"أغنيات للعتمة" لإيمان حميدان... مرثية ممتدّة لأحلام النساء المجهضة

الاضطرار إلى العيش في الظل

إيمان حميدان

"أغنيات للعتمة" لإيمان حميدان... مرثية ممتدّة لأحلام النساء المجهضة

يُنهي القارئ رواية "أغنيات للعتمة" (دار الساقي) لإيمان حميدان بإحساس من ينتهي من قراءة مرثية طويلة، مرثية نساء حزينات حِيْلَ بينهن وبين أحلامهن، واضطررن إلى العيش في الظل. عنوان الرواية نفسه هو ترجمة لهذا الإحساس بالرثاء، فهو أغنية أو أغنيات أيضا، بينما العتمة هي تلك المنطقة التي عاشت فيها أربعة أجيال من نساء عائلة واحدة. الجدة شهيرة، وابنتها ياسمين التي ستموت مبكرا بعد إنجاب الحفيدة ليلى التي ستختفي قبل نهاية الرواية، ثم أسمهان ابنة الحفيدة التي ستروي الحكاية كلها، حكاية عائلتها، وخصوصا نساءها، وحكاية أجزاء من لبنان الذي يلوح في خلفية الأحداث وفي داخلها، فتلمسه المرثية هو أيضا، وتؤرخ لحروبه وتحولاته وعبثية الحياة فيه.

نحن تقريبا أمام رواية كلاسيكية تأخذ جاذبيتها وقوتها من قصص نسائها، ومن بيئاتهن التي تعلو فيها شخصيات الذكور على شخصياتهن وطموحات الذكور على طموحاتهن. الإجراء التحديثي الوحيد في الرواية هو أن المؤلفة تُمهد لها برسالة تكتبها أسمهان لصديقتها ويدا، وترسلها مع مخطوطة الرواية التي انتهت منها، داعية صديقتها التي كانت شاهدة على الفترة الأخيرة من الأحداث، إلى قراءة ما جرى من وجهة نظر الحفيدة التي صارت كاتبة، وها هي تسرد تاريخ عائلتها من خلال حيوات نسائها. الرواية هي مرثية ختامية مكتوبة عن مرثيات لم يُقيّض لها أن تُكتب بأيدي صاحباتها. إنها أغنية للجدة الكبيرة شهيرة التي تزوجت وهي في الخامسة عشرة، وشغلتها أمومتها عن أحلامها وعن حب صغير ومراهق عاشته في السر قبل زواجها. وهي أغنية عن الجدة ياسمين التي تزوجت في سن شهيرة تقريبا وماتت بنزيف ما بعد الولادة. وهي أغنية أكثر حزنا وأسى عن الحفيدة ليلى التي حظيت بحياة واعدة في البداية. درست وأحبت وخذلها حبها تاركا لها جنينا في بطنها، فاحتفظت به وأنجبته بزواجها التقليدي من صديق لخالها. ثم أغنية الجنين/ الأنثى التي سُميت أسمهان التي حالَ زواجها، كما في سِيَر من سبقنها، بينها وبين ما حلمت به. لقد لاحقتها "اللعنة" العائلية ذاتها، ولكنها على الأقل حصلت على الطلاق وهاجرت إلى أميركا. أما الأمر الأهم الذي حظيت به فهو أنها استأنفت من مكان ما ولع أمها ليلى بالكتب والقراءة، واستطاعت بالكتابة أن تنقل حياتها إلى الضوء، وتنقل معها حيوات من سبقنها من نساء العائلة اللواتي عشن في العتمة. لقد عاشت شهيرة وسكتت. وكذلك فعلت ليلى التي تحول سكوتها إلى اختفاء كامل. ثم جاء دور الابنة أسمهان لكي تتحدث – وإن بعد سكوتٍ مؤلم وطويل – وتسرد وتروي. إنها صوت الراوي في الرواية، وهي في موازاة ذلك مؤلفة الرواية وشخصية أساسية فيها أيضا. هذه "الحظوة الثلاثية" تجعل المواد والتفاصيل اللازمة للرواية في متناولها. كل ما عليها فعله كان أن تهاجر. أن تنقذ نفسها، وابنتها، من مصائر النساء اللواتي سبقنها. أن تبتعد وأن تلتفت إلى الوراء من مكان بعيد، أن تتذكر وتُعيد كتابة كل ما جرى.

