي، 24 يوليو

وضع الرجل كل هذا ببراعة خطابية لافتة في سياق محاججته السياسية الضمنية التي لم يصرح بها بوضوح وهي أن حرب غزة طويلة، ليس لها نهاية قريبة في الأفق، لأن "إسرائيل ستقاتل" حتى تحقيق "النصر التام"، والذي عَرَّفه الرجل على نحو غامض ومفتوح بالقول: "حتى ندمر القدرات العسكرية لحماس ودورها في غزة ويعود الينا جميع مختطفينا". لكنه رَبطَ تحقيق هذا النصر المفترض بقرارات تسليح أميركية إذ قال: "أناشد أميركا أيضاً: أعطينا الأدوات على نحو أسرع وسننهي العمل على نحو أسرع". تزعج مناشدة كهذه إدارة الرئيس جو بايدن لأنها تكرر على نحو حرفي تقريبا ادعاءً مماثلاً أطلقه الرجل في تسجيل مصور الشهر الماضي وكذَبَّته الإدارة الديموقراطية وقتها.

يشير غياب الإطار السياسي للحل عن الخطاب والاكتفاء بالتعاطي الأمني مع "المشكلة" الفلسطينية إلى أن نتنياهو مهتم بكسب الوقت بالدرجة الأولى بانتظار ما ستفضي إليه الانتخابات الرئاسية الأميركية

وعلى الرغم من هذا النقد المغلف بالتهذيب الديبلوماسي، تضمن الخطاب الكثير من المدح لترمب وبايدن، الأول على إمضائه الاتفاقيات الإبراهيمية واعتباره القدس عاصمة لإسرائيل وإقراره قرارا إسرائيلياً بضم الجولان السوري، والثاني لدعمه إسرائيل في حرب غزة كجزء من تأييده الأوسع والدائم لإسرائيل بوصفه، حسب نتنياهو " صهيونياً من أصول أميركية- إيرلندية". بخلاف خطابه  أمام الكونغرس في عام 2015 الذي أغضب الديموقراطيين بسبب انتقاده الرئيس باراك أوباما على الصفقة النووية مع إيران، حرصَ رئيس الوزراء الإسرائيلي، هذه المرة، على ألا يبدو خطابه منحازاً حزبياً، إذ أكد على عمق الشراكة الأميركية- الإسرائيلية في إطار "العلاقة الخاصة" التي تربط البلدين. في موسم انتخابي أميركي ساخن وشديد التنافس، يستفيد نتنياهو من مظهر الحياد الخطابي كثيراً، في ظل غياب الوضوح بشأن هوية الشاغل المقبل للبيت الأبيض ، جمهورياً أو ديموقراطياً، بعد انتخابات نوفمبر.

أ ف ب
ناشطون يشاركون في احتجاج مؤيد للفلسطينيين بالقرب من مبنى الكابيتول احتجاجا على زيارة نتنياهو إلى واشنطن، 24 يوليو

وعلى الرغم من هذا الحياد، اتسق خطاب الرجل كثيراً مع الفهم الأيديولوجي السائد بخصوص الصراع الاسرائيلي- الفلسطيني  في أوساط كثيرة في "الحزب الجمهوري"، خصوصا اليمين المتشدد والمسيحيون الإنجيليون: صراع بين الإرهاب المحفز دينياً وثقافياً بقيم "متخلفة" وعدمية من جهة والتمدن المحفز بدوافع إنسانية ترتبط بالبناء والتقدم من جهة أخرى. 
منسجما مع نزوعه اليميني المتصاعد في تطرفه في ظل حكومة أقصى اليمين التي يقودها، اختصر نتنياهو النزاع الحالي على أنه صراع ضيق وشرس بين الخير والشر، بين إسرائيل التي تدافع عن مواطنيها وحقها في الحياة، و"حماس" التي تريد أن تقضي على الإثنين بوحشية بدائية. 

