في زمن مضى كانت الانتخابات الأميركية وسباق الخصوم ومناظراتهم المحمومة مادة خصبة للنقاش المعرفي الذي يتحقق بسبب الديالكتيك الحي، فكل مرشح يتقدّم ببرنامج يمثله مثلما يمثل الحزب الذي ينتمي إليه، فتقوم المناظرات الطويلة بين الديمقراطيين والجمهوريين ويحدث الصراع في تجليه الحاسم في السباق.
إنه صراع الأفكار. وكنا نراقب عبر المناظرة كيف يمكن تحويل التوجّهات إلى واقع معيش، وماذا سيفعل المرشّح عندما يدخل البيت الأبيض وكيف سيمضي بخططه لينقلها من عالم الانتخابات، أي عالم طرح الأفكار إلى مجال الحياة اليومية. لطالما كان صراع الجمهوريين والديمقراطيين محققا للديالكتيك، الذي لا يعني شيئا سوى تلاحم الأفكار وتصادمها وانتصار ما هو قابل للتطبيق والحياة واستفادة كل خصم من خصمه، من خلال المعرفة التشاركية. الحياة صراع أفكار وكذلك المعرفة، وتلك المناظرات العظيمة ليست سوى أداة لحك نقاط الضعف وإسقاطها.
هكذا كانت أميركا تصنع قادتها الذين جعلوا بلادهم عظيمة بحق، خلال القرنين الماضيين. سجالات كبيرة، مثل سجالات الفيديراليين والمناهضين للفيديرالية بُعيد الاستقلال حين رفض المناهضون المصادقة على الدستور، ومثل ذلك ما أعلنه المرشح إبراهام لنكولن من أنه سيمنع الرق إن هو فاز بالرئاسة في 1861. قرار أدّى إلى قيام الحرب الأهلية التي أدّت لاحقا إلى قتل لنكولن نفسه، لكنها حققت الكثير في ما يتعلق بالمساواة بين المواطنين. أو مناظرات وودرو ويلسون الذي وقفت بلاده في مطلع القرن العشرين في زمن ولايته ضد الاستعمار ومع الحركات التحرّرية في كل العالم. هذا كله قد ذهب الآن.
البراغماتية الأميركية نفسها كانت تعني معنى غير المعنى السائد اليوم
تبدو الانتخابات الأميركية اليوم حفلات مجهزة ومعدّة سلفا. مثال ذلك، انسحاب جو بايدن التراجيدي، وترشيحه لنائبته كامالا هاريس، يبدو أن هذه هي خطة الحزب منذ بداية السباق. الاحتفاظ بورقة في الكمّ تُستخدم عند الحاجة. إطلاق النار على الرئيس السابق دونالد ترمب بدا أنه يحسم المنافسة لصالحه، ولذلك كان لا بد من الرد بحركة تعيد التوازن كما يحدث في لعبة الشطرنج.
لا يقف الأمر عند هذا، بل يبدو المرشحون دمى مصنوعة في معامل خاصة، وهذه الدمى تعمل لخدمة مؤسسات معينة وتخدم لوبيات وأحزابا ومنظمات. وتدخل هذه الدمى في عراك بالأيدي بعضها مع بعض، صراع تديره أيادي أخرى تبدو أكبر من كل المسرح.
إنه لمن المؤسف أن يغيب العنصر المعرفي من سباق الانتخابات وتنزل لغة الحوار إلى مستوى التنابز بالألقاب بشكل فج وتسليط الضوء على العيوب الخلقية والشخصية وشخصنة الخلاف والسخرية من الهيئة، والغرق في قضايا هامشية. عندما تتابع الانتخابات الأميركية اليوم تجد حوارا مثلا عن الرجل المتحوّل جنسيا إلى امرأة، هل يُسجن إذا ارتكب جريمة في سجن النساء أم في سجن الرجال؟
والشعارات التي يرفعها المتنافسون وأحزابهم أصبحت شعبوية إلى حدّ كبير، وهذه الشعارات تخاطب الشعبويين من كل تيار. هذا كله انعكس على الجانب المعرفي الذي كان يحمسنا لمتابعة الانتخابات، يوم كنا نرى السجالات القانونية والدستورية والحِجاج في أكثر صوره واقعية. واقعية خرجت من الإطار الفلسفي الجاف المتعالي لتتحول إلى الجانب العملي البراغماتي. البراغماتية الأميركية نفسها كانت تعني معنى غير المعنى السائد اليوم، فقد كانت تعني خير الفرد يؤدي إلى خير الجماعة، وخير الجماعة يؤدي إلى خير الفرد. كل هذا قد ولّى الآن.