نحن تقريبا أمام رواية كلاسيكية تأخذ جاذبيتها وقوتها من قصص نسائها

الكتابة بمفعول رجعي يزيد الأسى الذي كان موجودا أساسا في الأحداث، ويجعل له طبقة إضافية تتجول في السرد الذي يستعيد كل ذلك. القارئ في الأثناء يجد نفسه ملموسا بذاك الأسى الذي تختلط فيه آلام الشخصيات النسائية التي انسحقت طراوتها (الجسدية والنفسية) أمام جهل الذكور وعنفهم وعقلياتهم التقليدية. ننتبه طوال الرواية كيف أن الذكور ظلوا يهدمون ما كانت تحاول النساء أن يبنينه وأن يحلمن به. وكيف أن حياتهن صارت ممهورة بالفقد وضآلة الحب والتواصل الحقيقي. جزءٌ من الرواية موجود هنا فعلا. في أن العائلة لم تكن عائلة ملمومة على بعضها. حتى الشخصيات النسائية كانت تخضع – عن دراية وخبرة ذاتية سابقة – لما سيحدث للأجيال التالية من نساء العائلة، وخصوصا في مسألة الزواج التي كانت بمثابة مقبرة لكل واحدة تالية. 
هناك دراما هائلة في مجريات الرواية، لكن لغة الرواية تلجم الصوت العالي والفجائعي لهذه الدراما. هناك تعمّد أن يكون في السرد خليطٌ من التماهي مع الشخصيات وبين نوع من الحياد الضروري كي تُمنح القارئ فرصة أن يتحسس بنفسه هذه الدراما من دون ميوعة عاطفية أو ميلودراما تضامنية ساذجة مع الشخصيات. لعلّ الحل الذي ساهم في جعل هذا الخليط ممكنا هو الإجراء التقني الذي بدأت به الرواية، وهو الرسالة التي احتوت على نبذة خاطفة حول شخصيات الرواية ومآلاتها. كان ذلك أشبه بكسر الايهام أو التغريب الذي نجده عادة في بعض المسرح البريختي، حيث يمكن سردُ المجريات ومعايشتها من الداخل مع إمكان النظر إليها ومراقبتها والحكم عليها من الخارج. الرسالة نفسها ستجد تتمة لها في ختام الرواية، حين "تقرر" أسمهان أن تروي الفصل الأخير من الرواية بضمير المتكلم، فتحصل على دور الراوية ودور المؤلفة معا. 


هناك في نيويورك سنة 1982 تنتهي الرواية التي بدأت في سنة 1908، وهناك تبدأ نواة حياة جديدة بعد مغادرة المكان الأول وفقدانه في لبنان. كأن الرواية تَعِدُ بطلتها وراويتها الأخيرة بفرصة للنجاة والبدء من مكان آخر، بينما تظل تلاحقها أطياف نساء عائلتها اللواتي سيتحولن إلى شخصيات في هذه الرواية، وربما في روايات تالية أيضا في حال كانت فرصة أسمهان في النجاة كافية لتكون كاتبة مواظبة باستمرار على الكتابة. 
الكتابة، ومعها القراءة، تبدو نوعا من الحل للهروب من الواقع الذي عاشته شخصيات الرواية. وحضر هذا بشكل كثيف مع ليلى التي كانت تأخذ استراحات من عنف زواجها مع الكتب. "لقد استعاضت ليلى عبر القراءة وبعض الكتابة عن الحياة. تقضي بضع ساعات من النهار في غرفتها وهي تقرأ. تحمل قلم رصاص وتدوّن على صفحات الكتاب انطباعاتها وأسئلتها". حاولت ليلى تغيير مصيرها من طريق الكتب ولكنها لم تنجح، ومن طريق الحب مع يوسف الذي حملت منه ولكنها لم تنجح. وكان عليها أن تقبل بالزواج. الزواج والإنجاب أجهضا فرصة أن تُكمل تعليمها، ومنعاها أيضا من مواصلة الشغف بالقراءة. هناك هجاء شديد للزواج في سير نساء الرواية. كلهن تزوجن مبكرا. أنجبن مبكرا. علقن مع أزواج سيئين (في حالة ليلى وأسمهان) أو تقليديين (في حالة شهيرة) أو عديمي الالتزام الأبوي (في حالة ياسمين). 

 الكتابة، ومعها القراءة، تبدو نوعا من الحل للهروب من الواقع الذي عاشته شخصيات الرواية

أربع نساء يُذكرننا بالرقم أربعة الذي كان عدد نساء رواية إيمان حميدان الأولى "باء مثل بيت مثل بيروت". وكما في الرواية الأولى نجد تلك الرضّة النفسية والجسدية والعاطفية، تلك الصدمة التي ضربت حياة النساء في الروايتين، وقضت على أي أمل بالخلاص. مع ذلك واصلن حيواتهن الصعبة، متخلياتٍ بنسب مختلفة، عن أي سعادة واعدة أو فرح ممكن.
لعلّ قوة رواية "أغنيات للعتمة" موجودة هنا، في هذا المزيج من الصدمة ومن إعادة كتابتها. هناك مرارة ممزوجة بعذوبة جنائزية تحول الكتابة ذاتها إلى شكل من أشكال التطهير والمواساة. الرواية تجمع كل ذلك وتصيب القارئ بتلك المرارة العذبة التي تتقلب بين سرد الحيوات الأليمة لنساء الرواية، وبين إعادة الاعتبار إليهن بالكتابة.

font change

مقالات ذات صلة