الرعاية الصينية لكأس أوروبا... المال مقابل إثبات الوجود

تغيير الصورة المتكرسة في العقل الجمعي

غيتي/المجلة
غيتي/المجلة

الرعاية الصينية لكأس أوروبا... المال مقابل إثبات الوجود

شهر كامل تسمر خلاله متابعو كرة القدم أمام شاشات التلفاز لمتابعة مباريات بطولة الأمم الأوروبية التي اختتمت بتتويج إسبانيا المستحق باللقب. الأهداف التي سجلها النجوم والقصص الإنسانية لرحلة صعود اللاعبين- أو سقوطهم- على أرض الملعب، مع تغطية لا تنقطع قدمتها وسائل الإعلام الناقلة للبطولة والمحتوى على شبكات التواصل الاجتماعي قدمت للمتابع عالما منفصلا قد يعاني من أعراض انسحابه بعد ختام البطولة.

إلا أن الإطار المحيط بالمستطيل الأخضر مثّل قصة بمفرده غابت عن دائرة الضوء وسط الزخم الكروي. الأسماء التي تظهر بشكل متكرر على شريط الإعلانات المحيط بكل ملاعب البطولة وفي خلفيات اللقاءات مع اللاعبين تقتحم تجربة المتابع شاء أم أبى. وفي هذه البطولة التي أقيمت في ألمانيا معقل الصناعة الأوروبية والبلد الذي قدم للعالم مجموعة من أهم علاماته التجارية، كان لافتا أن تغيب أغلبية هذه العلامات عن الحدث الكروي الكبير، بينما حلت محلها أسماء لم يكن مألوفا وجودها في الملاعب الكروية أتى معظمها من الصين.

بين الرعاة الرسميين الثلاثة عشر لبطولة أوروبا المنقضية كان للشركات الصينية نصيب الأسد بوجود خمس منها في قائمة الشركاء الرسميين للبطولة الذين تتصدر إعلاناتهم وشعارات شركاتهم المساحات الإعلانية خلال البطولة. الحضور الصيني في رعاية البطولة تنوعت روافده، فعملاق التجارة الإلكترونية الصيني "علي بابا" كان مصمما على تكثيف وجوده بالترويج لمنصتي الدفع والتسوق الإلكترونيين كل على حدة، مستعينا ببريق لا يخفت لنجم الكرة الإنجليزية ديفيد بيكهام كوجه لا يمكن منافسته في عالم الإعلانات سواء في أوروبا أو حتى في الصين التي صنع فيها نادي مانشستر يونايتد شعبيته الجارفة عندما اصطحب النجم الإنجليزي في جولات آسيوية نهاية التسعينات ومطلع الألفية.

الشاشات العملاقة التي عرضت منافسات البطولة لمئات الآلاف في مناطق المشجعين وفرتها شركة صينية أخرى هي "هايسنس"، التي عززت من وجودها في أحداث البطولة بتزويدها لحكامها بالشاشات المطلوبة لتقنية حكم الفيديو المساعد المثيرة للجدل دائما، لكن الرعاية الأكثر إثارة للانتباه ربما كانت من نصيب الناقل الرسمي للبطولة المقامة في بلد "مرسيدس" و"فولكسفاغن"، وهو الشرف الذي نالته "بي واي دي" الصينية التي تمثل بسياراتها الكهربائية الصداع الأكبر في رأس رائد تلك الصناعة وأغنى رجال العالم إيلون ماسك.

الرعايات الصينية للبطولة الأوروبية تبدو صفقة رابحة بمعطيات المكسب والخسارة لكل أطرافها، الاتحاد الأوروبي لكرة القدم تحقق له ما أراد بتخطي عوائد البطولة من الحقوق التجارية لحاجز الستمئة مليون يورو، وهو رقم يتخطى بكثير 520 مليون يورو أنتجتها النسخة السابقة التي وزعت مبارياتها بين عدد من دول القارة لكنها اصطدمت بقيود وباء كورونا التي خفضت من نسبة الحضور الجماهيري.

