المعادلات الجهنمية للحرب في المنطقة

حسابات الكلفة والجدوى تستثني المدنيين الفلسطينيين

أ ف ب
أ ف ب
رجل يلتقط صورا لنيران مشتعلة في صهاريج تخزين النفط بعد يوم من الغارات الإسرائيلية على ميناء الحديدة اليمني،21 يوليو

المعادلات الجهنمية للحرب في المنطقة

أصبح من الواضح أنه كلما طالت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ازدادت احتمالات توسع الصراع وتحوله إلى حرب إقليمية. وفي الواقع فإن الحرب تتوسع تدريجيا، ولعلّ الحديث لم يعد عن توسع الحرب وإنما عن شكل هذا التوسع ومداه، باعتبار أن التوسعة أصبحت واقعا، وآخر الدلائل على ذلك هو المسيّرة "الحوثية" على تل أبيب ورد إسرائيل بقصف ميناء الحديدة، وهو ما اعتبرته القيادات العسكرية الإسرائيلية "تطورا نوعيا يشكل انعطافة في الحرب".

واللافت أنّ الميليشيات الموالية لإيران بدأت، وعلى نحو أوضح من السابق، تتقصد إظهار التنسيق بينها والتأكيد عليه سياسيا وإعلاميا، وهو ما بدا جليا بعد الخطاب الأخير للأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله والذي لاقاه زعيم "أنصار الله" عبد الملك الحوثي في مفرداته وعناوينه، وذلك قبل إطلاق المسيرة على إسرائيل يوم الجمعة والذي تزامن مع استهداف "حزب الله" مستوطنات جديدة في شمال إسرائيل.

بالتالي فإنه لا يمكن إسقاط الرابط بين قصف الجيش الإسرائيلي للحديدة السبت وقصفه في الوقت عينه مخازن للأسحلة تابعة لـ"حزب الله" في جنوب لبنان، وذلك في ردّ إسرائيلي على منحى قوى "محور إيران" لإظهار التنسيق بينها، وهو ما أشار إليه الإعلام الإسرائيلي. بيد أنّ هذا التنسيق لا يعني في الواقع إلا إقحام "الحوثيين" أكثر في أتون الصراع وتحملهم كلفته العالية، وذلك نتيجة حسابات الكلفة والجدوى في المركز الإيراني وفي دوائر "حزب الله". وهي حسابات تقوم ليس على اختيار الأهداف الإسرائيلية في إطار التصعيد المتبادل وحسب بل أيضا الجهة التي تقصف هذه الأهداف على قاعدة أن كلفة الرد الإسرائيلي عليها وأذيتها هي أقل من كلفة الرد على "حزب الله" الذراع الرئيسة في إمبراطورية الميليشيات الموالية لإيران.

وهذا يفتح على قراءة الدينامية الداخلية في "محور إيران" خلال هذه الحرب من باب السؤال عن أسباب استهداف "الحوثيين" لتل أبيب وليس "حزب الله" رغم تهديده ووعيده بتعميق قصفه في الداخل الإسرائيلي، ورغم أنه هو وليس "الحوثيون" من ينخرط في مواجهة مباشرة مع الجيش الإسرائيلي، وهي المواجهة الثانية في ترتيب الجبهات المفتوحة في المنطقة. وهنا أيضا يمكن الإشارة إلى المساعي الدعائية لـ"محور إيران" لتضخيم قدرات "الحوثيين" وكفاءاتهم العسكرية وهو ما يبدو أنه يغري "أنصار الله" قبل أن يخيف إسرائيل، لدرجة أن عبد الملك الحوثي بدأ يفاخر بـ"المواجهة المباشرة مع إسرائيل" للدلالة على مدى انخراطه في الصراع، وهذا يرتبط بحسابات التعبئة الحوثية في اليمن إلى جانب الحسابات الإقليمية لـ"محور إيران". وهنا يمكن أيضا فتح هلالين للإشارة إلى نوع من "الطبقية" في الدينامية الداخلية لـ"محور إيران"، باعتبار أن "التضحية" بـ"الحوثيين" تنطوي على اعتبار ضمني بأنهم "أهل للتضحية" أكثر من سواهم عندما ينوي هذا المحور تصعيد رسائله ضد إسرائيل كما حصل في قصف تل أبيب الجمعة، هذا مع الإشارة إلى السؤال المطروح عما إذا كانت المسيّرة التي تبنى "الحوثيون" إطلاقها قد انطلقت فعلا من اليمن؟!

هذه واحدة من المعادلات الجهنمية للحرب في المنطقة والتي لا يمكن قراءتها خارج صلاتها المتينة بماضي صراعات المنطقة ومستقبلها وفي مدى أقرب خارج التحوّلات الفلسطينية والإسرائيلية وعلى مستوى المشهد السياسي الأميركي، ولاسيما بعد تنحّي الرئيس جو بايدن عن الترشح لولاية ثانية مع ما لذلك من تأثير على مستقبل الحرب، وذلك بالنظر إلى أن المقترح الوحيد الموضوع على الطاولة لوقف إطلاق النار هو مقترح الرئيس الديموقراطي. ولذلك فإن هذا التطوّر الأميركي أصبح بلا أدنى شك جزءا رئيسا في حسابات الأطراف المتقاتلة والتي يفترض قراءتها على أنها تُبنى على قاعدة استمرار الحرب وتوسعها بوتائر مختلفة.

