أربعة تفسيرات لـ"العلاقة الخاصة" بين أميركا وإسرائيل

زيارة نتنياهو لواشنطن وخطابه في الكونغرس

إدوادو رامون
إدوادو رامون

أربعة تفسيرات لـ"العلاقة الخاصة" بين أميركا وإسرائيل

شدّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الأربعاء أمام الكونغرس الأميركي المنقسم حيال الحرب في غزة، على أن "انتصار" إسرائيل سيكون أيضا انتصارا للولايات المتحدة، داعيا البلدين إلى "البقاء متّحدين" بعد تسعة أشهر على اندلاع النزاع الأخير مع حركة حماس.

وقال نتانياهو على وقع تصفيق حار في الكونغرس "لكي تنتصر قوى الحضارة يجب أن تبقى الولايات المتحدة وإسرائيل متحدتين". وأضاف "في الشرق الأوسط يواجه محور الإرهاب بقيادة إيران، أميركا وإسرائيل وأصدقاءنا العرب. هذا ليس صراع حضارات. إنه صراع بين الهمجية والحضارة".

وصفّق الجمهوريون وقوفا لنتانياهو عشرات المرات خلال الخطاب الذي قاطعه أكثر من 60 مشرعا ديموقراطيا بينهم رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي. ماخصوصية العلاقة بين واشنطن وتل أبيب؟ وما أسباب زيارة نتنياهو لواشنطن والكونغرس خلال حرب غزة والحملة الانتخابية الرئاسية؟

حيفا- تأتي زيارة نتنياهو إلى واشنطن، 22-24 يوليو/تموز 2024، التي تتضمن خطابه أمام الكونغرس الاربعاء قاؤه والرئيس جو بايدن الخميس والرئيس السابق دونالد ترمب يوم الجمعة، كحدث مركزي في سياق الحرب على غزة. وقد ازدادت محاولات تفسير العلاقة الأميركية- الإسرائيلية، بما يشمل الصراع مع الفلسطينيين، على خلفية استمرار الحرب في غزة وبداية خلافات بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية ورئيسها بنيامين نتنياهو شخصيا.

جرى التعبير الأوضح عن ذلك الخلاف بإدلاء كل من بايدن من جهة ونتنياهو من جهة أخرى، بتصريحات تضمنت نقدا حادا وواضحا للطرف الآخر. فقد أدلى بايدن قبل ثلاثة أشهر بتصريح مثير على خلفية الخلافات مع نتنياهو والحكومة الإسرائيلية حول الدخول إلى رفح وضرورة تفادي المس بالمدنيين الفلسطينيين هناك، كما في قضية اليوم التالي للحرب وانعدام رؤية إسرائيلية واضحة لذلك، حيث قال في مقابلة مع مجلة "التايم" الأميركية أواخر أبريل/نيسان 2024 إن هنالك "أسبابا للاعتقاد بأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يماطل في الحرب في غزة للبقاء في السلطة"، وأتى هذا التصريح بعد أسابيع من تصريح آخر على خلفية مقتل سبعة من موظفي "المطبخ المركزي العالمي" في استهداف إسرائيلي قال بايدن بشأنه إن سياسة نتنياهو هي "خطأ"، وحثه على الموافقة على وقف إطلاق النار في غزة.

في المقابل رد نتنياهو على مواقف بايدن من خلال تصريحات تشكك فيها وألمح إلى أن قرار تجميد وقف شحنات عسكرية إلى إسرائيل قد يمنع إمكان الانتصار على "حماس". حيث قال في تسجيل معد مسبقا نشر الثلاثاء 18 يونيو/حزيران 2024، على محطات التلفزة الإسرائيلية: "قلت إنني أقدر الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة لإسرائيل منذ بداية الحرب... لكنني قلت أيضا إنه من غير المعقول أن تقوم الإدارة في الأشهر القليلة الماضية بحجب الأسلحة والذخائر عن إسرائيل". وقد اعتبر بعض القيادات المركزية في البيت الأبيض أن نتنياهو يحاول بتصريحاته التدخل في المعركة الانتخابية في الولايات المتحدة لصالح دونالد ترمب ضد بايدن. وأتت هذه التصريحات متناسقة مع تواتر سابق لتصريحات لنتنياهو في الموضوع نفسه، حيث رد على تصريحات لبايدن عن أن "نتنياهو يضر بإسرائيل أكثر مما ينفعها" بقوله: "أنا لا أعرف ما الذي قصده الرئيس بايدن، لكنه مخطئ... سياستي مدعومة من قبل غالبية ساحقة من الإسرائيليين، فهم يؤيدون العملية العسكرية على كتائب حركة "حماس" المتبقية، وهم أيضا يؤيدون موقفي بضرورة معارضة محاولات إجبارنا على القبول بدولة إرهاب فلسطينية".

