الأدب حاضنا السياسة والتاريخ والفلسفة

الأدب حاضنا السياسة والتاريخ والفلسفة

ربما يصح القول إن الأدب، في كل عصر وفي كل مجتمع، هو الظاهرة الأكثر تمثيلا للثقافة، أكثر من السياسة أو التأريخ أو الفلسفة، لأن من شأنه أن يحتضن وجوه الثقافة وجوانبها على نحو أو آخَر، بما لا يتنافى مع طبيعته الفنية التي تميّز أشكاله ومضامينه.

تضْمُر الثقافة وتتراجع عندما تتحكم بها السياسة أو توجهها، أو بالأحرى عندما تسوسها. وهذا ما يحدث غالبا على أثر أحداث كبرى، أو في أثنائها.

ولكنّه -في حال حدوثه -إنما ينمّ عن ضعف أو هشاشة في الثقافة القائمة، التي تقَع تحت وطأة المواقف السياسية، وتجد نفسها ملتحقة بها. والأوْلى بالثقافة، لكي تكون لماحة وخلاقة وفعّالة، أن تؤثر في السياسة إذْ

تتأثر بها، أن تُمدّها بالحدوس والرؤى، فتقودها بدلا من أن تنقاد إليها. والأدب، من بين ميادين الثقافة، هو الميدان الأرحب والأنسب للاضطلاع

بمهمّة كهذه. وإذْ ينجح في القيام بها، إنما يفعل ذلك على نحو تلقائي وغير مباشر، أي دون تقصّد أو افتعال.

والمتأمل في الأدب العربي الحديث في خلال العقود الماضية يتبيّن له أن معظم هذا الأدب كان صدى لحركات سياسية أو فكرية.كان إما مواكبة لبعض هذه الحركات، وإما ردود فعل إزاء بعضها الآخَر. والحركات جميعها، سياسية كانت أو فكرية أو أدبية، لم تكن في معظمها إلا صدى لأحداث كبرى عصفت بالعالم العربي، أو لتحوّلات مهمة في مستوى العالم كلّه، وما كان لمجتمعاتنا العربية إلا أن تتلقى تأثيراتها القوية.

لم ينجُ من الأدب العربي إلا القليل، ذاك الذي قاوم الخضوع لشدة الأحداث، أو لاجتياح السياسات والأفكار

كم كان صعبا، ولا يزال، بالنسبة إلى الأدب العربي، أن يشقّ طريقه الإبداعي، وهو يعاني من تبعية لسياسات وأفكار هي الأخرى أصداء لأحداث أو تحولات، في القريب أو البعيد.

 لقد بذل الأدب العربي الحديث محاولات جادة لكي يكون المعبّر عن رؤى جديدة، وعن آمال في التغيير، وعن أحلام وتطلعات كبيرة. إلا أن الظروف والأحداث التي عاشتها منطقتنا العربية في العقود المنصرمة كانت في غاية القسوة والإرباك. وربما لسبب من ذلك ارتبكت مسيرة الأدب أو تعرقلت.

ولم ينجُ من الأدب العربي إلا القليل القليل، ذاك الذي قاوم - على نحْو أو آخَر- الخضوع لشدة الأحداث، أو لاجتياح السياسات والأفكار.

لكي نرى إلى مدى ارتباط الأدب بمجريات الأحداث، كي لا نقول إلى مدى تبعيّته لهذه الأحداث، يكفي أن نستعرض هذه التسميات التي شاعت  في مراحل سابقة: أدب النكسة، أدب الالتزام، شعراء المقاومة (الفلسطينية)، شعراء الجنوب (اللبناني)، روايات الحرب، روايات الواقع...الخ. وفي مراحل لاحقة كثُر الكلام على أدب واكب ثورة هنا، أو انتفاضة هناك، أو حدَثا كبيرا هنالك.

لا نريد القول إن الأدب يمكنه أن يحيا وينمو في معزل عما يجري في الواقع.

ونحن، في سياق كلامنا هذا، لا نُنكر على الثقافة بعامة أن تتأثر بالسياسة. إلا أننا لا نريد لها أن تكون مجرد تابعة لها. نريد للثقافة أن تتفاعل مع الواقع على نحو تبادليّ من التأثر والتأثير. والنص الأدبي الجيد هو في حد ذاته واقعة "أدبية"، أو حدَث "أدبيّ". فالنص الأدبي الجيد ليس تعليقا على حدَث، أو ردّ فعل إزاءه، وإنما هو حدَث قائم بذاته، له مواصفاته الخاصة إزاء مجريات الأحداث التي انطلق منها أو تأثر بها.  

الأدب يستوعب الحدَث لكي يتخطاه، ويتبنّى قضية معينة لكي يبتكرها. فالأدب الجيد لا يتكئ على القضايا، بل هو الذي يحملها. فينبغي ألا نفرّط بالنوعية في كتابة الأدب وفي نشره، مهما تكن الظروف أو الأحداث. والقضية التي نرمي إلى خدمتها في الأدب، إنما نخدمها بإنتاج أدب جيد، أي بنوعية أدبية وليس بكمية كبيرة من الكتابات التي تتوسّل الأدب أو تدّعيه. وبالكتابات الأدبية الجيدة لا نخدم القضية التي نتناولها فحسب، وإنما نعمل أيضا على تجديد هذه القضية وإعادة إنتاجها أو ابتكارها، أي نعمل  على إطلاقها في أفق إبداعي يعصمها من الجمود أو الترهل.