"حماس" يفترض أن تكون معنية أكثر من أي كان، سواء إسرائيل أو أي قوة إقليمية منخرطة في الصراع، بوقف الحرب ولو استدعى ذلك تنازلات أكبر منها ليس أمام إسرائيل وإنما أمام الفلسطينيين

فلسطينيا هناك سؤال رئيس يوجه إلى "حماس" في اللحظة الراهنة بعد مرور تسعة أشهر على الحرب الأكثر دموية على قطاع غزة. في الواقع إن صراع "حماس" مع إسرائيل لم يلغ صراعها مع السلطة الفلسطينية، ولا ريب في أن هذا الأمر يشكك راهنا في "حماس" أكثر مما يشكك في السلطة الفلسطينية، وإن كان يمكن تاريخيا ومن حيث المبدأ، تحميل الطرفين مسؤولية هذا الصراع وإن بتفاوت مقدار هذه المسؤولية. فـ"حماس" في اللحظة الراهنة هي من يتحمّل مسؤولية استمرار الانقسام الفلسطيني باعتبار أنها الجهة الفلسطينية الرئيسة التي تخوض الصراع في قطاع غزة. 
هنا لا بدّ من العودة إلى بداية الحرب، إي إلى هجوم "حماس" على "غلاف غزة" في السابع من أكتوبر الماضي. فالسؤال عن أهداف ومبررات وحسابات "حماس" لشن هذا الهجوم الذي استدعى شن إسرائيل حربا جهنمية على قطاع غزة، لا يزال مطروحا بقوة خصوصا عندما ينظر إلى الانقسام الفلسطيني وإلى التصرف السياسي لـ"حماس" خلال الحرب سواء بالنسبة للتفاوض مع إسرائيل، أو في علاقتها مع السلطة الفلسطينية، وفي الأمرين تطرح مسألة "اليوم التالي" وحضور "حماس" فيه. هنا لا يمكن تفسير هدف "حماس" للبقاء في "اليوم التالي" على أنه مكسب ضدّ إسرائيل وحسب، بل أيضا على أنه مكسب ضدّ السلطة الفلسطينية في وقت أنّ التكلفة البشرية لهذا الهدف "الحمساوي" لا تزال ترتفع حتى بلغت نحو 40 ألف ضحية فلسطينية من جراء العدوانية الإسرائيلية المتواصلة والتي تهدف إلى تحقيق مكاسب بعيدة المدى ضدّ الفلسطينيين بمجموعهم لا ضدّ "حماس" أو السلطة وحسب.

رويترز
مركبات عسكرية إسرائيلية تتحرك داخل قطاع غزة، 21 يوليو

وإذا كانت إسرائيل مسؤولة واقعا عن هذا الشلال من الدماء الفلسطينية فإن المسؤولية السياسية والأخلاقية لـ"حماس" تجاه قضية الفلسطينيين تقتضي إيجاد مخارج سياسية لوقف الحرب، أي أن يكون هدفها في المفاوضات بقاء الفلسطينيين بالمعنى السياسي لا بقاؤها هي، فضلا عن حفظ أرواحهم. وليس المقصود أن تحلّ نفسها وأن تختفي وهذا غير وارد في واقع الحال، ولكن محاسبتها السياسية والأخلاقية مرتبطة بكلفة بقائها في "اليوم التالي" ناهيك بدوافعها لشن هجوم السابع من أكتوبر وعدم تقدير تبعاته على الغزيين، وهذا نقاش وإن كان مؤجلا لانتهاء الحرب فإنه لا يمكن في مطلق الأحوال إغفال التكلفة البشرية الهائلة للحرب من أرواح الفلسطينيين وكأنها مسألة عابرة ويمكن تجاوزها.
هذا لا يعني افتراض أن "حماس" هي المسؤولة عن عرقلة المفاوضات وأن إسرائيل تستميت لوقف إطلاق النار. المسألة ليست على هذا النحو إطلاقا، لكن المقصود أن "حماس" يفترض أن تكون معنية أكثر من أي كان، سواء إسرائيل أو أي قوة إقليمية منخرطة في الصراع، بوقف الحرب ولو استدعى ذلك تنازلات أكبر منها ليس أمام إسرائيل وإنما أمام الفلسطينيين، من خلال فتح الطريق لإلغاء الانقسام الفلسطيني وتوحيد الرؤية السياسية الفلسطينية بما يمكن الفلسطينيين من دعم قضيتهم إقليميا ودوليا. وهذه نقطة مركزية في الصراع الآن باعتبار أن الهدف الفلسطيني يفترض أن يكون راهنا توفير ضمانات دولية لحماية الشعب الفلسطيني وتثبيت حقوقه في وجه عدوانية إسرائيل والتي لا يبدو أنها مستعدة لإجراء أي مراجعة من دون ضعط دولي حقيقي وفعال، هذا إذا كان لا يزال ممكنا توفير مثل هذه الضمانات في المدى المنظور، لكن لا أفق سياسيا أمام الفلسطينيين بغير ذلك رغم صعوبته في ظل موازين القوى الحالية إقليميا ودوليا. 

