تونس الخضراء تدخل سباق "الهيدروجين الأخضر"

إنتاجه صار عنوانا للديبلوماسية الأوروبية في شمال أفريقيا ولا يخلو من أخطار وتحديات

Lina Jaradat
Lina Jaradat

تونس الخضراء تدخل سباق "الهيدروجين الأخضر"

دخلت تونس رسميا سباق استقطاب الاستثمارات لإنتاج الهيدروجين الأخضر وتصديره، وذلك بعد توقيع مذكرتي تفاهم، الأولى مع مجمع "توتال إنرجيز" والمجمع النمسوي "فريوند" باستثمارات تقدر بنحو 40 مليار يورو، هي الكبرى في تاريخ البلاد، والثانية مع مجمع "أكوا باور" السعودي بتكلفة استثمارية إجمالية تناهز 6.2 مليارات دولار.

وتقدر الاستراتيجيا التونسية للهيدروجين الأخضر أن يصل حجم التمويلات المطلوبة لتنفيذ خططها الهيدروجينية أو "وادي الهيدروجين" التونسي الى 117.2 مليار يورو (127 مليار دولار) بما يعادل الضعفين ونصف ضعف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد البالغ 48.5 مليار دولار.

وضعت المذكرتان الموقعتان قبل شهرين، اللبنة الأولى لخريطة طريق طموحة تهدف الى تحويل تونس الى مركز إقليمي جاذب للاستثمار في إنتاج الهيدروجين الأخضر، بما من شأن أن يؤهلها للتحول الى لاعب أساس في المنطقة من خلال التموضع كأحد أهم مزودي أوروبا من هذا الوقود. هذا تحديدا هو جوهر المذكرة الأولى الموقعة مع "توتال إنرجيز" و"فرويند" التي تستهدف إنتاج 8.3 ملايين طن من الهيدروجين الأخضر سنويا في أفق عام 2050.

وتفتح المذكرة الثانية مع "أكوا باور" الباب لتوطين إنتاج مشتقات الهيدروجين الاخضر، التي حددت سقف انتاج 600 ألف طن من الهيدروجين الاخضر سنويا، وخصوصا مادة الأمونيا المهمة لتصنيع الأسمدة التي تستوردها تونس بالكامل، ومع تقلبات السوق والندرة وصعوبات توفير التمويلات تحولت الى صداع متواصل بين السلطات والمزارعين خلال السنوات الاخيرة.

وصف تقرير حديث لصندوق النقد الدولي كثافة الاستثمارات في انتاج الهيدروجين الأخضر التي يشهدها العالم، بطفرة "عقد الهيدروجين"

وتونس التي كاد أن يفوتها الركب في هذه السوق الواعدة نظرا الى التحاقها المتأخر بالسباق مقارنة ببقية دول شمال أفريقيا على غرار مصر والجزائر والمغرب وموريتانيا، صادقت في أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم على استراتيجيتها الوطنية للهيدروجين الأخضر والتي اعتمدت فيها على الاستخراج الأخضر القائم على التصدير بنسبة تتجاوز الـ 90 في المئة من حجم الانتاج.

يهدف هذا التوجه، بحسب الخطاب الرسمي، الى الاستفادة من الطفرة التي يشهدها العالم في الاستثمارات الموجهة للهيدروجين الأخضر، وهي طفرة وصفها تقرير حديث لصندوق النقد الدولي بـ "عقد الهيدروجين". 

Shutterstock
منطقة الشمال التونسي

لكن البحث عن الاستفادة من هده الطفرة وان كان سيدفع السلطات التونسية تسريع تنفيذ سياسات الانتقال الطاقي المتعثرة، فانه لا يخلو من أخطار وتحديات بالغة التعقيد على مختلف المستويات البيئية والاجتماعية والسياسية، الناجمة عن آثار التصنيع واسع النطاق للهيدروجين الأخضر، وعلى مستوى" قيادة التكنولوجيا" وأيضا على مستوى الأطر التشريعية والتنظيمية والبنى التحتية والتمويلات التي ستمر بالضرورة تحت أنظار البرلمان الذي بدأت تتشكل داخله غالبية مؤيدة للسيادة على الطاقة ومعارضة للحضور الأوروبي القوي في المشهد الطاقي التونسي.