تحدي نتنياهو لمواقف بايدن وتصريحاته القوية ضد مواقف الإدارة الأميركية، ولو أن الخلافات طفيفة فعلا ولم ترق إلى درجة الصدام أو الاختلاف الكلي في المواقف، إلا أنها ومع ترافقها مع دعوة نتنياهو لزيارة واشنطن ولقاء بايدن وإلقاء خطاب أمام الكونغرس الأميركي، تفتح له الباب للتأثير المباشر على الأميركيين عموما، وخصوصا مع اقتراب الانتخابات الأميركية، بما قد يخدم فرص ترمب للفوز بالانتخابات. فإن كل ذلك يستدعي إعادة التفكير في تحليل “العلاقة الاستراتيجية الخاصة" للولايات المتحدة بإسرائيل، وموضعة تصريحات بايدن وتحدي نتنياهو في سياق ذلك الفهم، والذي قد يفتح المجال لفهم أفضل لمحدودية البناء على إمكانيات تغيير في الموقف الأميركي تجاه إسرائيل، وهو أمل (واهم) منتشر كثيرا بين المحتجين- في الولايات المتحدة وأوروبا- على سياسات الولايات المتحدة تجاه إسرائيل والصراع مع الفلسطينيين، وخصوصا في سياق الحرب على غزة مؤخرا، كما في أوساط عربية وفلسطينية وإسرائيلية تأمل في أن يفضي الخلاف إلى تعمق النقاش وربما يؤدي إلى تغييرات تؤدي إلى إزاحة نتنياهو وربما الذهاب إلى تسوية على أساس حل الدولتين.

وهنالك الكثير من المراجعات التي تعرض لـ"العلاقة الخاصة" أو الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل. عموما يمكن الإشارة إلى أربعة تفسيرات مركزية لـ "العلاقة الخاصة" بين إسرائيل والولايات المتحدة، أو بالأحرى في كيفية فهم الدعم الأميركي لإسرائيل ولسياساتها، والتي وصلت إلى مستوى غير مسبوق خلال الحرب في غزة.

التفسير الأول، هو ذلك الذي يقول إن الولايات المتحدة تعتبر إسرائيل "أداة وظيفية" تقوم بخدمة مصالح إمبريالية في الشرق الأوسط، وتمثل قاعدة متقدمة تسهل على الولايات المتحدة تنفيذ سياساتها في العالم العربي. والتفسيرات هنا ترجع إلى تطلعات أميركية بأن تكون إسرائيل قاعدة لتسيير المصالح الأميركية في ظل تصاعد التوتر مع الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، وبذلك فإن إقدام الرئيس هاري ترومان على الاعتراف بإسرائيل بعد إعلانها يأتي في سياق ذلك التسابق مع الاتحاد السوفياتي على النفوذ في المنطقة. ومع صعود الأنظمة العربية القومية في مصر وسوريا والعراق وميل بعض هذه الأنظمة لطلب الدعم من الاتحاد السوفياتي، وخصوصا مع سطوع نجم جمال عبد الناصر كرئيس مصري وأحد زعماء كتلة عدم الانحياز، ومع ازدياد اعتماد أوروبا على النفط العربي، فإن أهمية إسرائيل تضاعفت كأداة لضرب الأنظمة العربية المعارضة للنفوذ الأميركي.

دعوة نتنياهو لزيارة واشنطن ولقاء بايدن وإلقاء خطاب أمام الكونغرس الأميركي، تفتح له الباب للتأثير المباشر على الأميركيين عموما، وخصوصا مع اقترب الانتخابات الرئاسية