أما الشركات الصينية فيأتي وجودها في المحفل الكروي الأوروبي متسقا مع اعتبارات تسويقية في الداخل الصيني نفسه، حيث ارتفعت نسبة مشاهدة القنوات الرياضية الصينية بنسبة 45 في المئة منذ انطلاق البطولة منتصف الشهر الماضي، رغم فارق التوقيت بين الصين وألمانيا الذي يصل لست ساعات، مثلما يأتي متسقا مع أرقام نشرتها "على بابا" تقول إن استهلاك المنتجات المتعلقة بكرة القدم على منصتها الإلكترونية قفز بنسبة 80 في المئة في العام المالي الماضي، بينما قفزت مبيعات "هايسنس" في ألمانيا نفسها بأكثر من 50 في المئة في النصف الأول من العام الجاري. أما "بي واي دي" فربما لم تجد طريقة أفضل من أن تنقل بحافلاتها نجوما مثل كيليان مبابي، وكريستيانو رونالدو، لملاعب كأس أوروبا احتفالا بتفوقها على "تسلا" كأكبر موزع للسيارات الكهربائية في العالم في الربع الأخير من العام الماضي.

لكن الوجود الصيني المكثف في قائمة رعاة "يورو 2024" يحمل جانبا تسويقيا آخر يتحرك في خلفية الجهود الإعلانية التي تستهدف المستهلك بشكل مباشر. فظهور أسماء تلك الشركات بشكل متكرر، جنبا إلى جنب مع وجوه مثل بيكهام وغيره من نجوم المجتمع الأوروبي، يستهدف أيضا تغيير الصورة النمطية المترسخة في العقل الجمعي لكثير من الأوروبيين عن المنتجات الصينية كسلع رخيصة الثمن رديئة الجودة، خاصة عندما تظهر هذه الدعايات بشكل متواصل على ملاعب ألمانيا، البلد الذي يرتبط في ذهن المواطن الأوروبي نفسه بإتقان الصناعة إلى حد يلقب عنده منتخبها الكروي بالماكينات.

الوجود الصيني المكثف في قائمة رعاة "يورو 2024" يحمل جانبا تسويقيا آخر يتحرك في خلفية الجهود الإعلانية التي تستهدف المستهلك بشكل مباشر

إطلالة الصين في الملاعب الكروية برعايات شركاتها للبطولات ربما تمثل أيضا تعويضا للقوة الناعمة الصينية عن إخفاق لازم المشروع الكروي المحلي في تقديم الصين على ساحة اللعبة الشعبية الأولى. البلد الذي أصبح إحدى القوى الرياضية الكبرى عالميا في فضاء الألعاب الأولمبية لا يزال غير قادر على اقتحام مساحات النجاح في عالم كرة القدم.

والمشاركة الصينية اليتيمة في كأس العالم التي أتت عام 2002 لم تكن كافية لتقديم الصين كقوة كروية صاعدة ولا لإشباع حاجة الجمهور المحلي في أن تحتفظ بلاده بإطلالة مستمرة على الساحة الدولية مثلما فعل الجيران في كوريا الجنوبية واليابان، تماما مثلما تحول مشروع اجتذاب بعض النجوم الأوروبيين للدوري الصيني قبل سنوات إلى فقاعة تلاشت قبل أن تؤتي ثمارها بلفت أنظار العالم إلى الصين كبلد محب لكرة القدم يمكنه تقديم نهضته الحضارية من نافذة أكثر الرياضات متابعة حول العالم.

أ.ف.ب
ديفيد بيكهام يتحدث خلال المؤتمر السنوي السابع والعشرين لمعهد ميلكن العالمي في لوس أنجلوس في 6 مايو 2024

كما أن اللحظة التي تدخل فيها الصين عالم الرعايات الكروية بكثافة تتقاطع مع استثمار ملحوظ لمنافستها السياسية الولايات المتحدة في عالم الكرة. حيث بدأ صيف هذا العام بتنظيم بطولة أميركا الجنوبية على الملاعب الأميركية، وستستمر في لفت أنظار العالم خلال العامين المقبلين، أولا باستضافة نسخة موسعة من كأس العالم للأندية صيف العام المقبل. وثانيا باحتضان أكبر مونديال في تاريخ كرة القدم صيف 2026 بالاشتراك مع جيرانها المكسيك وكندا.