 فقد شهد البرلمان التونسي منذ شهر يونيو/حزيران المنصرم نقاشات حادة ومعارضة للتمديد لاتفاقيتي استغلال حقلين نفطيين ممنوحين لشركتين أجنبيتين، وسط تصاعد دعوات ومطالبات لـ "تأميم" الثروات الطبيعية الوطنية.

ستكون تونس أهم موقع في العالم لشركة "توتال إنرجيز" لتطوير الهيدروجين الأخضر

وائل شوشان، كاتب الدولة المكلف بالانتقال الطاقي

وكان جليا وجود حرص رسمي على إبعاد ملف الهيدروجين الأخضر عن دائرة الضوء نظرا الى حساسيته المطلقة، أولا باعتباره في قلب تغييرات جيوسياسية مرتبطة باتفاقات والتزامات مع الجهات المالية الدولية المانحة، وثانيا لحسابات سياسية انتخابية (الانتخابات الرئاسية مقررة في 6 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل)، وأخيرا تحسبا من أي ارباك قد يتسبب به الحراك الاحتجاجي الرافض مثل هذه المشاريع وكان مؤثرا في تعطيل تقدم انتقال الطاقة، ويحسب بكونه أحد أسباب التراجع الكبير في مردود الحقول النفطية.

مشاريع عملاقة

تعتبر مذكرتا التفاهم الموقعتان مع الجهتين الأوروبية والسعودية خطوة تونسية عملاقة للتموضع في سوق الهيدروجين الذي يصفه تقرير صادر في فبراير/شباط 2023 عن "المركز الأطلسي" (مركز بحوث أميركي مقره واشنطن) بفرصة لدول شمال أفريقيا "لا يجب التغافل عنها". كما يتوقع التقرير أن يحول الاستثمار الأوروبي دول شمال افريقيا الى أكبر منتج للهيدروجين الأخضر في العالم. 

تظهر تونس في قلب هذا التطورات وعلاقات التبادل التجاري الجديد بين دول الشمال والجنوب، إذ يتطلع المشروع التونسي – الأوروبي إلى انتاج 200 ألف طن من الهيدروجين الأخضر كمرحلة أولى في أفق 2030 ستوجه للتصدير إلى أوروبا بقيمة استثمارات تقدر بنحو 8 مليارات يورو. ويهدف في مرحلته الأولى تركيز 5 آلاف ميغاواط من الطاقات المتجددة و2000 ميغاواط من تقنية التحليل الكهربائي.

وأكد كاتب الدولة المكلف بالانتقال الطاقي، وائل شوشان، أن أهم موقع في العالم لشركة "توتال إنرجيز" لتطوير الهيدروجين الأخضر سيكون في تونس. نظرا الى موقعها الاستراتيجي وقربها من سوق التصدير الأوروبي.

تونس ملتزمة تأمين نحو 117.2 مليار يورو من بنك الاستثمار الأوروبي، والبنك الدولي، والصندوق الأوروبي للتنمية المستدامة لإعادة الاعمار والتنمية

وبحسب مذكرة التفاهم ستحدد الدراسات الفنية موقع تركيز انتاج الهيدروجين الأخضر، ويتوقع أن يوفر هذا المشروع 430 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة. وتهدف المرحلة النهائية الى إنتاج مليون طن من الهيدروجين الأخضر سنويا وتركيز نحو 25 ألف ميغاواط من الطاقات المتجددة ونحو 10 آلاف ميغاواط من التحليل الكهربائي.

الهيدروجين عنوانا للديبلوماسية الأوروبية

يتطابق المشروع التونسي الأوروبي "حرفيا" مع مضامين الاستراتيجيا التونسية لإنتاج الهيدروجين الأخضر الصادرة عام 2023، التي حددت فيها الحكومة التونسية هدفا الوصول الى انتاج 8.2 ملايين طن في أفق عام 2050 توجه 6 ملايين منها الى التصدير الى أوروبا، ولا سيما عبر الأنابيب الى المانيا وإيطاليا والنمسا.

حددت الاستراتيجيا التونسية أهدافا مرحلية لتطوير الهيدروجين الأخضر وانتاجه، تنطلق بإنتاج 322 ألف طن سنة 2030 توجه 6.83 في المئة منها الى السوق المحلية فيما يتم تصدير 93.16 في المئة الى أوروبا حتى الوصول الى سقف 6.4 ملايين طن مع حلول عام 2050. وحسب الاستراتيجيا، ستكون تونس ملزمة تأمين نحو 117.2 مليار يورو من بنك الاستثمار الأوروبي والصندوق الأوروبي للتنمية المستدامة لإعادة الاعمار والتنمية ومجموعة البنك الدولي.