في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وتراجع مكانة روسيا، لا زالت إسرائيل بحسب هذا التحليل تضطلع بدور مهم لإضعاف العالم العربي وتقسيمه، وتناهض محاولات إضعاف النفوذ الأميركي في المنطقة، الأمر في الأساس له علاقة بصعود الصين كمتحد مركزي للنفوذ الأميركي وكمهدد لمكانة أميركا العالمية والوضع أحادي القطب الذي نشأ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وبالطبع مع تعاظم النفوذ الاقتصادي الصيني وتصاعد التوتر في بحر الصين بخصوص مستقبل تايوان، ومع تصاعد الجهود الصينية في أفريقيا وفي المنطقة العربية، وخصوصا محاولات التوفيق بين المملكة العربية السعودية وإيران. وطبعا مع تصاعد التحدي الإيراني للولايات المتحدة ولسياساتها، بما في ذلك توسيع نفوذها ودعمها لمنظمات مسلحة في المنطقة العربية (لبنان وفلسطين واليمن والعراق وسوريا... إلخ)، وعودة جزئية للنفوذ الروسي في سوريا ومناطق عربية أخرى. هذه التطورات عمقت ضرورة اعتماد الولايات المتحدة على حليف موثوق، وإسرائيل هي المرشحة الرئيسة في الشرق الأوسط لذلك الدور. وعمليا تشكل إسرائيل، حسب هذا التحليل، قاعدة أميركية متقدمة تمد القوات الأميركية المنتشرة في المنطقة بالسلاح والغذاء، كما أنها تقوم بمهمات عسكرية مهمة لترسيخ النفوذ الأميركي (في لبنان وفلسطين والعراق... إلخ)، بالإضافة إلى أنها تستطيع عرض نفسها كبديل لإيران في دعم الأنظمة العربية المؤيدة للولايات المتحدة، وهي فعلا تقوم بذلك بكفاءة وأثبتت نفسها في العلاقة مع دول عربية مركزية.

 ا ف ب
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعد إلقائه خطابه امام جلسة مشتركة للكونغرس الاميركي في 3 مارس 2015 في واشنطن

التفسير الثاني، معني بفكرة "المصالح المشتركة"، يقول عمليا إن ما ذكرناه أعلاه بشأن تفسير الدور الوظيفي هو صحيح لكنه ينبع ليس من دور وظيفي بحت، بل ينبع من مصالح مشتركة تجمع إسرائيل مع الولايات المتحدة، بحيث تقوم إسرائيل بتنفيذ سياسات تعبر عن لقاء مصالح مع الغرب، وليس بالضرورة من خلال تقديم خدمات للولايات المتحدة. فضرب نفوذ الاتحاد السوفياتي سابقا، وضرب الأنظمة العربية المناوئة للغرب واتباع سياسات ضد النفوذ الإيراني ومتابعة الفصائل والجماعات التي تحصل على دعم إيراني، كما المساهمة في تأمين خطوط المواصلات البرية والبحرية والجوية، كلها مصالح إسرائيلية تتعاون إسرائيل مع الولايات المتحدة وبالعكس، على تأمينها لكونها مصالح مشتركة، وليس من قبيل الدور الوظيفي فقط.
التفسير الثالث، مرتبط بقوة اللوبي الداعم لإسرائيل في الولايات المتحدة. ويركز هذا التفسير على أن اللوبي الداعم لإسرائيل له قوة استثنائية في مراكز اتخاذ القرار في الولايات المتحدة، وأن هذا اللوبي، الذي يشمل يهودا وغير يهود، يتمثل بشكل عيني في منظمة "الإيباك" إلا أنه يتعداها كثيرا ليشمل أفرادا ومجموعات تلتقي على دعم إسرائيل وأجندتها، في الولايات المتحدة وخارجها.