كما أن حاجة الصين لموضع قدم في تلك الساحة بما تحمله كرة القدم من ثقل جماهيري، وفي ظل غياب لتأثير مشروعها الكروي على الصعيد الرياضي تدفعها لتشجيع الظهور من بوابة الرعاة الرسميين الذين يمتلكون من الامتيازات- وأحيانا من النفوذ على صناع القرار- ما يجعلهم في قلب دائرة المؤثرين على اقتصاديات اللعبة ومساراتها في ظل وجود مئات الملايين من الدولارات على المحك.

رعاية الشركات الصينية لـ"يورو 2024" تضع أيضا أوروبا بقصد أو دون قصد في مأزق يشير إلى تباينات في موقف القارة من النفوذ الصيني

رعاية الشركات الصينية لـ"يورو 2024" تضع أيضا أوروبا بقصد أو دون قصد في مأزق يشير إلى تباينات في موقف القارة من النفوذ الصيني والتعامل مع العملاق الآسيوي وكياناته الاقتصادية بشكل عام، بين محاولة مقاومة التوغل الاقتصادي للشركات والبضائع الصينية في الأسواق وبين اعتبار ذلك أمرا واقعا يمكن فقط التربح من توابعه.

وبينما ملأت سيارات "بي واي دي" الصينية شوارع ألمانيا وهي تقل لاعبي المنتخبات الأوروبية وضيوف الاتحاد الأوروبي بين ملاعب البطولة، كانت المفوضية الأوروبية قد خلصت في تقرير لها إلى أن الشركة تستفيد من دعم مالي حكومي وصفته بـ"غير العادل" يضعها في منافسة غير متكافئة مع صناع السيارات الكهربائية الأوروبية، في وقت تتواصل فيه الاتهامات للشركة وغيرها من منظمات حقوقية غربية بالاستفادة من جهود عمالة قسرية من أقلية الإيغور المسلمة في صناعة الألومنيوم اللازم لمكونات تلك السيارات.

أ.ف.ب
جناح إعلاني مخصص لسيارات بي واي دي الصينية في ألمانيا على هامش بطولة يورو 2024

لم يعر الاتحاد الأوروبي لكرة القدم كثيرا من الانتباه لتحقيق تجريه المفوضية الأوروبية أيضا حول تقصير في تطبيق منصة "علي بابا" لقواعد حماية المستهلك الأوروبية في الوقت نفسه الذي ظهر خلاله ديفيد بيكهام في كل المحطات الناقلة للبطولة، مروجا للمنصة ذاتها. وربما كان النقاش حول الشراكات التجارية بين الكرة الأوروبية والكيانات الصينية ليشهد مزيدا من الزخم لو احتفظ تطبيق "تيك توك" برعايته للبطولة كما كان راعيا رئيسا في نسخة يورو 2020 قبل أن يصبح مادة لنزاع وصل إلى ساحات المحاكم في أوروبا والولايات المتحدة.

بدا الأمر في "يورو 2024" وكأن الشركات الصينية قد ملأت الفراغ الذي تركه إنهاء الاتحاد الأوروبي عقده مع راعيه الرئيس السابق "غاز بروم" شركة الغاز التابعة للحكومة الروسية بسبب الحرب في أوكرانيا.

ويبدو أن اعتبارات المنافسة السياسية والاقتصادية بين القوى العالمية لا تعني كثيرا المؤسسات الرياضية الدولية الباحثة عن تعظيم أرباحها من البطولات الكبرى، ما يفتح الباب أمام لوحات الإعلانات في تلك البطولات لتكون مسرحا لإثبات الوجود لا يقل أهمية بالمقارنة على أرض الملعب، خاصة إذا كان الأمر يتعلق ببلد كالصين لا يزال غير قادر على الجلوس على طاولة الكبار في مجال بشعبية كرة القدم إلا من بوابة الصفقات التجارية رغم كل ما وصل إليه من نفوذ سياسي واقتصادي.

font change

مقالات ذات صلة