الحديث من قبل "محور إيران" عن قرب زوال إسرائيل يتزامن مع إثبات إسرائيل قدرتها المتواصلة ولأمد غير منظور على استخدام أكبر قدر من القوة والعنف لتأكيد بقائها وبدعم من أقوى دولة في العالم

لكن في مطلق الأحوال فإن "حماس" مطالبة بإجراء تحوّل في مقاربتها للموضوع الفلسطيني، حتى إن أي تنازل لها أمام إسرائيل ولو أدى إلى وقف الحرب فهو يعني أنها تهدف إلى إبرام صفقة مع إسرائيل على غرار الصفقات السابقة لضمان بقائها في "اليوم التالي"، إلا إذا اقترن هذا التنازل بتنازل على الساحة الفلسطينية أو بقراءة جديدة للوقائع الفلسطينية. وهذا هو المحك الذي يقاس عليه استعداد "حماس" للتحوّل إلى حركة وطنية فلسطينية بكل معنى الكلمة. لكن ليس هناك مؤشرات وافية حتى الآن في هذا الاتجاه إلا إذا كان "إعلان بكين" بين الفصائل الفلسطينية الإثنين خطوة  إلى الأمام على الساحة الفلسطينية بيد أنّ كل تجارب المصالحة السابقة بين "فتح" و"حماس" لا تشجّع كثيرا على التفاؤل بنجاح التجربة الحالية، مع فارق أن الصين ستكون معنية هذه المرة بنجاح الاتفاق لأنه امتحان لديبلوماسيتها. وهذه أيضا من المعادلات الجهنمية للحرب في المنطقة، خصوصا أن العقل الإسرائيلي الراهن لا يقبل لا بـ"حماس" ولا بالسطة في غزة ما بعد الحرب.

أ ف ب
دخان يتصاعد بعد سقوط صاروخ تم إطلاقه من جنوب لبنان على منطقة الجليل الأعلى في شمال إسرائيل، 21 يوليو

أما إسرائيل فقد أصبحت أسيرة التطرف وبالتالي أصبحت أخطر على نفسها والمنطقة، حتى إن كلّ الأسباب الوجودية التي تعطيها للحرب الراهنة ليست في واقع الحال سوى ترجمة للاندفاعات المتطرفة في مجالها السياسي والاجتماعي، وهو ما يفسر نظرة إسرائيل إلى نفسها على أنها في "حرب دائمة". لكنها هي دفعت نفسها بنفسها إلى هذا الواقع برفضها مبدأ التسوية ولاسيما بعد "اتفاق أوسلو". لقد أظهرت تل أبيب بتدميرها هذا الاتفاق أنها غير مستعدة إلا لاستخدام منطق القوة ضدّ الفلسطينيين وأن منطق التسوية ليس سوى محطة عابرة في طريق سحق الحقوق الفلسطينية وعلى رأسها الدولة مكتملة السيادة. وهذه النزعة الإسرائيلية أرفدت إيران ووكلاءها بروافد دعائية وسياسية هائلة، إذ صوروا أنفسهم ومنذ اللحظة الأولى كبدلاء لمؤيدي التسوية من الفلسطينيين والعرب وكخيار وحيد في مواجعة العدوانية الإسرائيلية، ولكنهم في الوقت نفسه استفادوا من هذه الدعاية السياسية لتنفيذ أجندة توسعية في المنطقة دمرت دولها ومحقت مجتمعاتها، بما يعود لألف سبب وسبب بفوائد على إسرائيل وإن زنروها بـ"حلقة من النار"... وهل من معادلة جهنمية أكثر من ذلك؟
نقطة أخيرة، وهي أن كلّ الحديث من قبل "محور إيران" عن قرب زوال إسرائيل يدفع ثمنه الفلسطينيون أولا وأخيرا، لأنهم هم من يخوضون الصراع مع إسرائيل بالدرجة الأولى وهم من يتحملون نتائجه في أرواحهم وممتلكاتهم، ولذلك هم بحاجة إلى وعي قائم على قراءة دقيقة وصادقة لحقائق هذا الصراع وليس على أوهام ودعاية سياسية سخيفة، خصوصا أن الحديث عن قرب زوال إسرائيل يتزامن مع إثبات إسرائيل قدرتها المتواصلة ولأمد غير منظور على استخدام أكبر قدر من القوة والعنف لتأكيد بقائها وبدعم من أقوى دولة في العالم، أقله حتى الآن... وهذه أخطر معادلات الحرب في المنطقة.

font change

مقالات ذات صلة