إقرأ أيضا: أنظمة الطاقة المستقبلية معقدة... وتحتاج إلى تعاون إقليمي

ستوجه هذه التمويلات، أو القروض، نحو تركيز محطات الطاقات المتجددة ومحطة تحلية مياه البحر وشراء وتركيب الانابيب المرتبطة بشبكات المياه والهيدروجين وتطوير البنية التحتية البحرية والموانئ لضمان جاهزيتها لتصدير الهيدروجين.

تتضمن الاستراتيجيا الأوروبية خطة لإنشاء شبكة أو 5 ممرات أو جسور لنقل الهيدروجين الأخضر الى أوروبا، تشكل العمود الفقري الأوروبي للتحول الى مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة

وخلال السنوات المنصرمة، صار الهيدروجين الأخضر عنوانا للديبلوماسية الأوروبية، وفي قلب التحولات الجارية في مجال الطاقة العالمي، وتونس لم تكن في منأى من هذا السياق، فهي ضمان الدول التي ارتكزت عليها ألمانيا صاحبة "ديبلوماسية الهيدروجين الأخضر".

"وادي الهيدروجين التونسي"

ووضع الاتحاد الأوروبي خططا ضمن استراتيجيته لتحول الطاقة، وصفت بالطموحة، وسيجهز بحلول عام 2030 ما لا يقل عن 40 غيغاوات من المحللات الكهربائية لإنتاج الهيدروجين الأخضر بالإضافة الى 40 غيغاوات أخرى في الدول المجاورة المصدرة لأوروبا، منها تونس.

إقرأ أيضا: الهيدروجين الأخضر... من المغرب وشمال أفريقيا إلى أوروبا 

وتتضمن الاستراتيجيا الأوروبية خطة لإنشاء شبكة أو 5 ممرات أو جسور لنقل الهيدروجين الأخضر الى أوروبا، سماها تقرير للوكالة الالمانية للإنماء (أحد أكبر المؤثرين في التحول الهيدروجيني بين دول الشمال والجنوب) بالعمود الفقري للخطة الأوروبية للتحول الى الطاقة المتجددة والنظيفة، ويتم من خلالها نقل الهيدروجين من دول المنشأ الى دول الاستغلال، وانضم الى هذه المبادرة 33 مشغل خطوط من 33 دولة.

Shutterstock

من هنا جاءت تسمية "وادي الهيدروجين التونسي" أو الجسر التونسي الذي يضعها في مصاف الجزائر وليبيا لتصدير الهيدروجين، عبر أنابيب الغاز بعد إعادة تكييفها من نقل الغاز السائل الى نقل الهيدروجين. وأشارت صحيفة "لوموند" الى الدور الالماني في مشاريع الهيدروجين الأخضر أو ما قالت انه ديبلوماسية المانيا، التي ركزت على دول شمال افريقيا، وكان المدخل في تونس مدهشا بالفعل، فقد ضخت المانيا 31 مليون يورو للدراسات عن المشاريع المخصصة، وتبنت خيار التصنيع الواسع النطاق للهيدروجين.

تعرضت شركة "توتال" الفرنسية إلى حملات غير مسبوقة، وصفتها جهات ديبلوماسية بأنها غير بريئة، تحدثت عن استغلال الثروات في تونس وطالبت بإلغاء الاتفاقات معها

ومن المنتظر أن تنشر في الفترة المقبلة الأطر التشريعية المنظمة لهذه العملية، وبحسب معلومات لـ"المجلة" ان النقاشات انطلقت من هذا الموضوع، ويرتقب أن تكون ساخنة سياسيا واقتصاديا، وأن تطرح الاسئلة المغيبة من الاستراتيجيا الوطنية وايضا من مذكرات التفاهم الموقعة.

وعرفت الشركات الفرنسية، حملات غير مسبوقة، وصفتها جهات ديبلوماسية بأنها غير بريئة، تحدثت عن استغلال الثروات في تونس وطالبت بإلغاء الاتفاقات معها.

font change

مقالات ذات صلة