وقد كتب الكثير في هذا التفسير، إلا أن العمل الأكثر تأثيرا في شرح تأثير اللوبي المساند لإسرائيل هو كتاب جون ميرشهايمر من جامعة شيكاغو وستيفان والت من جامعة هارفارد "اللوبي الإسرائيلي والسياسات الخارجية للولايات المتحدة" والذي صدر عام 2007. ولأهمية الكتاب فقد ترجم لعدة لغات وكان موضوعا للكثير من المراجعات النقدية. وبحسب كتاب ميرشهايمر ووالت، فإن إسرائيل تحظى بدعم دبلوماسي ثابت من واشنطن، التي تقف دائما إلى جانب إسرائيل في النزاعات الإقليمية. لكن الأهم من ذلك أن هذه العناصر المختلفة من الدعم تُمنح لها دون شروط تقريبا. وبعبارة أخرى، تحظى إسرائيل بدعم أميركي حتى عندما تقوم بأشياء تعارضها الولايات المتحدة، مثل بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة. ونادرا ما تنتقد تصرفات إسرائيل من قِبَل المسؤولين الأميركيين، وبالتأكيد ليس من قِبَل أي شخص يطمح إلى تولي مناصب عليا. وأخيرا، فإن جوانب رئيسة من السياسة الخارجية الأميركية تُدار بهدف جعل إسرائيل أكثر أمنا. ومع ذلك فإن أسباب العلاقة الخاصة كانت موضوعا محرما داخل مجتمع السياسة الخارجية السائد، حتى بعد أن ألقت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 الضوء الساطع على موقف أميركا المضطرب في الشرق الأوسط. 
تفسير المكانة الخاصة لإسرائيل والعلاقة الاستراتيجية للولايات المتحدة معها يعود إلى قوة "اللوبي الإسرائيلي" أكثر من أي عامل آخر، هذا اللوبي هو عبارة عن مجموعة كبيرة من القوى والأفراد والمؤسسات على أنواعها، وكلها تعمل بحسب منطلقات وتفسيرات متعددة لخدمة ما تراه الدفع للحفاظ على مصالح إسرائيل واعتبارها أولوية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، إلى درجة لم تعد الولايات المتحدة تحاول التفكير أصلا في جدوى هذا الدعم أميركياً. 
وقد وصلت قوة هذا اللوبي إلى أبعاد تتعلق بتحديد سياسات الولايات المتحدة ومواقفها في قضايا أساسية تتصل بما يعتبره اللوبي ذا صلة بإسرائيل، وقد يكون في قضايا داخلية أو خارجية، بما في ذلك تحقيق تطلعات سياسيين للبقاء في مراكزهم أو اختيارهم لمناصب كمنتخبين أو كموظفين كبار في السلك العام بالولايات المتحدة. وفي هذا أكد مارشهايمر ووالت موقفهما من خلال الإشارة إلى نجاح اللوبي الداعم لإسرائيل مرات عديدة بما يكفي لتوضيح الأمر لمعظم الساسة بأنهم يخاطرون بحياتهم المهنية إذا ما اعتبروا مناهضين لإسرائيل.  
باختصار، يسيطر اللوبي المساند لإسرائيل على الكثيرين في أروقة القرار الأميركي، وخصوصا في قضايا مهمة لإسرائيل، وبذلك فإنه يمنع اتخاذ أية إجراءات عينية وجدية ضد السياسات الإسرائيلية، بما في ذلك في مسألة إنهاء الاحتلال وإزالة المستوطنات أو أية قضايا مفتاحية أخرى، إلى درجة أن ميرشهايمر ووالت اعتبرا أن قوة اللوبي الإسرائيلي أصبحت تسيء للولايات المتحدة أولا، وتضر بالمصالح الموضوعية لإسرائيل من ناحية أخرى.

يسيطر اللوبي المساند لإسرائيل على كثيرين في أروقة القرار الأميركي، وخصوصا في قضايا مهمة لإسرائيل، وبذلك فإنه يمنع اتخاذ أية إجراءات عينية وجدية ضد السياسات الإسرائيلية

التفسير الرابع للعلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل هو ما أسميه "التفسير الثقافي"، وهو تفسير يقول إن العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل وبالأساس التعامل الأميركي مع إسرائيل يرتبط بوجود واحدة أو أكثر من المركبات التالية، أو كلها معا...

أولا، وجود "قيم مشتركة بين البلدين" وعادة ما تتم الإشارة إلى الثقافة الديمقراطية والليبرالية واقتصاد السوق، وغيرها من القيم، كما تتم الإشارة إلى "التاريخ المشترك من المغامرة وتطوير البلدان المعدمة والمتخلفة بحيث تصبح صالحة ومفيدة للبشرية وتطورها"... الخ.

رويترز
متظاهرون قي تل ابيب مناهضون لنتنياهو يطالبون بالافراج عن الرهائن الاسرائيليين في غزة في 20 يوليو

ثانيا، العلاقة أو المركب اليهودي- المسيحي والمتصل بعلاقة خاصة إيجابية أو سلبية تترجم بدعم أعمى "مسيحاني" وليس له صلة بعلاقات القوة أو المصالح الحقيقية، وعادة تتم الإشارة إلى الكنيسة الإنغليكانية وتابعيها كأهم العناصر الداعمة لهذا المركب، كما لظاهرة المسيحيين الصهيونيين في الولايات المتحدة.