عملُ الأديب يختلف كثيرا عن عمل المؤرخ. فالأول ليس تسجيليا كالثاني. وإذا كانت الموضوعية في تناول الأحداث وتوثيقها هي الطابع الذي ينبغي أن يميّز عمل المؤرخ، فإن الذاتية هي الطابع الذي يميّز عمل الأديب. إذن، التأريخ هو كتابة التاريخ والتوقف عند أحداثه. أما الأدب فيذهب إلى ما هو أبعد وأعمق وأعلى من التاريخ وأحداثه. إنه يجري في مجرى التاريخ منتهكا ضفافه، أي غير ملتزم بأسباب ما يحدث ولا بنتائجه. بتعبير آخَر، يحتضن الأدب التاريخ ليطلقه في الفضاء الأوسع، يتخذ منه مادة ليجعله أُفُقا.

ولكن الأدب، الذي هو ذاتيٌّ بطبيعته، من شأنه أن يكون معبّرا عن تاريخ الجماعة ووجدانها وثقافتها على نحو تلقائي، أي دون أن يضع ذلك هدفا له.

فعلى سبيل المثل، لو أراد العرب أن يتعرفوا بتراثهم وتاريخهم ومعارفهم، قبل الإسلام أو بعده، هل يجدون في سبيل ذلك أفضل من الشعر؟ الجاهلي أو ما بعده. ألا يجدون في الشعر ما لا يجدونه في كتب التاريخ؟ تلك التي ظهرت في المرحلة العباسية، وكانت أقرب ما يكون إلى الكتابة الأدبية، وحرصت على استعمال الشعر والاقتباس منه في اعتماد الدقة في التوثيق وتدعيم الحجة. هكذا يكون الأدب في جانب منه تأريخا تلقائيا أو غير مباشر، وأصدق من التأريخ نفسه.

وكثيرا ما يساعد الأدب، عل نحو تلقائي أيضا، في توضيح مفهومي التاريخ والتأريخ. لنأخذ مثلين على ذلك، واحدا من القديم وواحدا من الحديث، الأول من الشعر والثاني من الرواية. يقول المتنبي:

ألا لا أُري الأحداث مدحا ولا ذمّا

فما بطشُها جهلا ولا كفُّها حِلْما

يصعب الفصل بين الأدب والفلسفة في الأعمال الراسخة في تاريخ كل منهما

لا يمدح الشاعر الأحداث التاريخية ولا يذمّها، وإنما يشير إلى منطق هذه الأحداث في حالتي البطش أو الكفّ، حالتي الجهل أو الحِلم. وهذا المنطق هو ما سعى المؤرخون قديما وحديثا إلى إثباته، ومنهم ابن خلدون في مقدمته.

وفي عصرنا، عبّرت روايات نجيب محفوظ عن نبض الحارة المصرية، مُظهرة الكثير من خصائص المجتمع وعاداته وخفاياه ونوازعه، ولو على نحو غير مباشر، أي على نحو ليس هادفا إلى التأريخ، بل يمرّ به ويتخطّاه.

عمل الأديب يختلف كثيرا عن عمل الفيلسوف. فالأول لا يبحث عن نظرية كما يفعل الثاني. الأول لا يشرح ويفسر كما يفعل الثاني. كذلك لا يعتمد  الأديب لغة "علمية" كاللغة التي ينبغي أن يعتمدها الفيلسوف، والمؤرخ أيضا.

واحتضان الأدب للفلسفة ليس خافيا، في اللغات والآداب على اختلافها،

ربما لأن التأمل في معاني الوجود وفي أبعاده، هو المنطلق في الأدب والفلسفة على السواء. هذا التأمل يقود إلى البحث والتدقيق في الفلسفة، ويقود إلى الانفعال والتصوير في الأدب، كما يقود إلى التخيّل في كليهما. لهذا، يصعب الفصل بين الأدب والفلسفة في الأعمال الراسخة في تاريخ كل منهما. فهل يمكن مثل هذا الفصل في الملاحم والأشعار والقصص القديمة؟ وهل يمكن ذلك في أعمال غوته وسرفانتس ودانتي وبودلير وهوغو ونيتشه وتولستوي وغيرهم؟

وفي الأدب العربي، ألم يكن البُعد الفلسفي ملازما للشعر منذ بداياته؟ فهل نقرأ المعلقات دون الانتباه إلى تصوير كلّ منها لمعنىً من معاني الوجود أو العيش في ذلك الحيّز الخاص والفريد من الطبيعة؟ وهل نقرأ الشعر في المراحل اللاحقة دون الانتباه إلى الرؤى الجديدة التي أنتجها التمازج بين حضارات وثقافات عديدة، خصوصا في المرحلة العباسية؟ أيمكننا الفصل بين الشعر والتأمل الفلسفي في قصائد أبي نواس وأبي العتاهية وأبي تمام والمتنبي... وبالأخص أبي العلاء المعرّي ؟ ألم تكتسب هذه القصائد وغيرُها أبعادَها الفلسفية تلقائيا من اتساع الرؤى والمزيد من الانفتاح وتمازج الأفكار؟

وفي العقود الأخيرة الماضية، خاض الأدب العربي غمار البحث والتبصر والاستشراف والتصور في ظل أوضاع ملتبسة وضاغطة. فعل ذلك في الشعر والرواية على وجه الخصوص. وقد تمخض هذا الخوض عن أعمال سعى الجيّد  منها إلى احتضان الوقائع والتأمل فيها بأشكال لا تفرّط بطبيعة الأدب وجمالياته.

واليوم، تخوض الثقافة العربية أصعب امتحاناتها. فالأحداث التي هبّت وتهبّ على العالم العربي تضع بلدانه أمام التحديات من كل نوع. والسياسات العربية باتت في وضع من التعقيد لم يسبق له مثيل. فهل يتسنى للأدب العربي أن يخوض هو الآخَر أصعب امتحاناته؟

font change