غاب في كل هذا التبسيط الأخلاقي المُضلل الذي انتزع الكثير من التصفيق في القاعة الفلسطينيون العاديون، الضحايا المدنيون الأكثر عدداً في حرب غزة،  كما غاب الطموح الفلسطيني المشروع بحق تقرير المصير المفضي إلى إنشاء دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة، وهو الموقف الرسمي لست إدارات أميركية على مدى  الثلاثين عاماً الماضية، من ضمنها إدارتا ترمب السابقة وبايدن الحالية. اختزل الرجل الفلسطينيين وآفاقهم المستقبلية بالحاجات الأمنية الإسرائيلية عندما منحهم جملة "واعدة" وغامضة في خطابه عن سيناريو غزة في "اليوم التالي" للحرب، تشترط كينونة منزوعة السلاح وخالية من التطرف كشرط لمستقبل من الاستقرار والرفاهية!  

ويشير غياب الإطار السياسي للحل، والاكتفاء بالتعاطي الأمني مع "المشكلة" الفلسطينية، بخلاف بعض التوقعات في واشنطن من أن في جعبة الرجل خريطة طريق سياسية يعلنها في الخطاب، إلى أن نتنياهو مهتم بكسب الوقت بالدرجة الأولى بانتظار ما ستفضي إليه الانتخابات الرئاسية الأميركية كي يقرر خطوته المقبلة. يعني هذا الاستمرارَ بالحرب في غزة على مدى الأشهر المقبلة، لكن في إطار عسكري منخفض الحدة يتجنب، بأقصى الممكن، سقوطَ ضحايا مدنيين فلسطينيين كي لا يثير انتباها إعلاميا وغضبا دوليا يفرض إنهاءً سريعاً للحرب.

لا يحظى نتنياهو بشعبية عالية في أميركا، اذ تنظر له بايجابية أقلية أميركية تبلغ 35 بالمئة فقط، وهي الأقلية التي تتضاءل على نحو مضطرد مع استمرار حرب غزة

تتسق هذه الخلاصة مع الرسالة التي بعثها إلى زعامة الكونغرس قبل يوم من إلقاء الخطاب، أكثرُ من 30 شخصية عامة إسرائيلية معروفة، بينهم زعماء أمنيون سابقون ورجال أعمال وأكاديميون مرموقون من ضمنهم حائز على جائزة نوبل. تتهم الرسالة، التي حظيت باهتمام إعلامي أميركي وإسرائيلي، نتنياهو بتقديم "مصالحه السياسية والشخصية الخاصة" (المتعلقة بإنقاذ حكومته من الانهيار وتجنب مواجهة القضاء الإسرائيلي على تهم الفساد الموجهة له) على "سلامة وأمن مستقبل إسرائيل والعلاقة الاستراتيجية الأميركية-الاسرائيلية". تصف الرسالة، التي بُعثت نسخة شبيهة لها قبل أشهر إلى كل من رئيس إسرائيل وزعيم الكنيست في سياق المطالبة بإقالة نتنياهو، سلوك رئيس الوزراء الذي يتعمد التأخير وكسب الوقت بالقول: "لقد أعاق نتنياهو تطوير استراتيجية عسكرية لإطلاق سراح الرهائن، ومنع إجراء نقاش حقيقي بخصوص الأهداف الاستراتيجية الوطنية للحرب، وتخلى عن المختطفين في غزة".


لا يحظى نتنياهو بشعبية عالية في أميركا، اذ تنظر له بايجابية أقلية أميركية  تبلغ 35 بالمئة فقط، وهي الأقلية التي تتضاءل على نحو مضطرد مع استمرار حرب غزة. على الأكثر سيغيب الرجل من الذاكرة الأميركية في خلال الأشهر المقبلة التي سيحتل فيها السباق الانتخابي الاهتمام الشعبي والإعلامي  والرسمي الأميركي، لكن غزة ومستقبلها وسياسة اسرائيل نحوها لن تغيب بسهولة، كما يتمنى نتنياهو ربما…

font change

مقالات ذات صلة