وثالثا، يتعلق الأمر في ثقافة استشراقية، معادية للعرب وللمسلمين في الثقافة الأميركية، وذلك له صلة بمركبات الاستشراق كما عددها إدوارد سعيد في كتابه المفصلي عن الاستشراق في الثقافة الغربية عموما والأميركية بشكل خاص.
هذا التفسير يرجعنا كذلك لاستعمال المصطلحات التوراتية "كالأرض الموعودة"، التي استعملها أوائل المستعمرين في أميركا، واستعمال مصطلحات توراتية ودينية للربط بين الحراك الاستعماري وتبريراته على أرض الواقع، وهي كذلك اللغة ذاتها في الحركة الاستعمارية لفلسطين من قبل آباء الحركة الصهيونية، التي بدأت في أوروبا وتشبعت من أفكار التمدد الاستعماري ونفذت سياسات وتبريرات مشابهة لتلك التي استعملها الاستعمار الأوروبي لتبرير وتفسير الحراك الاستعماري.
بالطبع يمكن القول إن كل هذه التفسيرات، وغيرها، قد تكون صحيحة للعلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وبالأساس لتعامل الولايات المتحدة والإدارة الأميركية ومراكز صنع القرار مع إسرائيل. بحيث إنه من المنطقي أن هنالك عوامل مركبة ومعقدة تساهم في صياغة موقف دولة، وخصوصا بحجم ومكانة الولايات المتحدة تجاه دولة أجنبية، بما في ذلك إسرائيل. فهنالك قطاعات ولاعبون مركزيون في صياغة السياسات قد يتأثرون بفكرة أهمية إسرائيل لدفع مصالح الولايات المتحدة والدفاع عنها في المنطقة العربية، وقد يقول البعض بوجود مصالح مشتركة ومهمة قد تدفع باتجاه إنتاج علاقة خاصة ووثيقة بشكل استثنائي، وقد يقبل البعض بتفسير قوة اللوبي الإسرائيلي، كما في تفسير العلاقة اليهودية المسيحية والمتفشية أساسا في الكنيسة الأنغليكانية وتابعيها، لكنها كذلك تحولت إلى ثقافة شعبية راسخة في الولايات المتحدة ويلعب دور في تعضيدها تفسير وجود قيم مشتركة أو عداء للعرب والمسلمين ورؤية إسرائيل كرأس حربة في مواجهة الشرق العربي والمسلم. 
لكن السؤال يبقى: ما هو العامل المركزي؟ أي العامل الذي يفسر إقدام الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن- مثلا- بالإعلان صراحة عن أنه رغم أنه "ليس يهوديا إلا أنه صهيوني"، أي إنه تبنى أو طور وعيا يتماثل به مع إسرائيل وأهدافها بغض النظر عن مدى ملاءمتها او مواءمتها للمصالح الأميركية، وبهذا فإنه يعبر عن التزام غير مشروط ليس بمصالح دولته وليس بتحقيق أية غايات، غير غاية دعم إسرائيل بشكل يمكن أن نطلق عليه أنه "أعمى" ولا يقبل أي نقد.

قد يختلف الرئيس الأميركي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي في نقطة عينية، لكن خلافه هذا لا يزيحه عن دعم إسرائيل، وبالتالي القبول بسياستها، حتى لو كانت مضرة بالمصالح الأميركية. هذا يبقينا في رأيي بالأساس مع التفسير الثقافي، والذي يستطيع أن يفسر عمق العلاقة وكونها خاصة واستراتيجية وعابرة للرؤساء وللقيادات المركزية في الولايات المتحدة، بحيث يمكن اعتبارها نقطة إجماع مركزية وعابرة للأشخاص ولانتماءاتهم الحزبية. هذا الاستنتاج لا يلغي التفسيرات الأخرى، وهي بالتأكيد مهمة، وتفسر بعض جوانب المشهد والعلاقة أو سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل والفلسطينيين والصراع، لكن العامل أو التفسير الثقافي هو الأقوى والأكثر تماسكا لفهم العلاقة "الاستراتيجية" والخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل.

المنظور الثقافي ينطبق كذلك على عموم تعامل الإدارات الأميركية مع الدول والمجتمعات العربية، ومهم أن يؤخذ بالحسبان في سياسات التقرب أو تحدي السياسات الأميركية في المنطقة العربية

البناء المتسرع على مظاهرات الاحتجاج في الولايات المتحدة ضد العلاقة المميزة مع إسرائيل أو على نقد متفرق في أروقة اتخاذ القرار في الولايات المتحدة في هذا السياق، والبناء على إمكانيات تغيير سياسات الولايات المتحدة بناء على ذلك أو حتى على تحليل جيوسياسي يقول إن مكانة إسرائيل بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة آخذه في الانحسار، وبذلك فإننا أمام تغيير ممكن في موقف الولايات المتحدة في مسألة دعم إسرائيل، لا تأخذ "التحليل الثقافي" كما يجب، وبذلك فإنها تخطئ في حساباتها.
 التحليل أعلاه له تداعيات أبعد من إسرائيل/فلسطين، وأعني أنه ينسحب كذلك على علاقات الولايات المتحدة بالعالمين العربي والإسلامي، بحيث إن المنظور الثقافي ينطبق كذلك على عموم تعامل الإدارات الأميركية مع الدول والمجتمعات العربية، ومهم أن يؤخذ بالحسبان في سياسات التقرب أو تحدي السياسات الأميركية في المنطقة العربية.

font change

مقالات ذات صلة